“ممتلكات” تكتب تاريخ الحياة سراً وعلانية

معرض ممتلكات لإيما حركة

ربيع شامي

إعلامي وأستاذ جامعي، حائز على شهادة دكتوراه في علوم الفن.

حين نتوه في الطريق نعود إلى نقطة الانطلاق. نعود إلى الأصل: أصل الفكرة، أو أصل الموضوع، أو أصل التاريخ الذي لم ينطلق إلا من الروايات الشفهية، قبل أن يصادر ويكبل بالشروط العلمية للتوثيق والتدوين، وتحديداً قبل أن يصبح بيد الأقوياء، مالكي الوثائق وكتبة التاريخ. أصحاب السلطات التي لا يعلوها رأي أو وجهة نظر، هم الذين قيل عنهم: المنتصرون صناع التاريخ.

الهجرة التي اخترناها هي شكلٌ من أشكال التيه، ولذلك نعد لها ما استطعنا من ذاكرة. ذاكرتنا الشخصية، أو تذكارات مبعثرة لا قيمة لها من هنا إلى هناك حيث البلاد البعيدة، حيث الولادة الثانية التي لا نعرف تفاصيلها ولا مسارها، فنقفل الباب على ممتلكات تُعرّف بنا أو بولادتنا الأولى، ونحولها إلى قلادات تجلب الحظ، أو حُجب تحمينا من كسرة أو مهانة كبرياء المجهول القادم.

في معرضها الأخير في مونتريال في غاليري ليونارد بينا إلين، اختارت الفنانة إيما حركة موضوع ممتلكات المهاجرين الخاصة جداً كموضوعة، أو ثيمة لمدار بحثها، واختارت خمس شخصيات عربية تروي لها ولنا حكاية تلك الأشياء التي لا قيمة لها إلا في عيون أصحابها. 

قيمة معنوية تروي عمراً وتاريخاً من خارج تاريخ السلطات والمنتصرين. تاريخ جماعات وأفراد انتهكت السياسات والحروب والقوانين المجحفة حقوقها وحريتها في الوجود والتعبير. تاريخ علمي توثقه إيما حركة بواسطة أشياء ملموسة محسوسة، وهي بذلك لا يمكن إلا اعتبارها شواهد علمية لا لبس فيها في سياق كتابة التاريخ، وقد يفيض عنها أحيانا الإحساس الفرديّ الذي لا نعرفه، ولن نعرفه في التاريخ التقليدي الرسمي المدوّن للرواية.

رواية الأعمار

يخال المتجول في معرض “ممتلكات” أنه أمام مقتنيات تحمل شغفاً ما، أو هواية لشخصيات مهاجرة اختارت عرض ممتلكاتها أمام الباحثة أو أمامنا كمتلقين، لكنها في واقع الأمر أشياء امتلكوها أو امتلكتهم بحثاً عن أمان ما.  والأمان هنا كلمة ممتدة في جذورها باحثة في هويتها المتقطعة بين ثقافتي بلدين أو حياتين أو أكثر. 

السيدة ملكة اختصرت لنا حكاية خمسين عاماً من حياتها في جملتين، قبل أن تنتقل إلى نقطة الولادة الفعلية لها مع  سر ماكينة الخياطة. الماكينة هي سر الفن والشغف، والحرفة التي وصلت من الجدة إلى الأم، ثم إلى الحفيدة ملكة، التي تمررها إلى أولادها وأحفادها. نحن أمام حكاية عائلة مترابطة لا تجمعها اللغة الأمّ، ولا حتى تاريخ مشترك. عائلة واحدة من  ثقافات ولغات مختلفة اجتمعت على آلة الخياطة.

الماكينة حاكت بها ملكة شجرة العائلة، التي تشبه لوحة ماهر، وهي لوحة جمعت صورتين ومفتاحاً. الصورة الأولى تمثل منطقة سكنية سُمّيت باسم العائلة، بعد أن عمّر الجدّ المنزل والمسجد فيها. والصورة الثانية يوم هدم المنزل قبل أن يصبح وحشاً شاهقاً من إسمنت، وما بينهما مفتاح باب ما، لا يلزم. كوفية  فرح في المَعْرِض تحكي عن أرض أمٍ لم تزرها،  ولا تستطيع زيارتها. بلدٌ هو مجموعة حكايات الجدة والبلاد الماضية الآمنة. الحامية مثل سُبْحَة ميم، التي كانت تستمد منها أمانها خلال تجوالها في مدينتها حلب،  فيما لم تعد تشعر بهذا الأمان حين خرجت معها إلى مدن النزوح والهجرة.  

رواية التاريخ

حين تبحث شخصيات معرض “ممتلكات” عن حكاياتها الصغيرة، سوف تأخذنا معها إلى الحكايات الكبيرة التي يطلق عليها اسم التاريخ: حين تتحدث الشابة ميم عن هجراتها ونزوحها ستعود إلى مذابح تعرض لها الأجداد ولو من خلال أغنية، أو تهويدة تناقلتها الشفاه من جيل إلى جيل. وحين تعود ملكة إلى شهادات الأم الراحلة، حيث تعلمت الخياطة عام 1945 عند خياط إيطالي في مصر أيام الانفتاح والتنوير. وحين يتحدث وسام عن الهرع للإنقاذ في منطقة الحرب والموت، حيث يسرد تاريخاً اجتماعياً عنيفاً من جولات الحرب الأهلية كما فعل ماهر، الذي تحدث في كادر واحد عن تاريخ مئة عام من تاريخ بيروت بين الكولونيالية وتأسيس الدولة وانهيارها في حرب أهلية. قال في صورة منزله عن تحولات وانهيارات لعلاقات اجتماعية بممتلكاتها وبيئتها: “تاريخ مكودر”، كما يقول ماهر. الصورة “كودرت” أي “وضعت الزمن في إطار ثابت”. مجموعة ممتلكات خاصة تثبت على الجدار، وتروي تاريخاً من خارج كتب التاريخ. تماماً مثل كادر ملكة الذي استخدمته لحفظ شهادات الوالدة الراحلة، وتنطلق من رمزيتها لتروي معنى وثقافة حياكة أبعد من كونها حرفة بل هي صناعة تاريخ عائلي واجتماعي.

رواية المشاعر

إذا كان هناك من اختلاف بين التاريخ التقليدي والتاريخ الشفهي، فهو حتماً في ذلك الشعور: “نحن لا يعنينا الحدث بقدر ما يعنينا ما أنتجه من معنى”. من هنا يأتي الحِوار بين السائل والمجيب في معرض ممتلكات، أو بين الرواة وبيننا نحن الجمهور المستمع في البحث عن المعنى. المعنى سيأتينا حتماً من الشعور. وهو السؤال الدائم في معرض ممتلكات: ما شعورك حيال ما حدث؟ الشعور هنا قد يأتي بجملة اعتراضية من خارج السياق، أو نبرة صوت مختلفة تفتح بين مزدوجين، أو ربما تكون جملة تفسر كلّ ما حدث.

شخصية ملكة الواثقة والباسمة والشغوفة بالفنون الجميلة والخياطة تقول بصوت يرتعش: “الخِيَاطة كنت عشان أمّي. كانت بتخيّط كتير، وأنا طبعاً كنت بخيّط كمان. كمّلت خياطة حتى بعد ما توفِّت، (وينخفض صوتها أكثر وهي تكمل) كنت برضو أخيّط لولادي زي ما هيّ كانت تخيّطلنا ملابسنا”. جمل عادية لعلاقة حميمة بين أم وابنتها لكنها في حكاية ملكة تفسر المعنى. معنى هويّة عائلة تقولها بالإنكليزية: Generation, from one to the other، تقولها بضحكة الرضا عما فعلت وأنجزت وأرّخت عمراً.

تتشابه الشخصيات وإن أتت من بيئات مختلفة. تتشابه بالهجرة بين حياتين. بحنين واغتراب وخيبات بينهما. تتشابه بتثبيت ملكيتها كشواهد لحياتها وهويتها المترابطة بالرغم من تخلخلها وتشظيها، رغماً عن ذاكرتها المثقوبة.

يقول ماهر إنه قرّر الهجرة بعدما خسر الكثير من أصدقائه، وبعد تعرّضه للخطف والموت. ربما كان ذلك هو السبب المباشر، وربما كان شعوره بالاغتراب قد بدأ قبل ذلك بسنوات. ربما كان من يوم تاريخ صورة منزله الذي احتفظ بها وعرّف بها بصوت متقطع: “وهني عم يفكو القرميد القديم”. هي الصورة التي فضّل الاحتفاظ بها عوضاً عن هويته القديمة، التي لم يستخدمها في الحرب حيث لا وطن ولا مواطنين، تماماً مثل وسام الذي حمل معه بطاقة الصليب الأحمر الإنسانية وفضّلها على هويته الوطنية.

ممتلكات هامشية تحمل قيمة أصحابها خارج المادة والأرقام، يختصرها وسام بمثال أيقونته، فيقول: “بتفقد معناها بالمصاري اللي محطوطين فيها”، والمعنى هنا هو وجود الشخصيات. معنى الهويّة والتاريخ والذاكرة.

روايتنا الشخصية

شخصيات معرض “ممتلكات” تتقاطع بمروياتها مع حكاياتنا، وممتلكاتها العزيزة الموجودة في زوايا ذاكرتنا وتاريخنا الشخصي: ماكينة خياطة جدتي اليدوية هي ماكينة ملكة، وكوفية فرح هي كوفيتي التي علقتها لسنوات فوق رأسي الفتي المليء بأحلام التغيير، تجاورها صورة غيفارا وعبارته: “حتى لا يهبط العالم بثقله على كاهل المسحوقين”.  اندفاعة وسام بعد دوي كل انفجار، هو صوت زوجتي عبر الهاتف حين أهرع  للاطمئنان عليها، فتجيب بعد كل مجزرة : “ما عرفت شو بدي اعمل رحت ع المستشفى تبرعت بالدم”.

ذاكرة من احتجاج على الموت والحرب، مثل أغنية ميم التي تناقلتها عن أجدادها وغنتها جارتي سوسي قبل سنوات وسنوات. سوسي التي احتجزها القناص بسيارتها مع أطفالها ألكسي وجيرار، فنامت فوقهما ولم تستيقظ. هم عادوا إلينا، وأكملنا طفولتنا سوياً، وهي صارت أغنية أتذكرها بصوتها الشجي كلما مرت أمامي كلمات من قصيدة محمود درويش:  

يا الله

جرّبناك جرّبناك

من أعطاك هذا اللغز

من سمّاك 

من أعلاك فوق جراحنا ليراك

“نحن. الآن هنا، ضد التهميش وضد النسيان”: هذا ما يقوله معرض “ممتلكات”، وكل شخصياته وممتلكاتها البسيطة، التي هي أشبه بشواهد على مرورها ومرور الآباء والأجداد من قبلها على هذه الحياة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى