بوكلثوم يدعونا إلى التعافي
أماني الشيخ
كاتبة وصحفية سورية مقيمة حالياً في كندا. كتبت في عدة مواقع عربية بينها رصيف 22، ومهتمة بقضايا الجندر والعدالة الاجتماعية.
“أنا طالب بهالحياة.. وكل طالب حامل نعش”.
لطالما كانت التروما الجماعية الموضوع الأكبر في أغنيات مغني الراب السوري بو كلثوم. من الحرب إلى الاقتلاع من الجذور وخلق البدايات الجديدة في شتى البلدان حول العالم. ومع أن بو كلثوم ينتمي إلى المجموعة الراحلة عن البلاد، إلا أنه لم ينس أولئك الذين ظلوا في سوريا يعايشون الكابوس كل يوم، فيذكُرهم أيضاً في شعره. شعر ذاتي غاية في الفن، يعبر عنه وعن كثير منّا في آن معاً.
في ألبومه الجديد “طالب” الذي أطلقه الجمعة 20 أغسطس، كأنما يصل بو كلثوم إلى نهاية طريق ما. فهو يجمع كل ما اختبره، ويضع لنا قلبه وعقله ورحلة شفائه في ساعة وربع تقريباً من الموسيقى. درس فلسفي وسايكولوجي ينتقل فيه بو كلثوم من مرحلة إلى أخرى. الألبوم هو نهاية طريق، ولكنه بداية آخر. بعد الكثير من الألم والغضب في أغانيه السابقة، وتمنّي “وقوع النيزك”، والحديث المستمر عن الـ”البعبع” الداخلي الذي نواجهه من داخلنا وحولنا، يظهر ضوء جديد ومختلف في الأغاني هذه المرة يقول لنا بوضوح: أنا على طريق الشفاء والتغيير والإنجاز واستشعار هوية ما، فقط لأني قبلت تماماً أني طالب دائم للعلم. في هذه الحياة: “الشي الوحيد الثابت أني عم بتعلم… رح ضل كل عمري من الأصغر فيكم بتعلّم”.
يصرّ بو كلثوم في القصص اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقابلاته القليلة، على أن يلخص ويروي قصصاً شخصيةً في أغانيه، ويتابع ذلك في ألبومه الأخير “طالب”. مع ذلك، فإن رحلتي الشخصية مع أغانيه كبرت في داخلي كأنه يعرفني تماماً كما أعرفه. أتعقب التشابه بيننا وأحصي الخيبات المشتركة. يعرف البو كيف يحنّ المرء حقاً، وكيف يتألم لذلك. يعرف الخسارة والهزيمة والعجز المطلق أمام كل ما يجري. أن يموت صديقك بقذيفة أو تحت التعذيب. أن تحمل روحك في حقيبة واحدة وترحل: “على حضني رسيت رحالي، وأنا راضي على ترحالي”. يعرف معركة الغضب والاكتئاب والتمزق الداخلي وكيف يشتهي الموجوع أن “يولع فيها وما خلي فيها مين يطفيها”. يعرف ماذا يعني أن تواجه مجتمعاً جديداً لا رجعة لك منه بصدر عار. واليوم أيضاً يعرف بو كلثوم كما لا بد لنا جميعاً أن نعرف، أن هذه الآلام لن تذهب وحدها، بل سنورثها لأولادنا إذا لم نتعلّم عنها، في سبيل مواجهتها.
ليل طويل
تتشابه وسائل الدماغ البشري في التعبير عن الألم الجسدي والنفسي. تماماً مثلما يمكن للمرء أن يصاب برجة دماغية بعد سقطة، دون أن يشعر بها مباشرة، لا يستطيع أيضاً أن يفكر بالتروما في الوقت نفسه الذي يحاول النجاة منها. ينطبق ذلك كثيراً على تجربة اللجوء. تخرج من بلادك، تأتمن البلاد الجديدة على روحك وخبزك، لتنظر خلفك إلى مقدار الألم المطبق عليك وعلى ناسك في البلاد، فتسقط في واد من الأسى. يقول بو كلثوم في أغنية شمال: “الصفنة privilege”. في الوقت نفسه، عليك أن تفهم البلاد الجديدة من الصفر، وتبدأ بها كأنك تلميذ في الصف الأول في الثلاثين من عمره، وهذه أيضاً تروما بحد ذاتها لا بد من اختبارها. كثير منا يستسلم تماماً بعد كل هذا التعب. يرفض التغيير، ويرفض التعلم. كثير منا يكبت آلامه ويعيشها وحيداً. والكثير يصرّ على العيش مع وحوشه منفرداً، يحبسها في صندوق مدفون جيداً، ويرفع حولها مليون راية “ممنوع الاقتراب” لئلا يوقظها خطأً.
الخيارات الأكثر صحية تكمن في خوض رحلة العلاج عبر التعلم عن التروما وفهمها. كثيرون يعيشون في وزر صدماتهم النفسية دون محاولة تغييرها، لكن النتيجة في المثال المُعطى، وهو تجربة اللجوء، هي انغلاق المرء على نفسه أو في مجتمع ضيق، والسعي إلى العيش فقط دون محاولة بناء حقيقية تؤهل ذلك الشخص للتقدم.
يُعتبر العبور النفسي هذا من أصعب ما قد يمر به الإنسان في رحلته. على المستوى الشخصي، وصلت إلى كندا عام 2015 بعد مجموعة من الأحداث الدراماتيكية التي حصلت معي خلال السنوات الأخيرة. كالكثير من السوريين نجوت بالجسد ليبدأ مشوار الصراع الذهني والأسئلة حول الظلم والاستحقاق والعدالة غير الموجودة. أسئلة عن ماذا فعلنا لنستحق كل هذا؟ لماذا أنا في كندا؟ كيف يمكن لواقع الإنسان أن ينقلب بشكل كامل بهذه الطريقة؟ هل كان يجب البقاء في سوريا واستمرار مداعبة الموت اليومية؟ هل رأيت أشلاء جثث حقاً أم كل ذلك كان وهماً؟
أحب الراب، وأحفظ كثيراً من أغاني فناني الراب اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين القادمين من المشهد الفني نفسه حيث يأتي بو كلثوم، منذ عشر أعوام. مع ذلك حالفني الحظ ألا أتعرف إلى أغاني بو كلثوم إلا بعد القدوم إلى كندا. كأنها منحة صغيرة من الحياة. كأنها قالت لي: “هناك شاعر وموسيقي لديه تجربة مشابهة، خذي هذه الأغاني لتؤنس ليلك الطويل”. يقول صديقي بعد استماعه للألبوم الجديد: “بو كلثوم بشيل نفسياً”. أي أنه يرفعك ويساعدك على النظر للأعلى.
نور ومقاومة
نقوم وننفض الغبار ونكمل بعد كل سقطة. نداوي جراحنا وحدنا. مر ست سنوات منذ وصلت إلى كندا. تعلّمت فيها الكثير. بدأت بخطوات صغيرة جداً. حاولت تعقيم جروحي ومع الوقت اعتدت فكرة الأرض الجديدة. تعرفت على ثقافات كثيرة، شعوب أخرى مظلومة كثيراً مثلنا. إن حرب الإنسانية مع الظلم بكل أنواعه قائمة دائماً وليس هناك أكثر من الناجين بالاسم فقط. لكن شخصية شبه جديدة كلياً بدأت تظهر في أفقي، فأنا اليوم تركيبة من مجموعة من الخبرات. مزيج من الشرق أوسطية، مضافاً لها تجربة اللجوء، ثم الثقافة الكندية بتنوعها. يظهر ذلك في كل مجالات حياتي اليومية. من التفاعل والتواصل إلى آليات التفكير وحل المشاكل وتحديد الأولويات. تظهر هذه الهوية الجديدة أيضاً في ألبوم بو كلثوم الجديد. يظهر المزيج الثقافي الذي عجن البو كما فعل بي، فهو يعبر عما يفكر فيه بالعربية والإنكليزية في أغانيه.
يجمع بو كلثوم شخصية فنية تعبر عن كل هذا التخبط والاعتصار النفسي في ألم التروما الجماعية. تبلورت هذه الشخصية في الألبوم الجديد الذي لم يقتصر موسيقياً على الراب بل جمع أنماطاً موسيقية مختلفة بما يتوافق مع هذه الشخصية الجديدة. يدعونا بو كلثوم لخلق مساحتنا الخاصة من خلال التعلم. التواضع مطلوب دائماً. نحن لا نعرف كل شيء ويمكن لنا دائماً أن نتعلم أكثر عنا وعن الأخرين، لنفتح أعيننا على حلول وطرق جديدة لنشفى.
من طالب علم، شيفا، شمال، تغيرت وغيرها. محتوى مكثف، ممتلئ، حقيقي ويدعو إلى التفكير عن كثب بخيارات التعلم المطروحة أمامنا في الحياة، وإذا ما كنا نستفيد منها حقاً.