البحث الذاتي عن أدوات النجاة
كنانة عيسى
كاتبة وفنانة وباحثة مجتمعية سورية لاجئة في كندا، عملت مع المجتمعات السورية والملونة في مجال التنمية والفن، بالإضافة لعملها في البحث المجتمعي في سوريا ولبنان وكندا. تركز حالياً على البحث في مجال الصحة النفسية/العصبية. زميلة فخرية في ببرنامج الكتابة الدولي بجامعة أيوا.
النجاة ليست أمراً بسيطاً، لا تكفي النجاة الجسدية لنقول بأننا مُعافون. بل إن إحدى أكبر مشاكلنا هو رفض الاعتراف بمشاكلنا الداخلية، وحتى عند الاعتراف بها بيننا وبين أنفسنا، كثيراً ما نقوم بكنسها تحت السجادة فور دخول الضيوف. هناك بعض المشاكل التي لا يمكن رميها في سلة المهملات، هي مُلتصقة بنا وبأشد أجزائنا خفية وهشاشة: الأعصاب والعواطف. العمل معها غير ممكن إلا ببطء وصدق وإيمان، وعلى المدى الطويل. هي رحلة صعبة، لكن خوضها ضروري لإدراك النجاة الكاملة. في هذا المقال أتحدث عن تجربتي مع النجاة، وأدعو من تمكنوا من إيجاد معادلات التوازن الخاصة بهم لمشاركة ما لديهم أيضاً عبر المقالات أو أي صيغ أخرى، ذلك أن كثيرين قد يستفيدون من الأدوات المختلفة التي يمتلكها كل شخص ويوظفها في رحلة النجاة.
ككثيرٍ من السوريين والسوريات مررتُ بتجربة الاعتقال، مرتين. وككثيرٍ من ناجي هذه التجربة، كنت أحب الحديث عنها مع أصدقائي ”خريجي الحبوس“، وأتفادى الحديث عنها بالعلن كي لا يُظنَّ بأنني أطلب من أحد معاملة خاصة. ككثيرٍ من السوريين والسوريات مررت بتجارب صعبة ولا إنسانية. مات واختفى عدد من أصدقائي المقربين. مررت برحلة الشتات وشهدت بعيني عديداً من السقطات والخيانات. ككثيرٍ من السوريين كنت أشعر أن مجرد بقائي على قيد الحياة خارج السجن هو امتياز. كنت بحاجة لطريقة ما لحمل هذا الامتياز وحكاية قصصنا كي لا نتحول إلى أرقام.
في سوريا، ومن ثم لبنان، كنت أمر بكثير من العواصف. لكن وجودي في أجواء أتشارك فيها التجارب مع كثير من أناسها لم يشعرني بالعزلة التامة. كنت واحدة من كثيرين، وربما لم يكن وضعي الأسوأ، بل كنت أقوم بالعمل والإنتاج، حتى بخلق مساحة للعمل المدني وصناعة الفن في بيتي المتواضع في بيروت. لم يكن الحال كذلك في كندا. هنا أنا شخص غريب بلا شركاء بالتجربة حولي ولا رفاق. استمراري بالتواصل والنشاط عبر وسائل الاتصال الالكترونية والسوشيال ميديا لم يسمح لي بالشعور بحجم الشرخ في البداية. بعد سنة، مررت بحادث شخصي كانت تداعياته عنيفة إلى حد أجبرني على الاعتراف بأن هنالك مشكلة، وأن عليّ البدء بالبحث عن حل لها مختلف عما كنت أقوم به من قبل.
مكابرتي على جروحي الداخلية قدمت لي أدوات أمدتني بالقوة، لكنها في المقابل سمحت لهذه الجروح بالتغلغل في داخلي كسرطان خفي يفصلني ويعزلني عن هذا العالم وواقعه ومتطلباته. بالنسبة لي، كان ومازال تمسكي بحريتي في السجن شعلةً تنير درب الشتات. هذا التمسّك هو إخلاص السجين لحلم حريته، لجبروت الروح التي رفضت الانصياع لرغبة السجان. علمتني تجربة السجن كثيراً من الأمور، منها أن أعتمد بشكل كامل على نفسي. تصادف أن كنت وحدي كثيراً من الوقت في زنزانتي بالتجربتين. كان علي البحث في داخلي عن كلما يحد من احتياجي للجوء للسجان. لم أفهم أن ذلك تَحَوَّل إلى الطريقة التي يتعامل لا وعيي فيها مع الأمور: إهمال الذات، عدم الاعتراف بالألم، الاحتفاظ بمشاكلي لنفسي وتعاملي معها وحدي.
في السجن أدركت أن القلب عضلة، فقد مر يوم من شدة خفقان قلبي شعرت بتشنج عضلي فيه. لولا يد سجينة كانت معي يومها، لتوقف. في عام ٢٠١٦ عندما مررت بتجارب خفقان قلب مشابهة، هنا في كندا خارج السجن، لم يخطر ببالي الاتصال بالإسعاف. في ٢٠١٨ علمت أن هناك اسم لما كنت أمر به: نوبة ذعر، وبأن معظم من مروا بها اتصلوا بالاسعاف ولم يضطروا للتعامل مع قسوة آثارها وحدهم.
في كندا كنت وحدي. لم يكن بإمكاني شرح التجربة، ولم يكن حولي من يفهمها. الأطباء يريدون إعطاءك دواءً يخدرك. لم يكن من الممكن الحصول على جلسات دعم نفسية دائماً، وحتى عند حصولي عليها لم تكف وحدها، بينما الناس حولي يجدونني إما غير مفهومة، أو هم معنيون بالرمزية السياسية لهذه التجربة فقط، لا بالتعامل مع آثارها. كنت أرغب بتحويل ضعفي إلى قوة لكن الأدوات حولي لم تساعدني. بالأصل لم أكن من النوع الذي يُتقن التعامل الاجتماعي وصنع شبكات الأمان العاطفية. لي مقدراتي التحليلية والنقدية، قدرتي على الكتابة وصناعة الفن، وخبراتي بالعمل المجتمعي. حزمتهم سوية، وانطلقت في رحلة البحث عن حل. منه ما حاولت اجتراحه بالكتابة أو بمشاريع فنية أو اجتماعية، أو بعض جلسات النصح النفسية، والغالب كانت ركيزته الإنترنت: البحث المستمر عن تقارير، معلومات علمية، بحوثات أكاديمية، تجارب شخصية.
في البدء كانت الصدمة تعيقني عن القراءة السريعة، فكنت أضطر لإعادة قراءة المعلومة ذاتها أكثر من مرة لأتأكد من فهمها. بكل الأحوال لم أجد تقريراً أو بحثاً واحداً قادراً على إعطائي كل الإجابات. فالصدمة ليست فقط عاطفية ونفسية، هي صدمة فكرية ووجودية وثقافية ومجتمعية تحتاج إلى إجابات، وتحتاج حلولاً جماعية لا فردية فقط. قمت بكثير من التجارب الفنية والمجتمعية التي كانت في كل مرة تصطدم بحواجز احتياجات البقاء من جهة، والواقع الاجتماعي من جهة ثانية، ومحدودية قدرتي على الفعل بسبب عواصفي الداخلية وظرف اللجوء من جهة ثالثة. لم تكن هنالك من أدوات حولي جاهزة لمساعدتي، كان علي تصميم أدواتي بنفسي وأنا لست مختصة بعلم النفس. وبسبب تجربتي الجمعية، لم أكن قادرة على البحث عن أدوات تشملني وحدي ولا تشمل الكل.
لكن لكل منا قصة تختلف عن الباقي. منا من يتعامل مع مشاكل اكتئاب بالأصل، منا من لديه عائلة وشبكة دعم عاطفية، منا من يعاني من مشاكل بالتعبير عن النفس، ومنا من نجى من تجارب أخرى كالعنف الأسري والتنمر والاغتصاب وأتت هذه الصدمات لتزيد الطين بلّة. منا من يحتاج للصمت كي يُشفى، ومنا من يحتاج للعمل والفعل. ليس هنالك حل واحد للجميع.
مازلت أذكر شكل قطع الثلج السميكة التي كانت تنزف من السماء يوم وجدت الطريق. كنت أعمل على بحث مرتبط بعملي مع مركز للدعم الاجتماعي في أحد الأحياء التي تعتبر مُهمشة في تورنتو. كنت مُشرفة على برنامج البحث المجتمعي التفاعلي، وهو أحد أشكال البحث الحديثة التي تتحدى الشكل الأكاديمي التقليدي الذي يعتبر الباحث الأكاديمي صاحب الخبرة والقادر على اجتراح الحل. يعتمد شكل البحث هذا على إعطاء أبناء المجتمع نفسه أدوات البحث ليقوموا هم به ويخلصوا للنتائج، فهم أصحاب الخبرة والأقدر على إيجاد الحلول. كان من الممتع لي اكتشاف المصطلح، فهو أمر أقوم به من قبل الثورة، وحرصت على أن يكون الأساس بكل تعاوناتي البحثية بعدها. لم أكن أعلم أن هذه مدرسة ولها اسم. أخذتني الذاكرة نحو أماكن عديدة، وانتهى بي الأمر بسؤال: أليس هنالك من أداة بحث علمية مشابهة تعتبر صاحب تجربة الاضطراب، أو الضحية/الناجي من الصدمة صاحب القول والرأي؟
اتضح لي أن هناك مدرسة لهذا النهج، وهي منهجية البحث التي يقودها الناجون. تجد هذه المدرسة إخفاقاً في تعامل النظام الصحي مع الاضطرابات النفسية والعقلية، وتعتبر أن التجربة التي يخوضها الناجي من الاضطراب العصبي/العقلي تجعل فهمه ومعرفته موازيين لمعرفة الباحث الأكاديمي. في وقتها كنت أرغب بالقفز صوب القيام ببحثي الخاص: فهذا عملي اليوم، ولدي المصادر للقيام به. إلا أن ذوي الاختصاص أخبروني بأنني قد أسيء إلى حالتي عوضاً عن دعمها إذا فعلت ذلك. فكرتُ أن عليّ ركن الغيرية جانباً والتركيز على تعافيّ الشخصي ليكون لتجربتي ثقل وفعالية أكثر عند القيام بالبحث.
بعد مدة قصيرة توقفت عن العمل وأتت جائحة كورونا. باتت عزلتي عزلتين، وبدأت حالتي النفسية والعصبية بالتراجع. لم يكن لدي سوى الإنترنت أسألها عن أي حل عملي. في النهاية اقترحت عليّ لوغاريثمات الفيسبوك التجسسية حضور ورشة ترويجية مجانية لامرأة تعمل في مجال علاج الصدمة تقول بأنها صاحبة تجربة. لم يكن للسيدة أي تدريب مهني في هذا المجال. هي امرأة تشبهني، مرت بحالة صعبة وانتهى الأمر بها في المكتبات للبحث عن الحل. كان تقديمها للموضوع جذاباً للغاية. تمكنت من الوصول إلي عبر تجربتها. هنالك بعض الأمور التي يصعب تمثيلها ولا تمسنا إلا عند الشعور بطاقة الشخص الآخر. طريقة شرحها للأمور ولعملية التعافي كانت الأولى التي تمكنت من جذب انتباهي وعاطفتي في الوقت ذاته. كنت على وشك التسجيل في برنامجها، إلا أنني وجدت خطأً في محاججتها: هي تبيع مع البرنامج وهم التعافي الكامل في مدة زمنية محدودة. هذا مستحيل. التروما تذهب وتجيء. هنالك أدوات وآلات للتعامل معها بحيث لا تؤذينا عند عودتها، لكنها لا تختفي بشكل كامل. قرأت عن تجارب كثيرة لأشخاص أودى بهم هذا الاعتقاد إلى الجحيم.
لم يُسعفني برنامجها، لكنه ثبت قدميّ على الطريق. بتُّ أعمل بنفسي بحماس هائل. بدأت بجلسات علاج نفسي مجهزة بخطة لمشروع التعافي الفردي وعلاقته بالجمعي. كنت أرسم، وأبحث، وأكتب، وفي رأسي كل المتألمين الذين سأعطيهم أداة جديدة تساعدهم على الابتسام. ربما احتجت العمل وحدي، لكن الجمعي كان في رأسي وروحي طوال الوقت: كل الأصدقاء الذين يشتاقون عودتي إليهم، كل الناجين والضحايا الذين سأقول لهم: فعلتها!
بعد مدة، وعند بدء وصولي لمرحلة الخبرة في ترويض وحش الصدمة المركبة وآثارها، شعرت بالحاجة إلى الخروج من الشخصي والعودة إلى الجمعي، إنما بخطوات صغيرة هذه المرة. قررت العمل مع صديق على دعوة مجموعة صغيرة من الأصدقاء الفاعلين في كندا الذين أتشارك بعض الرؤى والتجارب معهم لمشروع بلكونة في كندا من الشرق، وهي جلسات نقاش افتراضية عن احتياجاتنا الشخصية والجمعية للتعافي. جزء منها مرتبط بالعنف الذي شهدناه، وجزء مرتبط بالقوة الجمعية، ومنها ما هو شخصي وفردي. هي محاولة لخلق مساحة صغيرة آمنة للتفكير والعمل. كان الأصدقاء في حِنا جزءاً من هذه المجموعة. في البدء كنا نفكر بصياغة بعض المقالات المأخوذة من نقاشات البلكونة، ثم أرسلت هذه القطعة عن مشروع بحث الناجين للنشر على منصة حِنا وانتهى الأمر بعمل حِنّا والبلكونة على مشروع مشترك لتجميع تجاربنا مع النجاة وتفكيك ما يقف في وجه اهتمامنا بأنفسنا وصحتنا النفسية/العصبية، وتشارك الحلول والمعلومات. هي مبادرة تعمل على تحفيز المُبادرة الفردية/المجتمعية/البحثية لتحقيق نجاة مُستدامة.
ندعو الناجين والناجيات إلى مشاركة ملاحظاتهم وحلولهم معنا، لرفع أصواتهم، وإعمال أدواتهم البحثية لنتعافى سوية. ندعو جميع من يقرأ هذا المقال إلى مشاركة أسئلتهم وأدواتهم وحلولهم المقترحة للتعامل مع الصدمات الاضطرابات النفسية، فكل شخص مرّ بهذه التجارب لديه أدوات مختلفة عن سواه في مواجهة هذه التحديات. كثير منّا يتعايشون مع وحوشهم بصمت، وكثيرٌ منا لم يعودوا قادرين على التعبير عن مشاكلهم بالأصل. فلنكن صوتهم أيضاً، ولنعط المجتمع أدوات للوقوف بجانبنا وبجانب بحث الحرية التي لا يحدها السجن، لا الفيزيولوجي ولا العقلي ولا النفسي ولا العاطفي. فلنتم مهمتنا بالنجاة، سويةً، فلنساعد أنفسنا وغيرنا على النجاة.
نتمنى ممن يرغبون بالتعاون أو مشاركة خبراتهم أو التطوع مع المبادرة من الناجين أو داعميهم التواصل على عنوان البريد الالكتروني الآتي: survivorsknowbest@gmail.com، أو من يرغب بإرسال المقالات المتصلة بهذا الشأن بإمكانه مراسلة موقع حِنّا عبر البريد التالي: info@hennaplatform.com