عن أهمية أن تكون على خطأ 

كيف نستفيد من أخطاء مفكري النهضة العربية؟

شاونا مكلين 

طالبة في السنة الرابعة في جامعة تورنتو تدرس العلاقات الدولية، والسلام والعدالة، وحضارات الشرق الأدنى والأوسط. يركز عملها بشكل أساسي على تراجع الديمقراطية وحقوق المرأة والمعايير الدولية. تعمل حالياً كرئيسة لكلية ترينيتي.

هذا المقال جزء من ملف “النهضة العربية بعيون معاصرة”، الذي يصدر ضمن مشروع التعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. خلال هذا المشروع يقدم محررو حنا الاستشارة التحريرية لطلاب البكالوريوس والماجستير بهدف نشر مشاريع تخرجهم على موقع حنا. تقرأون في هذا الملف المقالات التالية: المفكرون المعاصرون في العالم العربي لـينس هانسن، التعافي الثقافي بعد الهزيمة لتيموثي بوضومط، محاولات تعريف الذات في عوالم متغيرة لمصعب النميري،  طه حسين وديالكتيك النهضة العربية لكوين كوين تيج-كولفر، النهضة العربية من منظور نسوي لسارة مولاي.

ترجمة علا برقاوي

تشكل الفجوة في المعرفة عائقاً كبيراً أمام محاولة التأكد من أننا على الطريق الصحيح لدى مواجهة أسئلة شائكة ومعقدة تتعلق بمسألتَي الهوية الثقافية والسلطة. جميع السبل التي نسعى من خلالها إلى العثور على أجوبة مبنية على فرضيات واعتبارات فلسفية تتأتى من مساحة شخصية عميقة لمعالجة ظواهر كبرى. بيّنت الكاتبة الأمريكية بيل هوكس أهمية التنظير لدى كتابتها عن نهجها التحرري بقولها إن ”التنظير ينبثق من الواقع، ومن الجهد الذي أبذله لفهم تجارب الحياة اليومية والرؤية النقدية لمجريات حياتي وحياة الآخرين من حولي.. وبينما نعمل على حل المشكلات الأكثر إلحاحاً في الحياة اليومية، ننخرط في نهج نقدي للتنظير يمدُّنا بالقوة والقدرة على فحص تلك المشكلات“ (هوكس 1991، 11). في هذا السياق، لا يصبح التنظير تطويراً لحلول، بل “تطويراً للاستكشاف على المستوى الشخصي”. 

عندما نتعامل مع التاريخ، فإننا نتأثر بعواطف وطرائق التفكير الخاصة بالمفكِّرين الذين يمكن لهم أن يكونوا بعيدين كل البعد عن طريقة تفكيرنا، وفي الوقت ذاته يكتبون بالعقلية التي يفرضها حاضرهم. تصبح دراسة التاريخ، ضمن هذا الإطار، منطلقة بشكل كبير من منظور حديث. فترة النهضة العربية، التي حصلت بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، هي واحدة من الفترات التي يمكن الاستفادة منها في دراسة التاريخ. ركز أدباء النهضة على  فهم الهوية والثقافة خلال فترة زاخرة بمحاولات التغيير وواجهوا تحديات هائلة بطريقة تحمِل عدم اليقين والتفاؤل بالقدر ذاته وفي آن واحد. يمكننا في الوقت الحاضر الكشف عن فهم جديد خاص بنهجنا الفكري، وعن كيفية تأريخ كتابات مثقفي النهضة وعدم اليقين الذي تعرضه أعمالهم، من خلال الاستنارة بالاستكشافات الشخصية الخاصة بهم وفهم أطُر عملهم. 

كتب الأديب طه حسين في فترة مليئة بالتشابكات شهدت تغيراً على الصعيد الاجتماعي والسياسي في مصر. أصدر حسين العديد من الروائع الأدبية قبل أن ينتقل إلى الكتابة في المجالات السياسية في محاولة لخلق نوع من الوعي في التعليم والمجالات الثقافية في بلد يتحرر لتوّه من الاستعمار. كركيزة أساسية لفلسفات عصر النهضة، نادى حسين بإحياء الثقافة العربية عبر الاحتذاء بالمؤسسات والفلسفات الأوروبية التقليدية.

 قيمة نتاج حسين الفكري مختلَف عليها على اعتبار أن بعضاً من مفكري الحداثة وفترة ما بعد الاستعمار ينتقدونه لكونه أديب نخبوي أعَمته الثقافة الأوروبية التي تعمل على طمس الهوية العربية. يُولّد التأثير المستمر للقوى الإمبريالية في المنطقة والنظرة السائدة نحو الثقافة العربية على أنها أدنى أو أقل تطوراً حالة من الإحباط في أفكار النهضة (أحمد 2018). يظهر هذا الاتجاه جلياً في بعض من كتابات حسين، حين تحدث عن مخاوفه المتعلقة بمستقبل الثقافة في مصر وقال: ”أريد كما يريد كل مصري مثقف، محب لوطنه، حريص على كرامته، ألا نلقى الأوروبي فنشعر بأن بيننا وبينه من الفروق ما يتيح له الاستعلاء علينا، والاستخفاف بنا، وما يضطرنا إلى أن نزدري أنفسنا ونعترف بأن لا يظلمنا فيما يظهر من الاستطالة والاستعلاء“ (حسين 1938). ضمن سياق أكبر ينحو إلى إبعاد مصر عن العقلية ”الشرقية“ من خلال ربط الحركتين الثقافيتين في مصر واليونان القديمتَيْن، يتجاهل حسين في الغالب تأثير الإسلام على الثقافة المصرية، مشيراً إلى أن الطريق إلى التساوي الحضاري مع الأوروبيين هو اعتماد نهجهم كما هو. تبدو تلك نظرة إمبرالية أو محابية من شخص لم يكف عن الدعوة إلى سَنِّ إصلاحات داخل الثقافة المصرية، وهي تقدم تفسيراً لملامح الحيز الشخصي الذي انبثقت منه نظريته.

يتناول الكاتب الأمريكي ديفيد سكوت مطولاً النقد في مرحلة ما بعد الاستعمار، ويقدم استراتيجيات حول كيفية التفاعل مع النظريات التي تطورت في تلك المرحلة. أحد أهم الملاحظات التي يذكرها سكوت هي أنه ”لا يمكن الافتراض مقدماً معرفة السؤال في سياق يفرض النص فيه نفسه كإجابة“ (سكوت 1990). يجب على النقد أن يكون استراتيجياً، وأن يدخل بشكل ملائم إلى المساحة الإشكالية للكاتب من أجل فهم سياق أساسات النص ومخاوفه وأهدافه والحلول المتصورة القابلة للتطبيق عليه. بصفته شخصية فكرية وأدبية وجدت شغفها عبر خلفيته التعليمية في أوروبا، سخّر طه حسين هذا الشغف لخدمة مشاريعه التطويرية للتعليم والثقافة. كانت ”حلول“ حسين فردية بطبيعتها، وقد عمل على تطويرها مما اكتسبه من معرفة مسبقة.   

ليس الهدف من هذا البحث الدفاع عن الخلل في نظرة طه حسين للثقافة المصرية وتطويرها، بل طرح القيمة الكامنة وراء كثير من نتاجه الفكري، ألا وهي الإدراك بأنه كان على خطأ. في تلك الفترة، برز العديد من المفكرين الشباب الذين أتيحت لهم الفرصة لرفض أو دحض أو مناقشة أفكار حسين ضمن بيئة من ”التجاذبات الاجتماعية أو النقاشات السياسية الشرسة أو عبر الانخراط الثقافي الجاد بين كل من الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي والمنهجيات التعليمية والبحثية الأوروبية المعاصرة“ (أحمد 2018، 10). لا يستطيع المثقفون التنبؤ بالمستقبل عبر الكتابة، وطه حسين عرض رؤيته للحلول من منظور آني. في حين كان العديد من المفكرين قادرين على تمييز الأثر السلبي للاستعمار على المجال الثقافي، يجدر القول أيضاً إنه من الممكن العثور على كثير من تلك الآثار في خطاب الأدباء والمفكرين. طه حسين نفسه اختار أن يرسم ملامح الثقافة المستقبلية في مصر باقتباس لأبي العلاء المعري يمكن له أن يكون بمثابة إرشادات لقراء حسين، يقول: ” خُذي رَأييِ وحَسبُكِ ذاكَ مِنّي.. على ما فيَّ من عوجٍ وأَمتِ“. يصبح الخلاف إذن وصفة سرية للثقافة الفكرية الحقة، إذ إن مثقفي الأجيال السابقة يقدمون إجابات للمفكرين المستقبليين، ويساهمون في خلق مجتمع قادر على الخروج من مآزق جيل سابق حاول إيجاد حلول تم رفضها أو إعادة تشكيلها أو تهميشها.

أتفاجأ من حين لآخر عندما أدرك أنني كنت أقل إدراكاً وفهماً في لحظة ما. من بين أجمل الاستكشافات خلال عمليتك التعليمية هي الانتباه لأخطائك وللفجوات في منطقك الخاص والحقائق المتوفرة التي بإمكانها أن تغير رأيك في شأن ما. من المؤكد أن أهداف دراستي شخصية للغاية، فلا بلد يعتمد على كفاءاتي ولا شعب أو ثقافة يجب أن أعمل دون كلل للدفاع عنهم. مع ذلك أجد أنني أتعلم من الأفكار الملتبسة والاختلاف في الرأي أكثر مما أتعلم من فهمي المباشر للأفكار. قدَّم لنا كتّاب النهضة أسئلة هامة، إن لم تكن إجابات. بناء على ذلك، يمكن للمشادة والقدرة على الاختلاف والدفاع عن الحجة أن تنتج مشروعاًً قيماً وضرورياً في سبيل العمل على إنهاء الاستعمار أو بناء الدولة.

المصادر 

أحمد، حسام ر. “النهضة في البرلمان: سيرة طه حسين. مؤسسات المعرفة، 1922-1952”. مجلة الدراسات العربية 26، (2018): 8-32.

هوكس، بيل. “النظرية كممارسة تحريرية”. مجلة ييل للقانون والنسوية 4، عدد 1 (1991): 1-12.

حسين، طه. مستقبل الثقافة في مصر. 1938

سكوت، ديفيد. “نقد ما بعد الاستعمار”، في ريفاشونينغ فيوتشرز. برينستون: منشورات جامعة برينستون، 1999.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى