عن تشابه الأضلاع المتهشمة

مصعب النميري

تورنتو، مونتريال، أوتاوا، فانكوفر، كالغيري، هاليفاكس.. هي مدن كندية كبرى غصت بالمتظاهرين الداعمين للقضية الفلسطينية في ذكرى النكبة، إلى جانب مدن وعواصم أخرى حول العالم. احتجاجات شارك فيها الملايين عكست حجم التضامن الواسع والاستثنائي مع قضية فلسطين التي احتلت صدارة عناوين الصحف واكتستحت تريندات وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة.

لا تبدو هذه المظاهرات كمظاهرات التضامن العادية مع قضايا تجري في بلدان بعيدة، فالحشود الغفيرة المُشاركة فيها تشير إلى أنها تتقاطع مع قضايا محلية إو إنسانية كُبرى، لا تتحرك فيها الجموع إلا حين تتعرض القيم المُطلقة، كالحرية والعدالة والمساواة، للتهديد المباشر من قبل أنظمة طاغية ترسخ حكم القوة والسلاح والقهر وتدوس على الكرامة البشر وبديهيات حقوق الإنسان. 

في مدينة كتورنتو مثلاً، لم تتجمع هذه الأعداد من الناس في ساحة المدينة الكبرى وتسد الشوارع المؤدية إليها منذ فوز فريق تورنتو رابتورز لكرة السلة في بطولة الإن بي إيه. كانت تلك مناسبة شبه وطنية غصت فيها الشوارع بالناس إلى وقت متأخر من الليل. ما جرى في ذكرى النكبة كان مُشابهاً لذلك، والتضامن الواسع على هذا النحو يُمكن ملاحظة تأثيره على الوعي العام في بلاد مثل كندا، كان شبه مُحرّم فيها انتقاد اسرائيل على نحو حاد، واليوم يسير عشرات الآلاف في شوارعها حاملين الأعلام الفلسطينية، فيما تحييهم زمامير السيارات والراجلون على ضفاف الرصيف المقابل. 

أظهرت هذه الاحتجاجات الواسعة قدرة المجتمعات العربية المؤمنة بالتحرر في بلاد الشتات على الحشد والتأثير على المزاج العام. وأضاءت أيضاً على ملامح تحوّل خرج فيه “اللاجئ من الشرق الأوسط” من خانة الضحية المغلوبة على أمرها، ليصبح فاعلاً وصاحب صوت. لم يعد الفلسطيني مثلاً مادة لتدوير الخطاب الإعلامي المُرسخة للصورة الغائمة والحيادية إزاء ما يجري في بلاده، وإنما صار صانعاً لهذا الخطاب وقادراً على إعادة نحته بعد إدراك تقاطع قضيته مع قضايا العدالة الأخرى. وهذه مناسبة لإدراك أدواتنا والمساحات القادرين على التحرك فيها كأصحاب قضايا لها صلة بالعدالة والتحرر والديمقراطية والمساواة في بلدان الشتات. 

هذا التقاطع الحيوي بين القضايا المتشابهة مع مجتمعات مُهمشة حول العالم من المهم إدراكه والعمل عليه على نطاق محلي عربي لإعادة وضع قضية فلسطين في سياق مُنسجم مع حركات التحرر العربية الأخرى، لا في مكان يناقضها، فالقمع والتهميش والطغيان والاستباحة هو واقع المواطن العربي ومواطني الشرق الأوسط اليوم، وترتكبه الأنظمة المُطبّعة مع اسرائيل والأنظمة التي تدّعي مقاومتها بالقدر ذاته. 

لقد تأثر زخم النضال الفلسطيني باندلاع ثورات الربيع العربي التي انطلقت في العقد الماضي، وأحلّت تلك النضالات المحلية في مواجهة الأنظمة المستبدّة القضية الفلسطينية في موقع متراجع عن ذلك الذي احتلّته على مدى عقود كقضية مركزية. لا يُلام على ذلك النشطاء والثوار المناهضون للاستبداد، وإنما تُلام الأنظمة القمعية والميليشيات التي حوّلت بلدانها إلى جحيم تنسدّ فيه كل آفاق التقدم والتنمية والقدرة على الكلام.

لقد حاولت اسرائيل الاستفادة من صورة الأنظمة التي تطحن شعوبها لتصدير خطاب مفاده أنها “الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، وأن مُعاملتها للفلسطيين “أفضل من معاملة الأنظمة العربية لشعوبها”. هذه الأسطورة، التي لم يؤمن بها حتى قائلوها، تتداعى اليوم أمام صور الجنود والمستوطنين الذين يستبيحون كرامات الناس وبيوتهم. وكان متوقعاً وطبيعياً وجود هذه المشاركة الواسعة لأبناء الثورات العربية في الاحتجاجات المناصرة لفلسطين. 

لا يُمكن لأي طالب حرية وعدالة في أي مكان تجاهل أحقية أبناء فلسطين في الحرية واستعادة الحقوق، ولا ينبغي لأبنائها أيضاً، الذين يعرفون جيداً مرارة الطغيان وندوب السجون الغائرة في الروح والوجدان، إنكار حق أي أحد آخر في الحرية واستعادة الكرامة المهدورة على يد أنظمة ومليشيات تسطو على الحاضر والمستقبل بالسلاح والأصفاد وتهجّر مواطنيها بالملايين. نقول هذا من موقع مُحبّ وحريص. الأنظمة القمعية تتشابه، مثلما يتشابه مناهضوها بالصوت المبحوح والأضلاع المتهشّمة من ضرب الهراوات.   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى