حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام

مساعي العدالة والحفاظ على الهوية في الشتات الأرمني

هذا المقال هو جزء من مجلة مفازة الرقمية التي تبحث في موضوع النجاة. تقرأون أيضاً فيها: جمهورية الأجساد الكليمة لنبيل محمد، القيامة في الجسد لكنانة عيسى، حوكمة الأمل لحسين الشهابي، العالم ليس قرية صغيرة لرجا سليم، أن تهوي من اللامكان لنور موسى، نجاة الهوية في الشتات لعلا برقاوي، تأثيث الذاكرة لعلي زراقط، والجروح الحية: عن الانتهاكات والمظلومية لساشا زاك.

_______________________________

شاونت رافي

موسيقي ومنتج أرمني مقيم في تورنتو. مؤسس مشارك لمقاهي ومراكز ثقافية في تورنتو. يعمل الآن على مشروعه الأحدث، تاباستري، الذي يهدف من خلاله إلى المساهمة في إحياء الموسيقى في قلب حي كنسينغتون في تورنتو وتسليط الضوء على  الثقافة الأرمنية ومناطق جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.

ترجمته عن الانكليزية علا برقاوي

________________________

في السابع من أكتوبر، كنت مثل كثير من الأرمن المنتشرين حول العالم، ما أزال أتألم من آثار ما أحدثه التطهير العرقي بحق الأرمن في آرتساخ، حيث هجّرت القوات الأذربيجانية خلال العام الماضي أكثر من ١٢٠ ألف أرمني بعد حصار غير قانوني دام تسعة أشهر. لم يكن من الهيّن أن أتقبّل الواقع الذي يقول إنه وللمرة الأولى منذ ٥٠٠٠ عام، لم يعد ثمة أي أرمني في آرتساخ. 

كانت الحقيقة التي أثقلت عليّ بشدة في ذلك الوقت هي أن الحكومة التي سلّحت القوات الأذربيجانية أثناء الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ضد شعبي في آرتساخ هي ذاتها، إسرائيل، التي تمارس جميع أشكال الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. مع بداية الأعمال الوحشية الإسرائيلية في غزة، شاركتُ في حملات جمع التبرعات والاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وأمضيت ليالٍ عدة في مخيم اعتصام الطلاب في جامعة تورونتو. اكتسبت خلال تلك الفترة فهماً عميقاً لحقيقة ما قد يشعر به الإنسان حين يُحرم من العون أو الاستحقاق للنجاة. كنت أراقب العالم وهو يعطي الأولوية لرفاهيته ويحرم المحتاجين للعون. ليس من السهل أن نشهد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بوضوح صارخ في غزة. وليس من السهل الوقوف مكتوفي الأيدي أمام محاولات تشويه الحقيقة عن عمد، حين يتم تحويلها إلى صراع مفترض بين جانبين تتساوى فيه مقاومة المضطهَدين مع إجرام المضطهِد.

طوال فترة نشأتي في تورنتو، كنت حريصاً على الانخراط بشكل فعّال في مساعي تحقيق العدالة. بدأتُ المشاركة بأنشطة المجتمع الأرمني هنا في كندا، حيث التحقتُ بدايةً بمدرسة أرمنية خاصة وقضيت كثيراً من الوقت في فعاليات نظمها المركز المجتمعي الأرمني، لتصبح تلك الفترة أبرز ما ساهم في تشكيل وعيي بمفهوم العدالة خلال سنوات نشأتي الأولى. كان النهج الذي يجب أن نتبعه واضحاً: حشد الدعم للقضية الأرمنية عبر فرض وجودنا بشكل محسوس في النظام السياسي الكندي، سواء عبر تنظيم المظاهرات إلى مبنى البرلمان أو التطوع في الحملات الانتخابية المحلية وضمان سماع أصحاب السلطة لأصواتنا. 

ثمة معضلة يواجهها الإنسان لدى طلب الدعم من الكيانات القوية في مواجهة أي خطر يهدد وجود الأفراد والمجتمعات. ففي الوقت الذي يكون فيه اللجوء لطلب المساعدة أمراً تلقائياً نابعاً من غريزة البقاء التي تمثل أهمية قصوى في مساعي النجاة، إلا أن التحدي الأكبر يتمثل في قبول واقع أن تلك الكيانات هي ذاتها متورطة بانتهاكات مماثلة. فمن أجل أن تتعامل دول مثل كندا والولايات المتحدة بشكل محق وعادل مع الإبادات الجماعية العديدة التي تحدث على مستوى العالم، فإنها تحتاج إلى الاعتراف بماضيها في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، والتي سهَّلت تأسيسها كدول في بادئ الأمر.

على مدى السنوات الثماني الماضية، توسع منظوري عن الكفاح في سبيل تحقيق العدالة ليشمل احتراماً عميقاً لنضالات الشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم. ورغم أنني ولدت في تورونتو ونشأت في مجتمعات متماسكة من الشتات الأرمني، إلا أن ما ساعدني في توسيع آفاقي هو لقاء أفراد وخوض تجارب من خارج دائرتي. وهو الأمر الذي عزز أيضاً إدراكي بأنه لا يمكن تحقيق الحلول المُحقّة والمستدامة إلا من خلال الجهود الموحدة للشعوب الأصلية.

هذا الإدراك يطرح مشكلة أخرى، تتمثل في أن توحيد الشعوب الأصلية في نضالاتها هي عملية تستوجب التأني وتتطلب وقتاً وجهداً جماعياً. لكن حين تكون الخسائر في الأرواح هائلة، فإن التحرك الفوري غالباً ما يكون أمراً ضرورياً. تتولد من ذلك معضلة في التوفيق ما بين الحاجة الملحة لوقف الجرائم، ووجوب السعي الاستراتيجي إلى التغيير الدائم. نجد أنفسنا في مواجهة وجوب الاختيار ما بين انعزال المجتمع في سبيل نجاته، مقابل اختيار التعاون مع الآخرين لتعزيز النضال الجماعي. وفي الوقت الذي لا وجود لنهج واضح يوفق بين هذين الخيارين؛ فإنه يتعين علينا أن نسعى إلى العمل على كليهما في آن واحد.

في هذا المقال، سأحاول سرد جوانب من نهجي الشخصي الذي سلكتُه للحفاظ على الهوية وتحقيق العدالة. في رحلة تشكلت بفعل الإحساس بضرورة النجاة، وتضمنت نجاحات وخيبات وشكوكاً واجهتُها على طول الطريق، وتأملات في تعقيدات مساعي العدالة وصمود المجتمعات ومثابرتها في مواجهة التحديات التي تهدد وجودها.

الإبادة الجماعية التي شكّلت عالمنا

شهد الشتات الأرمني زيادة كبيرة في عدد أفراده بعد الإبادة الجماعية التي حدثت في العام 1915. في ذلك الحين، كان الجزء الغربي من أرمينيا خاضعاً لحكم الإمبراطورية العثمانية التي كانت بدورها في حالة انهيار سريع بدايات القرن العشرين.1 أدت خسارة العثمانيين للأراضي والسلطة إلى صعود النزعة القومية المفرطة، والتي بلغت ذروتها بالانقلاب الناجح الذي نفَّذته الفصائل القومية المعروفة باسم حركة “تركيا الفتاة”.

تضارب نجاح الأرمن وازدهارهم في المنطقة آنذاك مع المصالح التركية. وُصفوا بالخونة وتم تحميلهم مسؤولية إخفاقات الإمبراطورية العثمانية، ثم أدى تدهور الإمبراطورية العثمانية على المستوى العالمي إلى حملات اضطهاد انتقامية بحق  الأرمن.2 بدأ ترحيل الأرمن بشكل منهجي عبر إلقائهم لحتفهم في البادية السورية. وبحلول نهاية عام 1917، كان نحو 1.5 مليون أرمني، أي نحو نصف الأرمن، قد قتلوا.3

في أعقاب الإبادة الجماعية، خضع الجزء الشرقي من أرمينيا للحكم السوفييتي، قبل أن تستعيد البلاد استقلالها في العام 1990 مع انهياره. لكن الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين كان قد أعطى جَيبَين أرمينيَّين تاريخيَّين، آرتساخ ونخجوان، إلى أذربيجان عند ترسيمه للحدود الإقليمية، مما أدى إلى ترسيخ وجهة النظر التي ترى المنطقة كأرض متنازع عليها في نظر العالم. وفي عام 1998، حرر مقاتلو المقاومة آرتساخ، وأقاموا دولة مستقلة لشعبها.

استمر حكم الأرمن لآرتساخ حتى العام 2020 عندما بدأت أذربيجان، وسط جائحة كوفيد-19، حرباً مدمرة استمرت 44 يوماً أسفرت عن استيلائها على ثلث مساحة آرتساخ. تم التوصل إلى اتفاق لوقف لإطلاق النار في نوفمبر 2020 بوساطة روسيا. وفي ديسمبر من العام التالي، فرضت أذربيجان حصاراً غير قانوني على الطريق الوحيد الذي يربط أرمينيا بآرتساخ، مما أدى إلى قطع اتصال الأخيرة بالعالم الخارجي. انتشرت المجاعة على نطاق واسع بين السكان الذين عانوا أيضاً من صعوبة الوصول إلى خدمات المساعدات الطبية.4 واستمر الحصار حتى حلّ الحكومة في آرتساخ، ما دفع 120 ألف أرمني إلى الفرار كلاجئين، لينتهي بذلك فعلياً وجود الأرمن هناك.

تجدر الإشارة إلى أن أذربيجان هي دولة تركية. وكثيراً ما تُستخدم عبارة “أمة واحدة في دولتين” لوصف العلاقات بين تركيا وأذربيجان.5 وكان المسؤولون العسكريون الأتراك متورطين بشكل مباشر في الهجمات المخطط لها ضد آرتساخ. ولا يزال العداء الذي نشأ تجاه الأرمن منذ أوائل القرن العشرين قائماً بين الأحزاب القومية داخل البلدان التركية في المنطقة. واليوم تواجه أرمينيا هجمات حدودية ومطالبات إقليمية مستمرة حول أراضيها.

الشتات الأرمني

بعد الإبادة الجماعية، عاشت عائلتي في أربع دول مختلفة (تركيا ولبنان وقبرص وإيران)، لتكون شاهدة فيها على حروب وثورات عدة. وقد عاش معظم أرمن الشتات قصصاً مماثلة. استقر العديد منهم في المقام الأول في الشرق الأوسط حيث واجهوا ظروفاً اجتماعية وسياسية غير مستقرة أدت إلى مزيد من عمليات الانتقال، وخاصة إلى الولايات المتحدة وكندا.6 ينحدر الأرمن في الشتات من خلفيات ثقافية متنوعة ويمتلكون هويات هجينة. وعلى الرغم من التحديات الهائلة التي يواجهونها، غير أن هذا التنوع يقدم منظوراً مستنيراً وفريداً، وبالتالي يشكل أحد أعظم نقاط القوة التي يتسم بها الشتات الأرمني.

ورغم تمكّن الأرمن في جميع أنحاء العالم من الاندماج في عدد لا يحصى من البلدان والثقافات، إلا أن عدم اليقين في تحقيق العدالة فيما يتعلق بالإبادة الجماعية والاعتداءات المستمرة على الأراضي الأرمنية ما يزالان أمران يثقلان كاهل كل أرمني. غالباً ما يميل الأرمن في الشتات إلى البقاء منعزلين داخل مجتمعاتهم. ففي سبيل الحفاظ على ما تبقى من الثقافة الأرمنية، يصبح العديد من الأرمن شديدي الحذر والانغلاق، وهي استجابة غريزية مفهومة عندما يحاول الإنسان حماية ما هو ثمين في وجه أي تهديد. أحد الآثار المستمرة لجرائم الإبادة الجماعية هي إحساس الضحايا بالخوف الدائم واليقظة المستمرة أمام ما يهدد وجودهم. لذا، وضع الأرمن في الشتات هدفاً أساسياً نصب أعينهم، وهو تأمين السلامة والاستقرار لأنفسهم وعائلاتهم. وبدا أن أكثرهم قدرة على الشعور بنوع من الحصانة هم أولئك الذين ينحدرون في الغالب من خلفية سياسية واجتماعية محافِظة بيضاء ويفتقرون إلى المرونة اللازمة لتقبل التنوع العرقي أو الجنساني. علاوة على ذلك، فإن السعي لاكتساب ثقة ودعم من هم في السلطة يُعدُّ أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لهم.

لقد اكتسبتُ خلال نشأتي في المجتمع الأرمني في تورنتو كثيراً من التجارب التي أقدّرها وأعتز بها. تعلّمتُ اللغة الأرمنية وأهمية الانتماء للمجتمع وكيفية حشد الدعم في أوقات الحاجة. كما تمكنت من تعزيز صلاتي مع كثير من الأرمن في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، وإثر تجارب مختلفة، وجدت نفسي أخوض في تحديات الأسئلة المعقدة والبحث عن أساليب بديلة لتحقيق العدالة والعمل على التغيير الهادف.

لطالما كنت مقتنعاً بأن محاولات إخفاء ما هو ثمين وحمايته بأي ثمن، وإن كان بهدف الحفاظ عليه، قد يؤدي إلى تعريضه لخطر الزوال. فحين يتم تجريد الشيء الثمين من غايته، وحدِّ قدرته على التغير والتطور والتفاعل، فإنه حتماً سيتلاشى. الثقافة ليست استثناء من ذلك. وبناء على ذلك، فإنني أؤمن بأن السبيل الأمثل للحفاظ على ثقافة ما، يكمن في السماح لها بالتجدد والازدهار والمواءَمة.

العودة إلى الجذور

في العام ٢٠١٥، وبعد سنوات من الدراسة والعمل في المجال السياسي في تورنتو، قررت المغامرة والذهاب إلى أرمينيا للتطوع لفترة لا تتجاوز 4 أشهر. لكن تلك الفترة امتدت لعامَين اثنين من العيش والعمل هناك، حيث استطعت تكوين علاقات متينة مع الكثير من الأشخاص الذين يسكنون مناطق قصيّة من الريف الأرمني تكاد تكون غير معروفة لأيِّ كان. عملت مع مؤسسة مبادرة التنمية الوطنية (HDIF)، وهي منظمة تركز على تمكين الحرفيين في المجتمعات الريفية في أرمينيا وتزويدهم بفرص عمل ودخل مستدام، إلى جانب محاولة إحياء الحرف اليدوية الأرمنية التي يعود تاريخها إلى قرون. كانت تلك الفترة بمثابة تجربة طورت مفهومي للنهج الذي يجب أن أسلكه خلال مساعيّ لتحقيق العدالة.

تجدر الإشارة إلى أن الجيل الذي أنتمي إليه من أرمن الشتات هو الأول الذي أتيحت له الفرصة لزيارة أرمينيا والعمل بها بحرية وفي سن مبكرة منذ الإبادة الجماعية. كان مستحيلاً لأشخاص يقيمون في الغرب زيارتها أثناء الحكم السوفييتي. هذه النقطة مهمة، لأن وعيي كان يتطور بعيداً عن أرمينيا وأرضها، وقد ساهم ذلك في تشكيل أفكاري وتصوراتي عنها. لقد ساعدني الوقت الذي قضيته في أرمينيا على تخفيف استيائي من كثير من الأمور التي لم أستطع أن أتصالح معها في مجتمع الشتات. ذلك أن محاولة الحفاظ على الثقافة دون الاتصال المباشر بالأرض تؤدي إلى رمنَستها بشكل يصعب فهمه تماماً.

أتاحت لي الفترة التي قضيتها في أرمينيا أوقاتاً طويلة من التأمل العميق، وكانت بمثابة فرصة لاكتشاف الذات والكشف عنها. احتضنتني هناك طبيعتها الجميلة وشعبها الودود، فوجدت فيهما عزاء وراحة وهدفاً وشعوراً متجدداً بالهوية. كان مكوثي هناك لمدة عامين كفيلاً بأن يخلصني من تراكمات الأوهام والتوقعات التي لطالما قيّدت يديّ، وأن يهبَني احتمالات لا محدودة للتعبير عن الذات واحتضان الفردانية. 

لأول مرة في حياتي، كنت أشعر بالتحرر من الشعور الإجباري للحفاظ على هويتي وثقافتي كفرد غريب عنهما ويحاول استيعابهما من مسافة قصيّة. في أرمينيا، تمكنت من ممارسة لغتي وتقاليدي بشكل حيّ وضمن سياق أرمني خالص، في أنشطة يومية بسيطة مثل التسوق أو قضاء الوقت مع الأصدقاء. حينها فقط، خلصتُ بأن لدي هوية أرمنية لا يمكن فصلها عني. والآن، سواء كنت أتسوق في أرمينيا أو في خارجها، فإنني أفعل ذلك بصفتي أرمنياً حقاً. 

أن تجد المجتمع

عندما عدت إلى تورنتو في عام 2017، وضعت نصب عيني تطبيق الخبرات التي اكتسبتها في أرمينيا، محاولاً سد الفجوة بين هويتي القديمة وتلك الحقيقية التي وجدتُها متجسدةً في واقع جديد أعيش فيه. أردت أن أساهم في خلق مساحة يمكن للثقافة الأرمنية أن تزدهر فيها. فبدأت أنا وأخي مشروعاً  في تورنتو، كخطوة أولى لنا في استعادة سرديتنا الأرمنية والاحتفاء بتراثنا وترسيخ الشعور بالانتماء لثقافتنا في عالم مليء بالتفرقة وانعدام اليقين. 

لكن عندما يختار الشخص تأسيس مشروع له بعد ثقافي، فإنه  يعرّض الجانب التجاري للخطر. كان أول تحدٍّ أواجهُه وأخي هو وجوب الابتعاد قدر الامكان عن الزيف أو التكلّف في طرح مشروعنا، وحينها أدركنا أن نجاحنا يعتمد أولاً على اعتناق الأصالة والصدق. 

افتتحنا أول مقهى لنا في شارع كوين ويست في تورنتو. ومنذ ذلك الحين، انتقلنا إلى موقعين آخرين. نتخذ حالياً من سوق كنسينغتون مقراً لنا مع مشروعنا الأحدث (تاباستري)، وهو مكان يوفر مساحة للاستمتاع بالموسيقى والفعاليات الأخرى والاحتفاء بالطعام والموسيقى والتراث والرقص الأرمني. وخلال عرض ومشاركة ثقافتنا الأرمنية بشكلها الأصيل، سرعان ما تمكنَّا من تمييز المجتمعات التي تفاعلت معنا في تورنتو، بالإضافة إلى تلك التي لم تتمكن من ذلك.

فعلى الرغم من نشأتنا في تورنتو، غير أننا وجدنا صعوبة في التواصل مع معظم الكنديين. بدأنا بالانخراط في مجتمعات داعمة يشكّلها في المقام الأول أشخاص من منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. وقد كانت البيئة المتنوعة لسوق كنسينغتون عاملاً مساعداً في التواصل مع من يقدر ثقافتنا بحق، وبالتالي تغلَّبنا تدريجياً على بعض الميول الانعزالية داخل المجتمع الأرمني. 

 بدأنا التعريف بالثقافة الأرمنية في النسيج الغني لحي كنسينغتون، وهو واحد من الأحياء المميزة والشهيرة في تورنتو ويشتهر بتاريخه كملاذ للمهاجرين وبنسيجه الثقافي النابض بالحياة. لطالما كان سوق كنسينغتون مركزاً للمجتمعات المهمشة، حيث يحتضن المهاجرين من جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا والقوقاز وأمريكا اللاتينية بالإضافة إلى الشعوب الأصلية في جزيرة السلحفاة (المسماة تورنتو). بالنسبة لي، أصبح سوق كنسينغتون مكاناً يمكنني التعبير فيه عن هويتي بالشكل الذي أريد، وفي الوقت ذاته، الشعور الكامل بالقبول من الآخرين. 

في حي كنسنغتون، شعرت أنني وسط مجتمعات تفهمني دون الحاجة إلى شرح نفسي أو تعقيدات انتمائي. قدّرت ذلك الشعور بقبول المحيط بشكل أكبر كوني نشأت مفتقداً له. لقد تعلمت في الضواحي التي نشأت فيها بأن وجودي يقترن بالامتثال للمعايير التقييدية للمجتمع الأرمني، مع تجنب إظهار هويتي وانتمائي في خارجه. لكن الوقت الذي قضيته في أرمينيا ومن ثم التجربة الغنية التي عشتها في محاولة إنجاح مشروعي الخاص وسط مدينة تورنتو، سمحت لي باكتشاف طريقة جديدة للتعبير عن ذاتي بشكلها الأصيل ودون تقديم أية تنازلات. وقد ساهم في تحقيق ذلك أيضاً أولئك الذين عايشت معهم أقوى أشكال المقاومة، حين أدركوا ماهية النضال المستمر للشتات الأرمني وقدموا شتى أشكال الدعم في رحلة التغلب على التحديات التي كنت أحاول مواجهتها. 

لكن ذلك لا يعني أن مسيرة النضال قد تكون خالية من الصعوبات. فتشريد الأرمن في آرتساخ، والإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والقمع الإبادي الممنهج في السودان والكونغو، كلها تحديات تستلزم العمل على وضع أهداف استراتيجية طويلة الأمد، شبيهة بتنامي حركات التضامن بين الشعوب الأصلية في العالم.

 ولكن في لحظات كهذه، تدور في ذهني كثير من الشكوك حول القيمة والتأثير الذي قد يحدثه مشروعي. أشعر مراتٍ بالذنب لعدم بناء تحالفات سياسية أو تنمية علاقات مع شخصيات نافذة من شأنها أن تحدث تغييراً ما، في حين أتساءل أيضاً عما إذا كنت قد تخليت عن جانب كبير من راديكاليّتي التي يثبّطها ببطء نمط الحياة المريح في المجتمعات الغربية.

في مواجهة تلك العقبات، أحاول التخلي عن توقعاتي بأنني سأجني ثمار جهودي خلال سنوات حياتي، وهذا ما يمدُّني ببصيص من الأمل والقدرة على استكمال السعي لتحقيق العدالة. أحاول أيضاً استيعاب حقيقة أن معالجة الصدمات المنتقلة عبر الأجيال تتطلب التزاماً وعملاً يمتد لأجيال أخرى، وأنه من غير الواقعي الافتراض بأنني كفرد قادر على حل مثل هذه القضايا ذات الجذور العميقة في حياة واحدة. انطلاقاً من ذلك، يبدو أنه من الأجدى أن نكمل السعي في اتخاذ إجراءات فورية لإنقاذ الأرواح التي تمَّ ويتم إزهاقها اليوم، وأن نعمل في الوقت نفسه على وضع استراتيجيات دائمة من شأنها أن تحمي حياة الأجيال القادمة التي لم تولد بعد. هذا النهج المزدوج هو بالنسبة لي الأمثل لخلق تغيير مستدام وتطوير مجتمع يحتفي بالعدالة مع مرور الوقت.

سوف أبقى ملتزماً بتقديم تمثيل أصيل لهويتي وتراثي الأرمني ومنع أي محاولة لتهميشهما قدر المستطاع. وسواء كان هذا النهج فعالاً أم لا، ورغم أنني غير متأكد بعد من مصير شعبي وبلدي، غير أنني في كل مرة أقف فيها خارج تاباستري وأسمع مجموعة من الشبان المارين وهم يتعرفون على حانتي باعتبارها “الحانة الأرمنية”، تغمرني مشاعر السلوى والتفاؤل بغدٍ أفضل.

  1.  أونجور، أوغور أوميت. المحرقة وإبادات جماعية أخرى، 2012
    https://www.corningcentre.org/wp-content/uploads/2020/11/ungor-armenian-genocide.pdf.
    ↩︎
  2.  أوهانيان، دانييل، ورافي سركيسيان، وآرام أدجميان، وإيزابيل كاريليان-تشرشل. “كندا والإبادة الجماعية الأرمنية”. مركز سارة كورنينج للتعليم حول الإبادة الجماعية، 2015.
    ↩︎
  3.  ثيرياولت، هنري سي. “الحل مع العدالة: التعويضات عن الإبادة الجماعية الأرمنية”. مجموعة دراسة التعويض عن الإبادة الجماعية للأرمن، 2015.
    ↩︎
  4.  جيبولاييفا، أرزو. “أرمينيا وأذربيجان: حصار لم ينتهِ واتفاقية سلام معلقة بخيط رفيع”. جلوبال فويسز، 19 يوليو/تموز 2023. https://globalvoices.org/2023/07/19/armenia-and-azerbaijan-a-blockade-that-never-ended-and-a-peace-deal-hanging-by-a-thread/.
    ↩︎
  5.  جعفرلي، توران. أمة واحدة ودولتان: موقف تركيا من الأحداث الأخيرة …، 2020 https://researchcentre.trtworld.com/wp-content/uploads/2020/11/Turkey-Azerbaijan-Armenia.pdf
    ↩︎
  6.  بولساجيان، م. (2018). الشتات الأرمني: الهجرة وتأثيرها على الهوية والسياسة.  https://escholarship.org/uc/item/51x1r30s
    ↩︎
زر الذهاب إلى الأعلى