لماذا لم تخلق الانتخابات الكندية أي تغيير حقيقي؟
فادي شهاب
ترجمة علا برقاوي
بعد دعوة جاستن ترودو لانتخابات تشريعية مبكرة بلغت كلفتها ٦١٠ ملايين دولار، انتهت الانتخابات الكندية لعام ٢٠٢١. نتج عن هذه الانتخابات تجديد للوضع الراهن، المشابه لانتخابات عام ٢٠١٩.
لمرة أخرى، يجد الكنديون أنفسهم في مواجهة حكومة أقلية ليبرالية. فهل حققت انتخابات ٢٠٢١ تطلعات ناخبيها، أم أنها كانت مجرد مشهد ساخر؟ وماذا كانت حسابات ترودو لدى دعوته إلى الانتخابات؟
من المهم الإشارة إلى تاريخية انتخابات ٢٠٢١، لأنها أجريت خلال جائحة عالمية. يمكن لذلك أن يفتح المجال أمام آفاق أخرى خلال محاولتنا فهم المشهد.
قد يحتفي البعض بأداء الحكومة الكندية في إدارة جائحة كورونا، مثل قدرتها على توفير اللقاحات للسكان (رغم أنها اتهمت باتباع نهج إمبريالي بسبب سلوكها في احتكار اللقاح). قد تُظهر المعايير نجاحاً نسبياً في تعاملها مع الجائحة مقارنة بسوء تعامل دونالد ترامب معها، والذي ترك صدمة لدى الرأي العام حتى في كندا. إلا أن الجائحة كشفت عن أوجه قصور بنيوية وعميقة فيما يتعلق بقطاع الرعاية الصحية الكندي والأداء السياسي.
أحس الكنديون بالتهديد من انهيار نظام الرعاية الصحية خلال الشهور الفائتة. فقد واجهت ولاية أونتاريو تحديات خلال إدارة أزمة كورونا في موجتها الثالثة، وظهر فشل كارثي في نظام الرعاية الصحية في ولاية ألبرتا بسبب الإجراءات التي اعتمدها حاكمها جايسون كيني خلال الوباء.
وبما أن النظام الصحي في كندا يعاني من قصور كبير في معالجة الأزمات التي تسبب بها الوباء، يجب أن يدفعنا الواقع نحو مزيد من التقييم الضروري لنظام الرعاية الصحي، بدلاً من التعامي عن رؤية الحقيقة. فهذا التعامي سيؤدي حتماً إلى نتائج سلبية.
الواقع المؤلم يقول إن هشاشة نظام الرعاية الصحي الكندي خلال تعامله مع الوباء ليست هشاشة ظرفية فحسب، بل يمكن اعتبار الخلل بنيوياً في القطاع الصحي.
ومن جانب آخر، حرصت الحكومة الكندية على إعادة فتح الحدود الكندية-الأمريكية رغم انتشار الجائحة على نطاق أوسع في الولايات المتحدة. وقد أوضح ذلك أن صحة الكنديين وسلامتهم هي أمر خاضع للتسييس.
لقد أوضحت لنا الجائحة نهج ترودو في التفكير. فقد اعتمد الحزب الليبرالي خلال الانتخابات على أدائه الجيد في التعامل مع الجائحة، ويبدو أن هذه الاستراتيجية أثمرت نسبياً فقط، بسبب وجود الفشل الهيكلي في التعامل الجائحة.
يحاول الليبراليون إذن تقديم أنفسهم كخيار آمن وحيد أمام الكنديين، على اعتبار أن أي تحول سياسي نحو الأحزاب اليمينية سيعزز ظاهرة إنكار الحقائق العلمية. وقد أدى ذلك على الأرجح إلى تطويق جهود أرين أوتول (مرشح المحافظين وخصم ترودو) التي بذلها في حملته الانتخابية التي حاول خلالها توسيع شعبيته بين الكنديين.
مرة أخرى، لم يستطع ترودو الفوز بالأغلبية التي سعى إليها في الانتخابات الفيدرالية. وقد أتت هذه النتيجة بشكل جزئي كمحصلة لنهج أوتول التكتيكي، إذ اتخذ خطوات بعيدة عن الشعبوية المبتذلة في عهد ترامب، واختار بدلاً عن ذلك تبني نهج أكثر حرصاً على استمالة الناخبين عبر التسويق والدعاية.
قدم أوتول نفسه كيميني محافظ أكثر ليناً واعتدالاً. والمفارقة هنا أن هذا النهج المتمثل في إظهار اللين والتعاطف (على الرغم من أنه شكلي) هو نهج برع فيه ترودو، حتى أصبح كـ“علامة تجارية“ خاصة به.
استخدم كل من الحزبين (الليبرالي والمحافظ) الدعاية والتأثير والتصنع لتقديم نفسه على أنه أكثر تعاطفاً مما هو حقيقة. لكن هذا النهج الذي يتبعه الزعيمان السياسيان هو أقرب إلى التسويق المزيف.
حتى يومنا هذا، يواجه الكنديون تأثيرات سلبية لسياسات الحزبين المحافظ والليبرالي. هناك تحديات حقيقية يخلقها الكذب والرياء رغم تردّي الأداء الحكومي. لكن ما يجعل تسليط الضوء على الفروق الدقيقة بين بينهما هاماً (رغم محاكاة أوتول لنهج ترودو) هو الإشارة إلى أن اليمين مستمر بـ“تسمية الأمور كما هي“ في شعبويته.
يتوجب علينا أن نضع في الاعتبار بأن المحافظين هم أكثر عدوانية من الليبراليين في سعيهم نحو تحقيق مصالح الفئة الأغنى من الكنديين. يمتلك هذا الفرق بين الحزبين أهمية فائقة في المعادلة السياسية. فالمحافظون يسعون على الدوام إلى التضييق على الطبقات الأقل دخلاً. وفي ظل هذه المعطيات، تتراجع قدرة الكنديين على محاسبة الحزب الليبرالي بسبب مخاوفهم من خسارته الانتخابات أمام المحافظين، الذين يُعتبرون التهديد الأكبر.
يتطلب اتباع نهج نقدي متوازن، بعيد عن المبالغة أو الاستهانة بالاختلافات بين الحزبين، بروز أصوات تمتلك رؤى مختلفة وتمثّل فئات المجتمع.
على عكس ترودو، لاحظ الكنديون عموماً والصحفيون بشكل خاص كيف تجنب أوتول عن عمد الاعتراف بالعنصرية الممنهجة والمنتشرة في كندا. ورغم أن كثيراً من الكنديين يرى ترودو رجل أقوال لا أفعال، إلا أن إرين أوتول ما يزال بعيداً كل البعد حتى عن الأداء اللفظي عبر الاعتراف بالعنصرية على الأقل. ومهما كان الوجه اللطيف الذي من المفترض أن يحاول أوتول الظهور به مقبولاً لدى الناخبين، إلا أنه لن يُفلح إذا لم يستطع الإشارة إلى العنصرية الممنهجة في كندا، ناهيك عن مواجهتها.
يقطع ترودو الوعود باستمرار ويفشل في الوفاء بها، وقد شهد العالم ذلك حين أخلف بوعوده للسكان الأصليين فيما خص أزمة أنبوب الغاز. كيف يمكن للكنديين اليوم عدم اعتبار سلوك ترودو مقارباً لحكاية ”الراعي والذئب“؟
لم يكن الركود السياسي في كندا مفاجئاً، فهو نتيجة لتقييد الناس ضمن ثقافة الخوف وحلقة الجمود التي لا يمكن لهم فيها تحميل المسؤولية لليبراليين دون الخوف من مواجهة سيناريوهات أكثر فداحة في حال فوز المحافظين. وللأسف، يبدو أن هذه السياسة تنجح في إجبار الناس على الخوف والانقسام واتخاذ قرارات تعزز الجمود السياسي.
يتوجب على الكنديين تطوير قوة لافتة تستطيع حمايتهم من مثل هذه التكتيكات الانتخابية التي يمارسها الحزبان. ربما سيقود ذلك إلى تحقيق أهداف أكثر تقدماً لتحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية أكثر تشاركية، وأكثر إثارة للإعجاب.
إن الحلقة التي تضع الكنديين في مأزق الاختيار بين قبول الوضع الليبرالي الراهن وبين مواجهة الحزب المحافظ هي تحدٍّ طبقي حقيقي، تتطلب مواجهته الوقوف ضد الخداع السياسي على جميع المستويات، وتطوير المهارات ورفع مستوى إنتاج المعرفة، وتنظيم المجتمع بشكل جذري. يتطلب كسر تلك الحلقة إظهار سلوكيات مجتمعية تعتمد على الصدق والنزاهة، وهذا سيكون بحد ذاته تحدياً، لأننا كبشر لا نعرف إن كنا قادرين على مواجهته.