كيف أصبحت قصصنا عصيّة على السرد؟
نور موسى
طالبة فلسطينية سورية في دراسات التنمية العالمية في جامعة ويسترن أونتاريو.
هل شعرت يوماً أن كل ما تحتاجه هو أن تصمت مع نفسك؟ هذا كان كل ما أردته خلال رحلتي للهروب من سوريا إلى لبنان ثم إلى كندا. اعتقدتُ أن كل ما أردته هو مكان هادئ لتخليص روحي من الخسارة والرعب اللذين شهدتُهما. شعرتُ أن كل ما أحتاجه هو تحويل نفسي من وضع البقاء على قيد الحياة إلى العيش في كل لحظة بتفاصيلها واغتنام كل فرصة صغيرة للشعور بالطمأنينة. لم تكن هذه الصورة المشرقة لأنني مفرطة التفائل، بل لأنني، مثل العديد من الأشخاص الذين هربوا من الرعب، كنت بحاجة إلى وضع آمال كبيرة على المحطة القادمة من حياتي.
كنت محظوظة كفاية واستطعت الوصول إلى المحطة التالية، و التي كانت كندا. المكان الذي بدا غاية في الهدوء بالنسبة لي. أُتيحت لي الفرصة أخيراً لأكون في سكينة مع نفسي، ووجدت أن الضجيج لم يكن حولي، وإنما كان في ذهني. وجدت نفسي محاصرة بالذاكرة، الذاكرة التي هي أكثر رعباً من أعنف الكوابيس. هذا المكان الجديد هادئ جداً. لن يزعجك أحد هنا في كندا، ولكن لن يعانقك أحد أيضاً. تركت الأيام تمر دون أن أنتبه. وطريقي الذي ظننت أنه سيكون واعداً بدا موحشاً فجأة. حين وصلت إلى هذه المرحلة، قررتُ أن أطلب المساعدة، وبدأت في رحلة البحث عن معالج نفسي.
رغم أنني كنت قد بدأت بجلسات علاج قبل مجيئي إلى كندا، إلا أنني قررت البدء بالعلاج من جديد في كندا. طلبُ المساعدة من شخص في ترتيب الفوضى في روحك يتطلب الكثير من الشجاعة. أخذ الخطوة الأولى لفتح جرحك للغرباء وبناء الثقة معهم ليمنحوك مكاناً آمناً يمثل تحدياً. يمكن للوجع أن يجعل الناس غرباء، ويمكن للصدمات أن تجعلنا نشعر بالعزلة بشكل لا يصدق. بأن قصتنا عصية على السرد، وبأنه من الصعب على الآخرين سماعها، ما يجعل وجعنا أقسى وأصعب.
ذهبتُ إلى معالجة في نهاية صيفي الأول لي في كندا. كنت محاصرةً بالشعور بالوحدة و عقدة النجاة، وكنت أكافح أيضاً لكي أحقق النجاح في دراستي الجامعية. عندما ذهبتُ إلى العلاج لأول مرة، سألوني عما إذا كانوا بحاجة إلى الإحاطة بشيء ما قبل الجلسة. كتبتُ: “الاختفاء القسري والمعتقلون السياسيون في سوريا”. خلال الجلسة، سردت قصة عائلتي، والحرب، والاختفاء القسري، والخسارات، والتهجير. قبل مغادرتي العيادة رأيت دموعاً تترقرق في عيني المُعالجة. قدّرتُ تعاطفها وحساسيتها، ولكنني شعرتُ أن قصتي، بسبب قساوتها وثقلها، كانت عصية على السمع، لدرجة أنني لا أستطيع حكايتها حتى في العيادة. خلقت هذه التجربة القصيرة حاجزاً إضافياً بالنسبة لي لقبول ألمي، ووجدتُ أن أفضل طريقة للبقاء هنا هي أن أُخفي هذا الألم.
إخفاء الألم ليس فكرة سديدةً أيضاً، هو ليس شيئاً صحياً على الإطلاق، هذا ما تُخبرنا به حملات التوعية بالصحة النفسية. لطالما قرأت عن أهمية أن نعبر عن أنفسنا. لكن المشكلة هي أنني حين أحاول التعبير عن نفسي، فإن الفيل الذي يرقد في رأسي سيخرج. لذلك، عدت إلى حالة محاولة البقاء على قيد الحياة، و حاولت أن أصنع لنفسي لحظات من الفرح لكي أقوى على الاستمرار، وتجنبتُ مواجهة حمل ذاكرتي. رغم هذا، ما زلت أعتقد أن العلاج والتعبير عن المشاعر والشفاء هي أمور في غاية الأهمية، لكن يمكنني أن أعتمد على نفسي في هذه الرحلة. إنها عملية صعبة، وأحتاج إلى العثور على شخص يفهم مدى تعقيد قصتي. ما زلت أشعر أننا، نحن الذين هربنا جحيم أوطاننا، نستحق المساعدة. ولكن علينا أن نساعد أنفسنا أولاً.
إحدى النصائح التي سمعتُها في جلسة التوجيه قبل مجيئي إلى كندا كانت ألا نتوقع الحصول على مساعدة إذا لم نطلبها. فكرت أن الأمر منطقي حينها، فلن يعرف الناس أنني أحتاج إلى المساعدة إذا لم أطلبها. لكنني لاحقاً أدركت أن هذا النصيحة كانت تعكس هيمنة الفردانية في كندا. خصوصاً أن طلب المساعدة فيما يتعلق بالصحة النفسية، سواء من شخص مختص أو غير مختص، ليس بالمهمة البسيطة على اللاجئين أو على من يُطلق عليهم اسم القادمين الجدد. فهؤلاء لم تُتح لهم الفرصة لبناء دائرة دعم اجتماعي من العائلة والأصدقاء بعد، وقد لا يتقن بعضهم لغة المكان للخوض في حديث اختصاصي.
تميل خدمات الصحة العقلية إلى التركيز على الاستجابة الفردية، بينما تتجنب الغوص في العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تدفع الناس إلى فقدان السيطرة على حياتهم. هذه المنهجية قاسية على الأشخاص الذين يعانون من الهشاشة. المشكلة الأكبر من تجاوز الوصمة الاجتماعية و الحاجز الداخلي تكمن في أنه حتى عندما يحاول الكثير منا طلب المساعدة، لا يمكننا العثور على المساعدة المناسبة لنا. على سبيل المثال، عُرض على بعض أصدقائي الأدوية بعد الجلسة الأولى العلاج، بينما غادر البعض الآخر بتوصيات لكتب عن القلق واليقظة وتطبيقات التأمل. تمت إحالة البعض للعثور على مجتمع عربي أو مسلم بناءً على افتراض مسبق من المعالج، حتى قبل معرفة علاقة الشخص بمجتمعه أو معتقداته الدينية. تميل معظم خدمات الصحة النفسية المتاحة والمجانية والرخيصة، على الأقل تلك التي اطلعت عليها، إلى المبالغة في تبسيط همومنا الجماعية واختلافاتنا الفردية. ليس هناك محاولة لتكوين فهم عميق لتجاربنا. فهي لا تشرك الأشخاص المتضررين في تحديد أدوات وأساليب جديدة تلائم احتياجاتهم للتعافي.
الشعور بأنني غريبة و منعزلة جعل من الصعب علي طلب المساعدة مرة أخرى. أصبح شرح قصتي العنيفة أكثر صعوبة في هذا المكان المسالم. يبدو هذا المكان مفرطاً بالهدوء بالنسبة لنا، نحن الذين عشنا سنوات في مواجهة الموت وكأنه حدث عادي في حياتنا اليومية. التخلص من صدماتنا العابرة للأجيال، والصدمات و الخسارات التي اختبرناها بأنفسنا منذ وقت ليس ببعيد والبؤس التي ما زالت تعيشه أوطاننا، يتطلب الكثير من الجهد. مهما كانت المسافة التي تفصلنا عن بلادنا، البؤس سيتبعنا دائماً. ليس لأننا غارقون في الحنين، ولكن لأننا لم نتمكن من إنقاذ الناس والأماكن التي تركناها خلفنا.
نريد أن نكون جزءاً من هذا المكان الجديد، لكن لا يمكننا فصل أنفسنا عن هويتنا والتجارب التي قادتنا إلى هنا. عبارات من قبيل “انس همومك” أو “سعادتك هي اختيارك” هي خالية من المعنى. إذ أننا لا نستطيع نسيان حاجتنا إلى تحقيق العدالة لأنفسنا وأهلنا. إضافة إلى ذلك، فهناك في هذه البلاد تطبيع وتسطيح لآلامنا وخساراتنا. كثيرون سيصعقوننا بتعلقيات من قبيل أن “الناس في الشرق الأوسط يتقاتلون منذ فجر التاريخ”، دون محاولة فهم السياق الذي أتينا منه لأنه “معقّد للغاية”.
يحاول الكنديون دائماً تصوير أنفسهم على أنهم أمة متعددة الثقافات. إلا أن الثقافة السائدة للمستعمرين، الخالية من الحساسية الكافية أو الرغبة في الاطلاع، تهيمن على قطاع الصحة النفسية والعقلية. هنالك بروز لخطاب إنهاء الاستعمار في مجال الصحة العقلية والعلاج بين السكان الأصليين و مجتمعات السود و أصحاب البشرة الملونة. تهدف هذه الفكرة إلى تضمين أنظمة القمع والعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية كجزء أساسي من معالجة تحديات الصحة النفسية. بالإضافة إلى ذلك، هذا الخطاب يدعو إلى استكشاف ممارسات متنوعة للشفاء في مختلف الثقافات والأعراق. قد نحتاج كلاجئين ومواطنين جدد إلى الاستفادة من تجارب المجتمعات التي تشبهنا في هذه البلاد الجديدة والتعاون معها، فنحن بحاجة لإيجاد مساحة للتحدث والتفكير حتى نتمكن من إيجاد أدواتنا المناسبة للتعافي.