تمرّد النظرة في أفلام كيارستمي

كيف يسلط كيراستامي الضوء على حقائق مسكوت عنها؟

نورا ميزو-ويلينغهام 

طالبة في السنة الثالثة في جامعة تورنتو، تدرس التاريخ والفلسفة والدين. هي مفتونة بكل ما يتعلق بالسينما والموسيقى ولديها فضول للتعرف على كيفية انخراط الفن بالسياسة، لا سيما أثناء الاضطرابات.

هذا المقال هو جزء من ملف “التكنولوجيا ورأس المال واليوتوبيا” الذي يتم إصداره بالتعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة تورنتو. تقرؤون في هذا الملف أيضا المقالات التالية: الهوية ورأس المال في لبنان أواخر العهد العثماني لتيموثي بوضومط، وبرتقال يافا المسكون لهيلي بريس، وترويض الوحش المصري لمصعب النميري، ومراقبة المسلمين في الصين واليابان لزناتول إسحاق.

ترجمه عن الانكليزية: منصّة حنا.

———————————————————————————————————

تحاكي عدسة كاميرا المخرج الإيراني عباس كيارستمي عين الناظر. ترصد أهالي القرى الأكثر تهميشاً خلال أعمالهم الاعتيادية اليومية عبر تركيز العدسة عليهم. تنقل الكاميرا همومهم ورغباتهم إلى الواجهة. تنطوي أفلام كيارستمي على عنصر متمرد للغاية عبر تحدي الصور النمطية لإيران في الإعلام الغربي، وفي الوقت ذاته نسف الأساطير التي تكررها بروباغندا الجمهورية الإسلامية. يفعل كيارستمي ذلك في ظل وجود رقابة شديدة يراوغها عبر إعادة العدسة إلى الفيلم نفسه، ويقوم بذلك بتحليل تصاعدي لمواضيع شديدة الحساسية محولاً إياها إلى مشروع جمالي. يمكن رصد هذه العناصر في ثلاثية كوكر التي تتضمن أين يقع منزل صديقي؟ (1988)، والحياة ولا شيء سواها (1992)، وعبر أشجار الزيتون (1994). أحاول التعمق في هذه الأفلام لاكتشاف السياقات الثقافية والسياسية المتضمنة في التاريخ الأوسع للسينما الإيرانية. 

دخلت السينما إلى إيران في 18 آب/أغسطس 1900، عبر كاميرا غومون فرنسية صوّر بها ميرزا ابراهيم خان بلاط مظفر الدين شاه قاجار. افتُتحت السينما الأولى بعد ذلك بأربعة أعوام، رغم أن روادها كانوا من الأغنياء فقط. يمكن تقسيم تاريخ السينما الإيرانية إلى ثلاث مراحل: الأولى بين عامي 1929-1936 واتسمت بصعود أفلام الفيتشر التي كان هدفها جذب المتدينين إلى صالات السينما. انتهت هذه الفترة بإحباط مردّه قيام شركات الإنتاج الغربية بتحدّي النجاح الملحوظ لصناع السينما الإيرانية المحليين. تميزت الفترة الثانية بازدهار الأفلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وشهدت صعود الميلودراما في الغالب، وظهرت فيها الأفلام الطليعية في الستينات.  

بدأت المرحلة الثالثة مع الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 . قبل الثورة كان قد تم حرق نحو ربع صالات السينما بسبب اعتبارها أماكن لترويج قيم الفساد الغربي ومعاداة الشريعة الإسلامية. لم يكن ثمة قوانين تخص صناعة السينما في السنوات الأولى لحكم الثورة، ولكن الرقابة الشديدة أدت إلى منع كافة أشكال “الفساد” القديم وحظرت نحو 70 بالمئة من العاملين في هذه الصناع باعتبارهم منحلّين (مهرابي 2006، 38). كان هناك محاولة لأسلمة الفن في الثمانينات خلال فترة الحرب مع العراق، إذ تم إنشاء لجنة للثورة الثقافية بعد إدراك الجمهورية الوليدة حقيقة القوة  الثقافية الهائلة للسينما التي لم يتطرق إليها الفقه أو التشريعات الإسلامية (مير حسيني 2001، 27). بعد وفاة الخميني في أواخر الثمانينات، بدأ صناع السينما بتحدي الفقه، وكان فيلم أين يقع منزل صديقي؟ (1988) أول فيلم إيراني يشارك في مهرجانات عالمية (مهرابي 2006، 39). 

الصورة 1، كيارستمي يدير عدسة الكاميرة نحو أنقاض زلزال مانجل-رودبار، دون تغطية الفظائع لأهداف قومية.  من فيلم وتستمر الحياة، 1992.

استفاد كيارستمي من المؤسسات الثقافية السينمائية وساهم أيضاً في تأسيسها. بدأت السينما الإيرانية بالازدهار تحت حكم محمد خاتمي وبمساهمة كيارستمي في قطاع الأفلام ضمن مركز التطوير الثقافي للأطفال واليافعين. وبفضل الأهمية الكبرى لمؤسسة الفارابي للأفلام أيضاً، بدأت موجة من الأفلام الطليعية بالظهور (مهرابي 2006، 39). سهّلت مؤسسة الفارابي إنتاج الأفلام في عموم إيران. ورغم أن المؤسسة مولت الأفلام المراعية لقيم الأسرة والخالية من الجنس والعنف، كان كيارستمي من بين مخرجين استطاعوا الاستفادة من الظهور المحلي والدولي الذي مكّنهم من تقديم منظور أصيل وحقيقي لإيران (أوفيرهيد 1995، 32-35). كان كيارستمي مهتمّا بتصوير الحياة اليومية دون رمنستها أو المبالغة في شحنها سياسياً، وكان فيلم الحياة ولا شيء سواها تعبيراً عن ذلك.

كانت رغبة كيارستمي بتصوير إيران “الحقيقية” واضحة في أفلامه، واتضح في ثلاثية كوكر تلك الرغبة في إظهار مثابرة الريفيين/ات وإنسانيتهم/نّ. وبفضل عدسة كيارستمي الواقعية يستطيع المشاهد معاينة أفراد مهمشين في المجتمع: الأطفال والنساء والمسنين والأميين والفقراء. عبر تلسيط الضوء على هؤلاء الأشخاص وإبراز أفراحهم وأتراحهم، تصعد الموضوعات المحظورة إلى الواجهة، مثل أدوار الجنسين، والوصول إلى التعليم وجودته، والتشرد، والفقر. يعلق كياروستامي على هذا في مقابلة ، قائلاً: “إذا كانت السياسية التي تتحدث عنها هي المشاكل الإنسانية اليوم، فمن المؤكد أن عملي سياسي وبقوة. فيلم عبر أشجار الزيتون مثلاً يسلط الضوء على المشاكل الشخصية للبطل حسين، وهي مشاكل اجتماعية. هو ينتمي إلى إيران اليوم. هو أمّي، يريد الزواج ولا يريد لأطفاله الفقر والأمية… لا يمكن لهذا أن يكون بعيداً عن السياسة لأنك بذلك تُظهر المشاكل الاجتماعية التي يجب على السياسة أن تتعامل معها” (أوفيرهيد 1995، 32). بهذه الطريقة، ليس ثمة في أفلام كيارستمي محادثة سياسية أو تصميم لمشاهد الحركة المكثفة لخلق أفلام مشحونة سياسياً، فهو يكتفي ببساطة بتصوير حياة أشخاص مسيسين بالفطرة بسبب أوضاعهم. 

الصورة 2، كيارستمي يصور عمل النساء الريفيات اللواتي يمثلن شريحة اجتماعية مهمشة تاريخياً بسبب قوانين الرقابة. من فيلم أين يقع منزل صديقي؟ (1987).

تمثل الجمهورية الإسلامية أيديولوجيا غير قابلة للتطبيق، حالها كحال أي حكومة ثورية هي غير قادرة على تحقيق الأهداف التي وعدت بها. يتحدى كيارستمي المثال اليوتوبي للجمهورية الإسلامية، الذي يقول إن الحياة تحسنت بشكل غير قابل للإنكار في ظل الثورة، وذلك عبر تسليط الضوء واقع الشباب الذي يعاني من الأمّية والتمييز. إيران في أفلام كيارستمي هي مكان يؤدي فيه المسنّون أعمالاً تكسر الظهر، وتُهمّش فيه النساء من تأدية دور فاعل في أسرهنّ. هي صورة دقيقة لأناس حقيقين، تقوم أيضاً بدحض الصورة البائسة لإيران في الإعلام الغربي. ففي أفلامه تظهر لقطات مبهرة للريف الخصب، حيث يلعب الأطفال ويقع الفتيان والفتيات في الحب، فيما يتحمّس الناس البسطاء للظهور في الفيلم. لا يتجنب كيارستمي إظهار الواقع المرّ الذي خلّفه زلزال مانجل-رودبار، ولا يُرمنس الخسائر في الأرواح، ولا يطبّع مع تعنيف أطفال المدارس وتخويفهم كما يظهر في فيلم أين يقع منزل صديقي؟ ولكنه أيضاً لا يختار أن يركز فقط على العنف، وإنما يتيح المجال لظهور كافة التناقضات والتعقيدات التي تحكم الحياة البشرية. 

الصورة 3. بهدف مراوغة النقاد والرقابة، كيارستمي يوجه عدسة الكاميرا إلى طاقم العمل، وينخرط بذلك في منهج ناقد لصناعة الفيلم كوسيلة لعكس الواقع. من فيلم عبر أشجار الزيتون (1994). 

تُعتبر ثلاثية كوكر فريدة في اتساع مساحتها النقدية: فيلم أين يقع منزل صديقي؟ يحكي قصة بسيطة لطفل يسعى لإرجاع دفتر صديقه خوفاً عليه من الطرد والعقاب البدني. أما فيلم الحياة ولا شيء سواها يصور ما يجري وراء كواليس فيلم أين يقع منزل صديقي؟ ويرصد ردات فعل الممثلين على بعد زلزال مانجل-رودبار. في حين يقوم فيلم تحت أشجار الزيتون بتقديم طبقة أخرى من الخداع إذ يتضح أن فيلم الحياة ولا شيء سواها كان فيلماً وأبطاله ممثلون، ويظهر فيه مشاهد تلتف فيها عدسة الكاميرا لتصور طاقم العمل على الفيلم إياه. عبر إخراج أفلام بمشاهد بسيطة وترك الحقائق مبهمة، يدعو كيارستمي المشاهد إلى اتخاذ موقف فاعل في تأويل الفيلم بدلاً من أن يكون هدفاً للتلقين الأيديولوجي. ما ساهم في إنجاح هذه الأفلام أيضاً في ظل وجود الرقابة أيضاً هو أنها لا تقدم أيديولوجيا معينة وإنما تطرح أسئلة حول الأوضاع القائمة عبر وضعها في قالب جمالي (ميثا 2009، 147). 

عبر توجيه الكاميرا على نفسه، يفضح كيارستمي الطبيعة الجمالية والسينمائية لأفلامه، متهرباً من الانتقادات حول الحبكة والمحتوى. فهو، في نهاية المطاف، يصور الحياة الحقيقية فقط. يقول جان لوك نانسي إن “الصورة التي يمثلها الفيلم ويشير إليها في الوقت ذاته ليست تلك صورة للحياة النقية والبسيطة، ولا للحياة المتخيلة. ليس تصوراً “واقعياً” ولا “خيالياً”، وإنما حياة يتم تقديمها أو عرضها برفقة أدلة” (نانسي 1999، 78). بذلك، يطرح كيارستمي فكرة أن أفلامه هي مجموعة الأحداث الواقعية، وهي، في الوقت ذاته، مجرّد أفلام في نهاية المطاف. عبر هذا المنهج ينجح في الغوص في قضايا الحياة الواقعية التي يتم اعتبارها من المحرمات. 

الصورة 4. عبر نهجه النقدي، يسلط كيارستمي الضوء على محرمات مثل الحب والحياة الرومانسية، خاصة بين طبقات متباينة في المناطق الريفية المهمشة. من فيلم عبر أشجار الزيتون (1994). 

قدرة كيارستمي على التعبير عن واقع الريفيين الإيرانيين بطريقة قابلة للتأويل من جانب المشاهدين/ات تعزز المكانة العالمية لهذه الأفلام. فالمُشاهد يرى الأفراح والأحزان لكل من الأطفال والنساء والمسنين/ات وسواهم، ويتأمل ويدرك مثابرة الروح البشرية. هذا التركيز على البعد الإنساني يدحض عقيدة الجمهورية الإسلامية بمهارة، وينجح، عبر النهج الذي يتبعه بمهارة، في مراوغة الرقابة.  

المصادر

أوفرهيد، بات، وعباس كياروستامي. “الحياة الواقعية أهم من السينما: مقابلة مع عباس كياروستامي”. سيناستي 21، العدد 3 (1995): 31-33. http://www.jstor.org/stable/41687383. 

 ميثا، فاروق. “أفلام عباس كياروستامي: تأطير عبء الهويات الإسلامية المعاصرة”. فصلية الدراسات العربية  31. العدد 1/2: 141-48. http://www.jstor.org/stable/41858579.

 مير حسيني، زيبا. “السينما الإيرانية: الفن والمجتمع والدولة”. ميدل إيست ريبورت. العدد 219 (2001): 26-29. https://doi.org/10.2307/1559252. 

نانسي وجان لوك وفيرينا أندرمات كونلي. “عن الدليل: الحياة ولا شيء أكثر لعباس كياروستامي”. (1999): 77-88. http://www.jstor.org/stable/41389521.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى