الهوية ورأس المال في لبنان أواخر العهد العثماني
تنافس الهويات في أواخر العهد العثماني في بلاد الشام
تيموثي بوضومط
طالب ماجستير في قسم حضارات الشرق الأدنى والشرق الأوسط بجامعة تورنتو، وحاصل على منحة الخريجين الكندية لعام 2022-2023. يركز بحثه على تكوين الهوية ونمو الأنشطة الفكرية في بلاد الشام خلال أواخر العهد العثماني والانتداب (1840-1940).
هذا المقال هو جزء من ملف “التكنولوجيا ورأس المال واليوتوبيا” الذي يتم إصداره بالتعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة تورنتو. تقرؤون في هذا الملف أيضا المقالات التالية: ترويض الوحش المصري لمصعب النميري، وبرتقال يافا المسكون لهيلي بريس، وتمرد النظرة في أفلام كيارستمي لنورا ميزو ويلينغهام، ومراقبة المسلمين في الصين واليابان لزناتول إسحاق.
ترجمه عن الانكليزية: منصة حنا
—————————————————————-
أفرزت السنوات الآفلة لحكم الإمبراطورية العثمانية آثاراً عميقة، لم تعرها الدراسات اهتماماً كافياً، على الهويات السياسية في بلاد الشام. ترجع جذور المجموعات الإثنية والدينية، وحتى المسار الاقتصادي، إلى نهايات الحقبة العثمانية. وما نقرؤه اليوم من تاريخ هو في معظم الأحيان تاريخ النخب السياسية: ردود أفعال القادة وكيف اتخذوا قراراتهم، وحتى أن التاريخ الوطني قد قُسِّم إلى فترات حكم كل حاكم. ولكن كان على كل تلك المشاريع السياسية أن تحرِّك الشعب وتحظى بدعمه. ومن شأن هذا العنصر الشعبي في القضايا الأيديولوجية أن يوضّح عوامل محددة أثرت في الجمود السياسي في البلاد التي كانت جزءاً من سوريا العثمانية.
تسلط هذه المقالة الضوء على دور الشعب في مسار تطور الهويات السياسية في بلاد الشام أواخر فترة الحكم العثمانية. وتتناول المقالة تغير الأنماط المتعلقة بالهويات بين شعوب المنطقة. ولكون ذلك موضوعاً واسعاً، تتطرّق هذه الورقة إلى دراسة الهويات الطائفية والرأسمالية في واحد من أكثر أجزاء سوريا العثمانية تقلّباً من الناحية السياسية، جبل لبنان، وتتبّع تأثير الفهم الشعبي للطائفية والرأسمالية على المشاريع السياسية العديدة التي أنشأها القادة.
يُنظر إلى جبل لبنان على أنه واحد من المناطق المتقلّبة سياسياً من سوريا العثمانية، حيث اختبر ما دعي “حرباً أهلية” عام 1860 نشبت بين أكبر جماعتين في الجبل، وأدّت إلى تغييرات في الحكم السياسي فيه (فواز 1994، 209-217). أنتجت التسوية السياسية واقعاً يسميه الباحثون المعاصرون بالـ”طائفية”، حيث تشرّع النخب السياسية قوانينها مدعية أنها تمثّل الرغبات السياسية لطائفتها. وليس ذلك التنوع الطائفي حكراً على جبل لبنان: عام 1860 ونحوه، يمكن ملاحظة ذلك التنوع على امتداد العراق وبلاد الشام العثمانية. علاوة على ذلك، سيتم تطبيق تلك النظم الطائفية على امتداد المنطقة، مع مجيء الأوروبيين. ما أثار قلق المسؤولين العثمانيين هو كون النخب المارونية، التي تمثل أغلبية مارونية عددية واضحة عام 1860، ليسوا حلفاء الحكومة العثمانية.
بهدف مواجهة الأيديولوجيا القائمة على الأكثرية، استخدم داوود باشا، الحاكم العثماني الأول للبنان، الرأسمالية أداةً لشرعنة الحكم العثماني في الجبل. وسادت الأيديولوجيات الرأسمالية بشكل متزايد بين أبناء الطبقة الوسطى الناشئة، خاصة مع ازدهار زراعة الحرير والاتصال بالأسواق الأوروبية (هولت 2017، 122؛ طرابلسي 2012، 41-51). بدأت الإمبراطورية العثمانية ككل بشرعنة حكمها عبر إنشاء شبكات السكك الحديدية، وخطوط التلغراف، بالإضافة إلى تحديث الموانئ لتستوعب سفناً أكبر، من بين تطويرات أخرى من شأنها تثبيت الرأسمالية. وسهلت مشاريع البنى التحتية تلك نمو الرأسمالية في الإمبراطورية، ما أدى بالنخب العثمانية إلى التنافس الرأسمالي مع المشاريع الأوروبية، عبر مشاريع منها قناة السويس.
.
استمر الصدام من 1861 وحتى 1868 مع مستويات مختلفة من الحدّة، وهدف كل من داوود وكرم إلى شرعنة مساعيهم السلطوية بين سكان الجبل. وأسهمت المفاهيم الثقافية والاجتماعية للملكية في شرعنة مسعى كرم للسلطة، مع انتشار فكرة أنه مثّل المصالح السياسية لأكبر طائفة في الجبل. وقد أكدت لجنة دولية بقيادة فرنسا، أُرسلت للتحقيق في الحرب الأهلية عام 1860، على منطق الأكثرية الذي اعتبر أن حقوق المارونيين قد أُهملت (فرح 2000، 603-608). واستخدم كرم تلك “المظلومية” إلى جانب تلك الجماعة الاجتماعية-الثقافية لشرعنة مسعاه في حكم جبل لبنان.
ظهرت محاولة داوود باشا لشرعنة الحكم العثماني عبر الأيديولوجيات الرأسمالية أثناء اصطدام بين النخب السياسية العثمانية والمحلية في جبل لبنان بين عامي 1861 و1868. وحاولت النخب العثمانية، بقيادة داوود باشا، إعادةَ تثبيت السلطة العثمانية في أعقاب الصدامات الطائفية عام 1860 ضد النخب المارونية، بقيادة يوسف كرم، الذي سعى إلى استمرار توسع حقوقهم السياسية (سبانيولو 1977، 101-113).
في التماس أُرسل إلى الوفد الفرنسي للجنة الدولية الذي وُفد لحل “الحرب الأهلية” عام 1860، طالب الموقّعون بـ”استعادة حقوقهم الطائفية” التي منحتها “الحكومة المصرية” التي احتلت بلاد الشام بين عام 1830 و1840. (سعيّد 1998، 556). وقّع على الورقة المسيحيون من أكثر من 15 قرية وبلدة، وترافقت مع ما يزيد عن 30 التماساً من قرىً مختلفة طالبت بحماية “الحقوق والامتيازات” لدى المسيحيين في جبل لبنان. استولى يوسف كرم، حاكم بلدة إهدن الصغيرة شمال لبنان، على هذه الإرادة السياسية لحماية حقوق المسيحيين، وشكّل مقاومة ضد إعادة السلطة العثمانية في الجبل.
ولتلك الغاية، دفع كرم بتمرّد ذي نطاق ضيّق عام 1861، وشكّل تهديداً بالتحوّل السريع إلى صراع واسع، ولكن سرعان ما قمعت الجيوش الدولية والعثمانية الموجودة ذلك التحرك. وأطلق تمرداً آخر عام 1864، تطلّب قمعه تدخلاً من حاكم دمشق. وقاد كرم تمرداً أخيراً عام 1866 و1867، أُسِر فيه على يد الحكومة المركزية، وأُبعد إلى المنفى في الجزائر.
أجبرت سطوة أيديولوجية كرم الثقافية-الاجتماعية السياسيين العثمانيين في لبنان على التفكير في طرق جديدة لشرعنة السلطة العثمانية. اختار داوود باشا شرعنة السلطة العثمانية على أسس غير عرقية، مستوحياً ذلك من الإصلاحات العثمانية الجارية منذ عام 1839، تحت اسم “تنظيمات”. وبدلاً من تمثيل السلطة السياسية في لبنان لطوائف المنطقة، قدّم داوود باشا نفسه ممثلاً لبنان كوحدة اقتصادية واحدة. وكشفت وثائق القنصلية الفرنسية أن مفهوم داوود عن “الوحدة الاقتصادية” يعني أن على “لبنان” أن “يستقل اقتصادياً” من ناحية النفقات والدخل، وأيضاً من ناحية الموارد (سبانيولو، 1977، 112).
تركّزت أولويات الإمبراطورية العثمانية في أعقاب أحداث حرب القرم (1853-1856) على تطوير البنية التحتية، ومنها قناة السويس، وتلاءم منطق داوود الاقتصادي للبنان مع ذلك التوجه بدقّة (دافيسون 1976، 234؛ أبو منّة 2015، 133). وكعضو في الأكاديمية البروسية للعلوم، ومتعلّم كموظّف عام في “تنظيمات” العثمانية سعى داوود إلى عصرنة مقاطعته، وحاول جعلها مثالاً عن التعايش بين مختلف الطوائف تحتذي به سائر مناطق الإمبراطورية (سبانيولو 1977، 104-105؛ حكيم 2013 106-108). مال الاقتصاد اللبناني ما بعد 1860 إلى الاندماج بالسوق العالمية عبر إنتاج الحرير مع ازدهار الطبقة المتوسطة، وكان داوود حريصاً على الاستفادة من هذا المشروع الرأسمالي لتثبيت حكمه (كواتارت 1993، 84).
قدم داوود باشا رؤيته للاقتصاد اللبناني منذ عام 1863، حين قال إن “مركز ثقل الازدهار التجاري والزراعي للجبل يقع خارج حدوده السياسية” (سبانيولو 1977، 112). في صيف عام 1865 نجح داوود في نيل حق إدارة النصف الغربي من الهضبة، الذي يحدّ مقاطعته من الغرب، والذي كان يدعى أيضاً وادي البقاع الغربي. ورغم أنه لم يكن جزءاً من مقاطعته، إلا أنه مُنح الحق في إدارة أنشطته الاقتصادية. كان يأمل بنيل امتيازات مشابهة في بيروت، التي اعتبرت حينها “مفتاح لبنان الذي من شأنه أن يعطي بلاده الخير الذي تحتاج إليه بشدة” (شهاب وإسماعيل 1975، رقم 13،23). كان لسياساته الاقتصادية شعبية واسعة، حتى أن المؤرخ أنطون ضاهر العقيقي اعتبر داوود “من بين الأكثر كرماً تجاه الناس، ولم يضاهيه حاكم آخر في الكرم والحماسة”. (عقيقي 1867-1868، 77).
واستثماراً لهذه الشعبية، أرسل داوود التماسات عام 1867 إلى البقاع الغربي والمدن الساحلية الرئيسية المحاذية لمقاطعته، ومن أهمها صيدون وطرابلس والأراضي التابعة لهما، وسبر رأي الناس فيما إذا أرادوا ضم الأراضي (شهاب وإسماعيل 1975، رقم 13، 21-22). في الواقع، كان داوود واثقاً بسياساته إلى درجة قوله “كلمة واحدة مني تكفي لحشد سكان الجبل من أجل عمليات الضم، وقبل عمل كهذا، ستختفي كل الاختلافات الطائفية”. (شهاب وإسماعيل 1975، رقم 13، 24).
تم تطوير نظام الالتماسات العثماني ضمن عملية “تنظيمات” الإصلاحية لإنتاج ترتيبات إدارية تعكس الأولويات المحلية (هانسن 2005، 8، 25-26، 33). وتمثّل الابتكار لدى داوود باشا في استخدام هذا الأسلوب لتحدي ترتيبات الإدارة العثمانية التي اعتمدت على الفكرة القائلة بأن الرأي العام قد وفّر أرضيةً لشرعية مشاريعها السياسية.
بحلول عام 1868 خسرت كل من الرؤيتين المتنافستين للبنان، والمتمثلتين في شخصي يوسف كرم وداوود باشا، دعم القوة العظمى الذي احتاجاه للاستمرار في شعبيتهما. وأبعدت السلطات العثمانية كليهما إلى المنفى – كرم إلى الجزائر وداوود إلى سويسرا- خوفاً من اتساع سلطتهما الشخصية في البلاد على حساب سلطة الحكومة العثمانية. وتمكن الحاكم العثماني الجديد، فرانكو باشا، من تحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والطائفية معاً، دون إعطاء أولوية لأي منهما. ورغم أن النخب السياسي لم تعد تدفع بأي من تلك الأيديولوجيات بشكل رسمي، إلا أن الضمير الشعبي قد تنبّه إلى بقاء المنطقين الطائفي والاقتصادي، عبر صعود الطبقة الوسطى في لبنان، على شكل “جمهورية طائفية” و”جمهورية تجارية” (سيف الدين 2019، 5).
المصادر
بطرس أبو منة. “مفهومان للدولة في زمن تنظيمات: خط شريف غولهانه وخط هومايون” مراجعة في التاريخ التركي (2015): 117-137.
أنطوان ضاهر العقيقي. لبنان في سنوات الإقطاع الأخيرة، 1840-1868: تقرير معاصر لأنطوان ضاهر العقيقي، وملفات أخرى. ترجمة مالكولم هوبر كير. بيروت: الجامعة الأميركية، 1959.
إنغِن دينيز أكارله. السلام الطويل: لبنان العثماني، 1861-1920. بيركلي: منشورات جامعة كاليفورنيا، 1993.
موريس شهاب، وعادل إسماعيل. وثائق دبلوماسية وقنصلية متعلقة بتاريخ لبنان: ودول الشرق الأوسط من القرن السابع عشر حتى اليوم. بيروت: إصدارات ومؤلفات سياسية وتاريخية 1983.
رودريك ديفنسون. الإصلاح في الإمبراطورية العثمانية، 1856-1876. منشورات جامعة برينستون، 1976.
قيصر فرح. سياسات التدخل في لبنان العثماني، 1830-1861. (آي بي توريس: لندن، 2000).
ليلى فواز. مناسبة للحرب: الصراع الأهلي في لبنان ودمشق 1860. (آي بي توريس: لندن، 1994).
كارول حكيم. أصل فكرة لبنان الوطني، 1840-1920. بيركلي: منشورات جامعة كاليفورنيا، 2013.
إليزابيث هولت. رأس المال الزائف: الحرير، والقطن، وصعود الرواية العربية. نيويورك: منشورات جامعة فوردهام، 2017.
جينس هانسن. نهاية القرن، بيروت: صناعة رأس المال الإقليمي العثماني (أوكسفورد: منشورات كلاريدون، 2005).
دونالد كواتارت. “النساء، والأسر، والتصنيع العثمانيين، 1800-1914”. عن الحدود المتغيرة للجنس والجندر، حررته بيث بارون، ونيكي كيدي. نيو هيفن: منشورات جامعة ييل، 1993.
هشام سيف الدين. مصرفيّة الدولة: الأسس المالية للبنان. منشورات جامعة ستانفورد، 2019.
جون سبانيولو. فرنسا ولبنان العثمانية، 1861-1914. منشورات إثاكا لمركز الشرق الأوسط، أوكسفورد، كلية سانت أنطوني، 1977.
الشعوب المسيحية في إقليم الخرّوب، “التماس لكبير المفوضين الفرنسيين”. حرره ياسين سعيد (بيروت: مجموعة نوفل، 1998).
فواز طرابلسي. تاريخ لبنان المعاصر. لندن: منشورات بلوتو، 2012.