عراة على الخشبة 

حين يفكك الجسد عقدة العلاقة مع الجمهور


نبيل محمد

صحفي وناقد سوري، عمل مراسلاً ومحرراً وناقداً في عدد من وسائل الإعلام العربية. مقيم في كندا منذ 2022. صدرت له رواية “دورة أغرار”  سنة 2020 في إيطاليا. 



اختتمت قبل أيام في مونتريال فعاليات مهرجان ترانس أميريك وهو واحد من أكثر مهرجانات المسرح والرقص تنوّعاً وحداثة في أميركا الشماليّة. يفتح المهرجان مسارح متعددة الأشكال والاستخدامات في مونتريال لفرق حديثة من بلدان مختلفة من العالم تجرّب أدوات مختلفة تجمع بينها الحداثة وكسر الأنماط. يركّز المهرجان بوضوح على الجسد كمؤسس للغة العرض وقائد لجميع العناصر الأخرى، وينقل تجارب مختلفة من العالم موضوع  أغلبها الأساسي هو الجسد. 20 عرضاً بين عروض راقصة بحتة، وأخرى تدمج اللغات المنطوقة بالرقص. يجمع بين كثير منها أن أجساد المؤدّين تدخل العرض بثياب عاديّة غير موحّدة، وتخرج عارية. وما تقوله تلك الأجساد خلال رحلة غالبيّة العروض مختلف المعاني والدلالات والرسائل. هناك أجساد تنشد الرغبة فقط، وأخرى تنشد الحرية من النمط، غيرها الانعتاق من التمييز. 


في عرض بطاقة سوداء اسمها الرغبة من فرنسا تستهل ثماني فتيات سوداوات البشرة خلال ساعتين و40 دقيقة جملة ما تنتجه البشرة السوداء من نمطيّات وأسئلة واضطرابات هويّة أيضاً. تفخرن بلونهنّ تارةً وتحاولن غسله عن جلودهن تارةً أخرى، برغوة صابون استحمام تتدفّق فوق بشرة سوداء عارية. تمنح الإضاءة البيضاء فوق أسطح المسرح البيضاء أيضاً في عين المشاهد أقصى تناقض لوني يمكن أن يُرى. تستخدم الفتيات أجسادهنّ لسرد كل ما يتعلّق بالبشرة السوداء، تهاجمن الجمهور هنا وتتقربن منه هناك، تأخذن كل المحافظ من أصحابها بفوضى صادمة تمثّل ذروة في العرض. حيث تورّط الجمهور بشكل مباشر في الإجابة عن الأسئلة، تطلب منه التفاعل، وتعاقبه بطريقة ما.

انتقى العرض الأجساد بدقّة ليرسم خريطة متكاملة عنوانها الجسد الأنثوي الأسود. وكأن كل نماذج أجساد النساء لها من يمثّلها على المسرح. هناك البدانة المفرطة وهناك الأجسام المعتدلة، هناك الأعضاء البارزة، وهناك الجسد النحيل. الشعور طويلة مطلقة هنا ومجعّدة هناك، وثمة منْ جدائل شعرها تصل إلى سقف المسرح حيث تلزم جسدها طوال العرض بالتزام في أماكن محددة لا يمكنها الخروج عنها.


في عرض آخر  بعنوان التجوية من الولايات المتّحدة، يحكي مربّع صغير متحرّك أبيض قصة الطبيعة والحياة، بلغة عشرة أجساد محاصرة بمربّع صغير، عليها أن تندمج ببعضها ليتيح لها المكان ألا تسقط خارج الخريطة الضيّقة المتبقّية للحياة. تبدأ جامدة غير قادة على الحركة بألبسة الحياة اليوميّة المختلفة وبألوان وأجساد مختلفة المقاسات أيضاً، وتنتهي بفوضى عارمة وعري ودوران سريع للأرض. فوضى مريعة تثير خوف الجمهور من تناثر الأشياء أو حتى الأجساد. عمل متقن في توظيف السكون التام والحركة فائقة السرعة، الملابس والعري، الحب والكره، في خلق متعة لم تحتج إلى كلمة واحدة. مستوى العلاقة مع الجمهور ينتقل من النمطيّة الباردة التي تطلّبت من الكادر الفنّي أن يرش الجمهور برذاذ المياه ليخفف من تعرّقه خلال النظر إلى أجساد على شكل تماثيل مستمرّة بالتجمّد لمدة فاقت 15 دقيقة، وصولاً إلى علاقة ساخنة معه بأجساد متعرّقة عارية كلياً أو جزئياً تتنقل بين الجمهور وتجلس في أحضانه. 


بشكل مشابه إنما وفي مساحة كبيرة مفتوحة وسط مونتريال، كان 100 مؤدٍّ أغلبهم من غير المحترفين، تقودهم الأورغوانية تمارا كوباس، يتحّكون على  وقع موسيقى إيقاعيّة. تختبر حركاتهم كل ما يختبره الإنسان من سلوكيات ومشاعر بشكل متتابع، منظّم تارةً وعشوائي تارةً أخرى. ركضٌ ومشيٌ ورقصٌ وولادةٌ وموتٌ وجنسٌ وكرهٌ وحبٌ وسعادةٌ وحزن. لا شيء يعبّر عن كل هذا إلا الأجساد والحركة. الأجساد الحرة بملابسها وطرق تعبيرها، وحرة أيضاً بأن تتعرّى في شارع مفتوح تحت مطر صادف أن منح العرض تحدياً لا في الأداء فقط، وإنما بمدى قدرته على إقناع الجمهور بإمكانية البقاء على الرغم من البلل، هو ما حدث بالفعل وبشكل لافت للنظر.   


الجسد أيضاً علامة المعاناة والسعادة والشهوة في عرض من ساحل العاجل بعنوان ولدنا فعلاً ترقص فيه مجموعة من المتحولات لإغواء بعضهن وإغواء الجمهور، بطريقة لا توحي بغير صالات التعريّ وتجارة الجنس. الصالة تتم العودة إليها بعد كل خروج إلى الحياة الطبيعيّة التي تعيش فيها تلك المتحولات، حياة يفترض أن تكون عاديّة. الحركات المضحكة ومحاولة شد الجمهور إلى التفاعل ربطت بين خليط من القطع المتناثرة بشكل غير منتظم، تاركة له أن يراها كدعوة للاستمتاع فقط إن لم يكن يرغب في التفسير.  


ما يجمع بين جميع عروض المهرجان أنها حاولت تجريب أدوات مختلفة، في سياقات مختلفة. أدوات في كسر الحدود الفصلة بين اللغات المتعددة، وفتح العلاقة مع الجمهور إلى مستويات متعددة. الخلاف مع الجمهور كان جزءاً من بعض العروض. تحدّي عواطفه وأفكاره وقيمه أيضاً. هناك ممثلون استرخت أجسادهم العارية بين مقاعد المتفرجين، وهناك من طَردوا بطريقة غير مباشرة أولئك الذي لا يقدرون على تحمّل اختبارهم بشكل مباشر وصادم إلى هذه الدرجة. في عرض من البرتغال بعنوان كاترينا وجمال قاتل الفاشيين يتلو القاتل خطاباً يمينياً عنصريا شعبوياً غاية في القسوة لمدة تزيد عن 20 دقيقة داعياً الجمهور لغضب شديد، وصل حد مغادرة العشرات للعرض، والشتيمة المباشرة. شهدت واحدة من العروض رمي أشياء من قبل الجمهور على المسرح لمحاولة إسكات الممثل.


يسأل أحد القائمين على المهرجان، خلال تقديم أحد العروض “كيف يمكن التحدث عن العالم بجسدك؟” ويقع هذا السؤال في صلب ما قدّمة المهرجان خلال 15 يوماً، حيث تقول مجمل العروض إن الجسد يمكن أن يفعل أكثر من الرقص ليعبّر بدقة عن أي رسالة إنسانية، أو سياسيّة. ويمكنه أيضاً التحدّث بكلمات أقل ليعبّر عن المعاني بشكل أوسع. لغات هذا الجسد متعددة، لون البشرة والهوية الجنسية ، الشعر والأيدي،  كل ما يظهر من الجسد بلباس أو بدونه، يمكنه أن يبني علاقة مختلفة مع الجمهور ويعمّق القدرة على التفاعل. عندما يجهَد الجسد في التعبير عن رسالته تسبح رائحته أقرب إلى أنوف الجمهور. 


ترى جيسي ميل (المديرة الفنية المشاركة في ترانس أميريك) في حديث لموقع حنا أن المهرجان طالما كان مساحة للعروض الأدائية الجسديّة المتوّعة، وهذا مبني من رغبة دائمة وقويّة لجذب العروض المختلفة والمتوّعة بأدواتها. تلك العروض عادةً ما تحدث فرقاً.

هناك دائماً مقولة وهدف من هذه العروض بحسب ميل، فإتاحة مسرح كبير مثل مونمنت ناشونال في مونتريال لفرقة من المتحولات الإفريقيات والبرازيليات، مبني على مقولة، ويحمل فكرةً وهدفاً، لإخراج هذا النوع من العروض من الغرف الصغيرة المظلمة إلى العلن أمام قطاع كبير من الجمهور. وأن تكون كبرى العروض في المهرجان هي تلك التي تقدّم قضايا نساء سوداوات البشرة، أو متحولات، فإن في ذلك قبل كل شيء موقف وسالة.

يهدف المهرجان دائمأً وفق ميل إلى تحقيق مستوى مختلف من التواصل مع الجمهور، وذلك من خلال العروض التي تشاركه وتحرّضه على التفاعل، والعروض التي تجعله يتحرّك في الأماكن المفتوحة. لكن العلاقة مع الجمهور بالتحديد هي ليست شيئاً يتم تنسيقه وتخطيطه، بل هي ما تتم ملاحظته أثناء تقديم العروض. “كنا نراقب ما يحدث مع الجمهور بسعادة”، تقول ميل.

في الشوارع والساحات المفتوحة للجمهور العابر الذي لم يكن يخطط لحضور عرض مسرحي، وفي الصالات الكبيرة المجّهزة بأحدث التقنيات، كانت أجساد عشرات الفنانين/ات من بلدان مختلفة من العالم تدافع عن العدالة والحب والحرية. حرية الفن والتعبير قبل كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى