كيف أصبح جوردان بيترسون ملهماً للأبوية العربية

كيف أصبحت العدالة الاجتماعية مؤامرة خطيرة لدى بيترسون؟

ريناس مللي

سطع نجم عالم النفس جوردن بيترسون في السنوات الخمس الماضية، إذ تمت استضافته على القنوات التلفزيونية ونشرت محاضراته الجامعية على اليوتيوب، محصوراً بالمجتمع الغربي المتحدث بالإنجليزية. لكن اسمه بدأ ينتشر مؤخراً بين العرب والشرق أوسطيين مع نوع من الإطراء والإعجاب بأفكاره. لا يمكن حصر هذه الأفكار والمواضيع التي يتطرق لها بيترسون، لكن يمكن نسبياً توصيف الأيديولوجيا التي ينطلق منها، رغم أنه يدعي غياب الأيديولوجيا في خطابه، وهي خليط بين المحافظ المسيحي، وعقيدة السوق الرأسمالية المستمدة من كلاسيكيات آدم سميث. حيث أنه يحاول المحافظة على قيم الأولى بالهجوم على القيم الليبرالية السائدة عبر منظور الثانية.

عُرف بيترسون بأنه كبير مناهضي الأعراف والقوانين المتعلقة بحقوق المثليين في الغرب، بالتوازي مع رفضه القاطع لتعدُّدية الضمائر المتخطية لثنائية الجندر، وإنكاره  لوجود فروقات في الدخل في الدول الغربية بين الرجل والمرأة. يُعرف بيترسون أيضاً بعدائه للمنهج الماركسي الرائج في أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانيات في جامعات الغرب والحركات الطلابية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، عدا عن إنكاره التفوق الأبيض المصاحب للدفاع عن الأغنياء “الناجحين”.

تزايدت حركات نقد أفكار بيترسون، وتراجعت شهرته بعد مناظرته مع جيجك، إذ رأى كثيرون أن حججه كانت ضعفيفة خلال المناظرة. لكن، من الجدير بالملاحظة انتشار اسم بيترسون بين صفوف المجتمعات العربية المقيمة في شتات الغرب، أو حتى في بلادنا نفسها مؤخراً بعد استقالته من منصب البروفسور في جامعة تورونتو وتحوله إلى يوتيوبر، ينشر أفكاره لعموم الناس. 

السؤال هنا من الذي يستهدفه بيترسون؟ ولماذا يقع بعض المهاجرين في حبه؟ يجعلنا السؤال الثاني نقف في مواجهة مفارقة عقيمة، بين النظرية والجمهور، حيث نواجه رجلاً ينشر خطاب كراهية مُبطن يعزز الامتيازات الطبقية وينكر التفوق الطبقي والرمزي، وجمهور مهاجرين مهمش، يعيش ظروف الطبقة الدنيا، ويقع في غرام بيترسون وخطابه هذا.

عن رفض اليسار بوصفه مؤامرة

ينطلق بيترسون برفضه لأي أيدلوجيا يسارية باتهامها بأنها تخترق الثقافة الديمقراطية الغربية عبر مؤامرة ماركسية تسعى للعبث بطبيعة الإنسان وصحة المجتمع الطبقي. شهرة بيترسون عائدة إلى تمسكه الصريح بتصور الهرمية الاجتماعية، التي يفترض من خلالها، ودون مواربة، حتمية طبقية تبرر تقسيم سوق العمل بين الأغنياء النشطين والفقراء الكسالى، وحتمية جندرية تقسم السوق حسب مزايا كل نوع جندري كاستجابة فعالة لطبيعة البشر. يجادل مثلاً، بدون أي تشكيك، وحسب “الفهم السيكولوجي لشخصية المرأة”، بأن عملها كممرضة يتجاوب مع طبيعتها كأم قادرة على تقديم العناية والرعاية، وأن الرجال في المقابل قادرون بطبيعتهم على إدارة الأعمال الصعبة مثل حفر منجم. وبالطبع فإنه يعمل بجهد على استعادة وتبرير الهرمية الاجتماعية عبر بديهيات نظرية التطور التي نسي -وهو الذي يدعي دراسته المطولة للنازية- توظيفها الوحشي في مخطط الإبادة النازية لليهود.

نحن في مواجهة فكر ليس بجديد، إنما قديم محافظ يستدعي الثوابت ويتحرك ضمنها بمظهر درامي للمُضطهد المُتألم من عنف “الصوابية السياسية”، يدعي نظرية علمية بحتة بسبب طبيعية المنهج البحثي القائم على المراقبة المباشرة ما بين الاجتماعي والبيولوجي، بالتالي يصدر نفسه على أنه أكثر مصداقية من باقي الباحثين في العلوم الإنسانية.

 حقق بيترسون شعبية كبيرة قائمة على وجود طبقة من اليمين المتطرف الذي يتوافق مع آرائه ويعيد استخدامها للخوض في صراعات طبقية-عنصرية. يتحفظ محبو بيترسون على الاتهامات الموجهة ضده، لأنهم يرون فيه إنساناً “صاحب حساسية رفيعة” تميزه عن باقي التيارات، خاصة وأنه يرفض نعته باليميني، ويصف نفسه بالليبرالي الكلاسيكي. لكن ما يتناساه جمهور هذا الباحث أنه وجد لنفسه مكاناً مع اليمين الكاره للغريب والمُشيطن لليسار وسياساته، خاصة لدى ظهوره المتكرر مع أصوات يمينية مثل بانشبيرو. هو لا يتوقف عن التنديد باليسار والماركسية والاشتراكية وما بعد الحداثة وتفرعاتها -علماً أن الأخيرة في موقع مختلف من السابقين- حيث أنه حاك نظرية مؤامرة في قراءته لتاريخ الأفكار، قائلاً إن الحقيقة المستتر عليها عائدة على أن الماركسية تطورت في خطاب ما بعد الحداثة ضمن معادلة “مضطَهد ومضطهِد” بدلاً من “عامل ورأسمالي”، من أجل التخفيف من نجاعة الحرية الفردية. بلاغة هذه المؤامرة التاريخية أعطت اليمين الغربي منفذاً جديداً لتعزيز الهجوم على أي نقد بنيوي للمؤسسات أو الطبقة، إذ يرى بيترسون في هذا النقد توسع أيديولوجي يساري من أجل الاستيلاء على الدولة الغربية.

الفرد الناجح مقابل العدالة الاجتماعية

إن مخطط الأفكار ومنظومة القيم التي يقدمها بيترسون قائمة على عنصرية طبقية تبرر أي شكل من سياسات الكراهية والاضطهاد. فعندما نقلب بين صفحات بيترسون ونستمع لأفكاره نلاحظ مركزته للفرد وتغييبه للجماعة في أي أسلوب مخاطبة ينخرط به. هذا يعود أولاً إلى خلفيته العلمية كسيكولوجي، حيث أن محط الدراسات السيكولوجية هو الفرد وخصوصية تجربته وجهازه العصبي وتركيب شخصيته. ثانياً، إيمانه بمركزية الفرد حسب الفهم الرأسمالي للعلاقات الاجتماعية، حيث أن الفرد هو موضوعة السياسات الحيوية والاستهلاك، وفي الوقت نفسه، ذاتٌ ديمقراطية ومنتجة، تعمل دائماً على خُطا السوق النيوليبرالية ومبدأ المنافسة الذي يفترض عملياً نجاح الفرد، مبرراً ذلك بأن السوق “محايدة” و”عادلة”، ويتفوق فيها بعض الأشخاص على الآخرين في تحقيق الربح وتراكم رأس المال. 

الفرد عند بيترسون هو عنوان النجاح الوحيد، والجماعة تمثل مسار الفشل والكسل؛ الفرد يحدد ما يريد عبر فهمه لقوته المضمرة في خبايا “شخصيته”، وتعزيز مزاياها من أجل  إنتاج أكثف. يعزز بيترسون فكرته هذه بالعودة إلى أفكار نيتشه لتنمية الذات، التي ينصح الفرد من خلالها بالنظر إلى نفسه من أجل فهم قوته أو ضعفه وعدم التطلع إلى تحقيق ما هو خارج عن مدار إدارته الذاتية. ليكمل، بناء على ذلك، أهمية عدم الانشغال أو إحالة مشاكلنا إلى عوامل بنيوية خارجة عن نطاق قدرتنا على التغير في المستوى الشخصي، أي -وقالها بيترسون مراراً- لا تنخرط بالسياسي في النطاق العام: انشغل في نطاقك الخاص؛ انشغل بترتيب فراشك.

خطاب بيترسون ذو حمولة تمييزية إقصائية ذات بعدين: مؤسساتي وعنصري-طبقي. هذا التميز قائم على طبقية الإيمان بالفرد الرأسمالي، فمن هو قادر على الدخول في المجتمع الغربي حاملاً طموح النجاح وممتلكاً قدرات منافسة مالية، مرحبٌ به. ومن كان مؤمناً بطبيعته الدونية ضمن تقسيمات العمل، ولا يحاول التغير ضمن القيم المؤسساتية، كزواج المثليين والمطالبة بدخل أعلى ومساواة الدخل ضمن المؤسسات، فهو أيضاً مرحب به. الترحيب الثاني، ليس كرماً أخلاقياً من السيد بيترسون، إنما هو إيمان منه بأن اقتصادات السوق الرأسمالية لا تعمل دون يد عاملة منتجة، وبغيابها يحدث خلل في الطبقات العليا من تشكيلة الهرم هذه، بالتالي، أهلاً وسهلاً باليد العاملة لا السياسية.

الوقوع بغرام بيترسون عربياً ليس وليد إساءة قراءة أفكاره من قِبل الجمهور العربي، لكن الترحيب بهذا اليوتيوبر وانتشار أفكاره قائم على توافق أيديولوجي، عابر للثقافات. ينطلق جزء كبير من هذا الترحيب من كونه فكر أبوي مشترك بين الغرب والشرق. بيترسون يقدم للأبوية العربية ما يمكنها تبنِّيه دون أي تعديل. هذا الفهم المشترك أكيد، لكنه خيط واحد من أفكار بيترسون، يعمل عليه كل مرة كمقدمة للولوج في مخططه المفاهيمي.

شعبية بيترسون في المجتمعات غير الغربية تعود بشكل أساسي لتصور السوق الرأسمالية القائم على نجاح الفرد النشيط صاحب طموح الثروة. هذا المبدأ مشترك بين بيترسون والكثير من البشر المتعطشين لتبريرات وخطابات قيم الفردانية الناجحة في معادلة التنافس وحكم السوق. يوجد لهذا النمط من التفكير أصول تعود إلى نظريات التطور، القائلة إن التطور في مجتمع ما يكون فردياً، وأن قدرة الكائن الفرد تكمن في الاستمرار والنجاة، وأن عدم القدرة على الاستقرار والنجاة سببه السلوك التعاوني لبعض الكائنات. بيترسون لا يطرح أي جديد، إنما يعود إلى الطبيعي، ما قبل الثقافي، حيث أن الحياة مُبَرَّرة بذاتها، والهرمية الاجتماعية مظهر “حضاري” يعطي الاستحقاق لأصحاب التفوق المادي والرمزي.

بعض ممن يستجيب ويدافع عن بيترسون هم رواد أعمال طامحين بالثروة والانتماء إلى طبقة الرجال البيض الفخورين بفردانيتهم، والذين يرون أن الأفكار اليسارية التي تحاول تحقيق عدالة اجتماعية وجندرية تحاول زعزعة مكانتهم المؤسساتية، التي تمنحهم التفوق المادي والرمزي عن أنفسهم وأسلافهم ومواقعهم في العالم. إن كان بيترسون يشغل قلوب الكثير من رواد الأعمال الجدد والمؤمنين بالهرم الاجتماعي، فإننا بمواجهة ظاهرة شعبوية أكاديمية، مشابها لشعبوية ترمب السياسية. 

استثمر ترمب بفئات يمينية غاضبة مقتنعة بأن خطابات وحركات اليسار الرائج والمهاجرين تهدد مكانتهم الرمزية وتتغلغل في الأيديولوجيا الاجتماعية من أجل السيطرة على المؤسسات، والثاني يغازل كيانية الفرد علناً، ويتحبب لأصحاب الهوى اليميني، كارهي الآخرين، على أمل تخريب صدى اليسار في المؤسسات الأكاديمية والسياسية من أجل تمجيد النجاحات الفردية. ذلك الطريق الذي يحافظ على حيوية “الهرم الاجتماعي” ضد أي شكل من أشكال سياسات العدالة الاجتماعية-العرقية وبقايا الوعي الطبقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى