الجائحة تتبعنا إلى المحيط
أماني الشيخ
كاتبة وصحفية سورية مقيمة حالياً في كندا. كتبت في عدة مواقع عربية بينها رصيف 22، ومهتمة بقضايا الجندر والعدالة الاجتماعية.
قد لا يكون العبور إلى المناطق الآمنة فراراً من الحرب أو الصراع المسلح أو غيرها كما توحي الكلمة لمتلقيها. قد يكون هرباً من دوائر حمراء تحيط باسم أو خريطة مدينتك، تؤكد لك منذ عام ونيّف، وبشكل يومي، أنك ما زلت تعيش/ين في كابوس كوفيد.
منذ أن انتقلت للعيش في مدينة تورنتو في أكتوبر الماضي وهي على الحال نفسه تقريباً. إغلاق للخدمات غير الضرورية، وعشرات من البيانات الصادرة عن حكومة أونتاريو التي تشجعنا على التحلي بالأخلاق والمسؤولية تجاه مجتمعاتنا، وذلك بأن نختصر خروجنا من المنزل إلى الذهاب إلى العمل والتسوق، وألا نلتقي مع أيّ إنسان لا يسكن معنا في البيت نفسه. قليلاً فقط من التغييرات يُضاف ويُحذف على إجراءات الحكومة القانونية في محاربة الوباء، حتى بداية الموجة الثالثة منتصف مارس الماضي. أعلن دوغلاس فورد حاكم المقاطعة، الجمعة 16 أبريل، اتخاذ اجراءات إضافية، إذ لم تستطع أي من السياسات الحالية أن تقف في وجه عدّاد الإصابات المرتفع جداً في أونتاريو. القوانين الجديدة تزيد من صلاحيات الشرطة المحلية في إيقاف الناس وفضّ أيّ تجمع، وإصدار المخالفات فور عدم الاستجابة من طرف المواطنين. بعد سنة كاملة من الإقامة شبه الجبرية، والسجن في منظومة البيت والعمل دون القدرة على التفريغ في مكان آخر، صار لا بدّ من التوجه بعيداً إذا أمكن. بعيداً جداً في بلاد كندا الواسعة.
الأفكار المجنونة تحيي الروح. القرار الذي صدر الجمعة من قبل الجهات الرسمية لحقه قرار حتمي من قبلنا للمغادرة إلى هاليفاكس عبر مونتريال. لدينا نافذة زمنية صغيرة حتى يوم الاثنين لنهرب قبل تنفيذ القرارات التي تضمنت إغلاقاً شبه كامل للحدود بين المقاطعات، متزامناً مع قرار مقاطعة كيبيك أيضا بإغلاق حدودها مع أنتاريو، إذ عليك أن تبرز لدوريات الشرطة التي زرعت على الحدود بين المقاطعتين سبباً ضرورياً جداً لسفرك مع إثبات لذلك.
تشبه الأماكن بعضها بين تورنتو ومونتريال. شكل الطريق السريع والسيارات الشائعة والمفترقات كثيرة الانتشار على الطريق ما زالت في مجال المألوف. على الأقل ما زلت أشعر أنني في البلاد نفسها. بكلمات أفضل، هناك خط نظري واحد يصل المدينتين الأكثر شهرة في كندا ببعضهما.
مونتريال لا تشبه نفسها
وصلنا مدينة مونتريال في الساعة الرابعة بعد الظهر. يتسم وسط المدينة بالهدوء تماماً. مسافات بين الناس لا بد منها، والمسافات بين السيارات تؤكد الحالة غير الاعتيادية لوسط المدينة الذي يغلي عادة بالناس. يبدأ ما يعرف بالـ”كيرفيو” أو منع التجول في الساعة الثامنة. بعـد ذلك، عليك أن تبرز للشرطة التي يمكن أن توقفك في أي لحظة تصريحاً مصدقاً لسبب خروجك بعد بدء حظر التجول.
تعيش ديالا (42 عاماً) في وسط مونتريال من جهة المدينة القديمة والمرفأ القديم. وتقول إن منع التجول الذي بدأ في فبراير الماضي لم يشكل عائقاً كبيراً أمام الناس في بدايته، وذلك بسبب الطقس البارد والتوقيت الشتوي ونظام الحياة المونتريالي الشتوي. المشكلة بدأت مع شهر أبريل وتحسن الطقس وبداية الربيع. وقتها بدأ التساؤل العام: هل يشكل التريّض ليلاً فرقاً عن التريض صباحاً؟ لماذا منع التجول؟ وكيف يغير ذلك الإجراء الغريب في الخط البياني لعدد إصابات ووفيات كوفيد؟
تساؤلات المونترياليين عن حقهم في الخروج ليلاً ما لبثت أن تحولت غضباً. خرجت المظاهرة الاحتجاجية الأولى 14 مارس الماضي بآلاف المتظاهرين، ودفع ذلك الشرطة إلى إصدار 144 مخالفة لبعض مثيري الشغب ومن لم يحترموا قانون ارتداء القناع. منذ ذلك الوقت، يتجمع الناس كل سبت في المرفأ القديم أو في شارع سانت كاثرين وسط المدينة للاحتجاج على حظر التجول. مظاهرة 8 أبريل أخذت طابعاً عنيفاً، إذ قام مجموعة من مرتكبي أعمال الشغب بتكسير واجهات بعض المحال التجارية في المدينة القديمة بالإضافة إلى إشعال بعض الحرائق، مما اضطر الشرطة لفض الاحتجاجات بالقوة.
يقول عبد الإله العثماني (33 عاماً) الذي يسكن في منطقة روزمونت: “مستعد كمواطن أن ألتزم بكل مسؤولية بقوانين التباعد الاجتماعي، لبس الكمامة وغسل اليدين.. إلخ، لكن حظر التجول يحد حريتي كمواطن”. يضيف العثماني بالقول: “لم أشارك في المظاهرات الاحتجاجية، إلا أنني أؤيدها. لا أحبذ أعمال الشغب كشكل الاحتجاج، لأنها تبعد المسافة بين المحتجين والسلطات. بيد أن حظر التجول يبدو شكلاً من أشكال تربية المواطن غير الحضارية”.
أجلس على شرفة المنزل في مونتريال. أثرثر مع الصديقة التي استقبلتنا رغم تجاوز القانون قليلاً. نراقب الشارع الخالي وسيارة الشرطة المركونة في عرض الطريق، إذ يتم إيقاف السيارات واحدة بعد الأخرى، ونخمّن ونحن نراقب من حصل أو لم يحصل على المخالفة. في انتظار الساعة الخامسة، ساعة رفع منع التجول، راودني الشعور نفسه بالاختناق الـذي دفعني بداية للهروب من أونتاريو المكتظة. الخط النظري المتشابه بين المدينتين ما زال قائماً. بل أكثر من ذلك، كأنه أصبح خط شعور أكاد ألمسه في قلبي.
نيو برونزويك وبطاقة العبور
انطلقنا في الخامسة فجراً. سنكمل طريقنا إلى هاليفاكس، نوفا سكوشا، وجهتنا الأخيرة. أمامنا 13 ساعة من القيادة المتواصلة شرقاً، سنقطع فيها ما تبقى من مقاطعة كيبيك، وكل مقاطعة نيو برونزويك. على الشخص ملء استمارة تبين أنه لا يحمل أياً من أعراض كوفيد، مع سبب السفر والوجهة الأخيرة. تقوم الجهة الحكومية المختصة بإرسال بريد إلكتروني مؤتمت، يحمل رقماً، يتم إبرازه للحاجز على الحدود بين كيبيك و نيو برونزويك. ثم تكرر/ين العملية نفسها لتسجيل الدخول إلى نوفا سكوشا، إذ يتم إبراز رقم الدخول للحاجز على الحدود بين نيو برونزويك ونوفا سكوشا.
فضاءٌ خالٍ. كامل الأوصاف. الحاجز الأول في نهاية كيبيك تأكد من المعلومات التي وضعناها في تسجيل الدخول، ثم تمنى لنا رحلة موفقة، مُذكراً بضرورة الالتزام بقوانين التباعد وغسل اليدين والكمامة وعدم التعامل مع الناس، واستخدام الـ”درايف ثرو” في حال اضطررنا للتوقف لأجل القهوة، بالإضافة إلى ضرورة الحجر الصحي في هاليفاكس إلى حين التأكد من نتيجة الفحص.
الجبال الممتدة على طرفي الطريق. خط النظر الممتد بعيداً. وعداد الكيلومترات على غوغل مابس يشير لنا أن نكمل ونكمل. يبلغ عدد سكان نيو برونزويك نحو 777,000 نسمة، حسب إحصاءات حكومية عام 2019.
ومنذ أن بدأت الجائحة شهدت المقاطعة 1839 حالة فقط. في مقارنة بسيطة مع كثافة أونتاريو السكانية التي تبلغ 14.57 مليون نسمة و441 ألف حالة كوفيد خلال سنة، وفقاً للإحصائية الحكومية نفسها، سيصبح المشهد واضحاً تماماً. كلمات زادت الكيلومترات المقطوعة شرقاً زالت الدوائر الحمراء، وإلى عوالم جديدة.
نطوف ويتبعنا..
لأشهر طويلة بين الموجة الثانية والثالثة كان عدد الحالات في مقاطعة نوفا سكوشا صفراً. أعاد الشرطي على مشارف نوفا سكوشا لنا كل ما يجب علينا فعله فور وصولنا إلى هاليفاكس، ثم رحب بنا مزيلاً الحاجز الطرقي. تعمّ هاليفاكس بالهدوء. تقول هيلين (26 عاماً) التي تعيش في وسط مدينة هاليفاكس إن المدينة “لم تعاني كغيرها مع كوفيد بسبب صغر حجمها وقلة عدد سكانها. فيكفي أن يلتزم الـ500 ألف نسمة بتعاليم التباعد الاجتماعي وغسل اليدين؛ لنتقي شرّ الفيروس، خصوصاً أن الناس التزموا كثيراً، ويمكن ملاحظة التباعد على الأرصفة وفي الأماكن العامة”. المدينة التي لم تضطر إلى حجر صحي مكثف أو إغلاق عام طوال السنة الماضية وصلتها الموجة الثالثة معنا تماماً. من صفر إلى ثماني حالات يوم الاثنين، ثم 38 حالة يوم الخميس، إلى أن أعلنت أخيراً حكومة نوفاسكوشا دخول هاليفاكس في حجر صحي لمدة أربعة أسابيع، ابتداء من الجمعة أبريل 23. يتضمن الحجر إغلاقاً لمعظم الخدمات غير الضرورية، مع المحافظة على بعض الخدمات بطاقة استيعاب 25 بالمئة فقط في الأماكن المغلقة. يمكن للمواطن أن يلتقي بمجموعة تصل إلى خمس أشخاص، في الأماكن المغلقة والمفتوحة.
يشبه الإغلاق في هاليفاكس الوضع في تورنتو بداية الجائحة. هناك مساحة صغيرة للحركة. أشعر ببعض الأسف والحرقة، إذ كنت أحلم بصالون التجميل المفتوح الـذي لم ندخله منذ عام، إلا أنه أُغلق. كأن تأخراً بسيطاً في الزمن يفصل بيني و بين الموجة الثالثة من الجائحة: أصل المحيط الأطلسي، فتتبعني.
في تصريحه الأخير، بغصة وبعيون شبه دامعة، اعتذر حاكم أونتاريو دوغلاس فورد عن الصلاحيات التي أعطيت للشرطة بإيقاف الناس والحد من حريتهم في التجول، خصوصاً بعد أن رفض عدد من إدارات الشرطة في المنطقة، بينها شرطة تورنتو، الاستجابة لقراره، وصرحت بأنها لن تعترض طريق الناس. اضطر فورد إلى الاعتذار بعـد غضب عارم في أونتاريو، حتى بين مؤيديه من جمهور المحافظين. كل ذلك الضغط مختلف النوع والشكل في كيبيك، وعدم نجاة باقي المقاطعات من الموجة الثالثة.. يطرح سؤالاً ملحاً: ما الذي يجب احتواؤه أولاً، الفيروس أم الغضب؟