طه حسين وديالكتيك النهضة العربية 

عن مخاطر تبني فكر التنوير والحداثة دون نقد  

كوين تيج-كولفر 

طالب في السنة الرابعة، متخصص في العلاقات الدولية والأدب الفرنسي والألماني في جامعة تورنتو.

هذا المقال جزء من ملف “النهضة العربية بعيون معاصرة”، الذي يصدر ضمن مشروع التعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. خلال هذا المشروع يقدم محررو حنا الاستشارة التحريرية لطلاب البكالوريوس والماجستير بهدف نشر مشاريع تخرجهم على موقع حنا. تقرأون في هذا الملف المقالات التالية: المفكرون المعاصرون في العالم العربي لـينس هانسن التعافي الثقافي بعد الهزيمة لتيموثي بوضومط، محاولات تعريف الذات في عوالم متغيرة لمصعب النميري، النهضة العربية من منظور نسوي لسارة مولاي، عن أهمية أن تكون على خطأ لشاونا مكلين.

ترجمة: مصعب النميري

يقول الكاتب اللبناني إلياس خوري في مقاله “لأجل نهضة ثالثة” إن هذه النهضة “تتطلب تسمية الأشياء بمسمياتها، فالعالم العربي لا يمكن له النهوض دون إدراك الهزيمة” (خوري 2018، 367). يذكرنا خوري أن التنوير لا يتم عبر رفض الماضي ولا عبر تبجيله، وإنما في تشريحه ومعاينة مكامن الضعف فيه. للاستحابة إلى دعوة خوري وسواه من المفكرين الداعين إلى نهضة ثالثة ومواجهة الأزمات المتراكبة التي تواجه العالم العربي المعاصر، لا بد لنا من دراسة أخطاء الماضي لدى التعامل مع أزمات مشابهة لما يحدث اليوم. الانخراط الفاعل مع المحاولات الأولى للخلق والتنوير هو أمر أساسي لأجل هذه النهضة المأمولة، مع الأخذ بعين الاعتبار النقد الذي طال فشل رواد النهضة في مطلع القرن العشرين، إلى جانب الاعتراف بسداد محاولاتهم في بعض الأحيان. القراءة المعمّقة لكتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر تتيح لنا مدخلاً إلى هذا النوع من النقد. 

غالباً ما يتم انتقاد طه حسين (الملقّب بعميد الأدب العربي، والنهضوي الأخير) بسبب طرحه النخبوي والليبرالي لدى التفكير في القومية المصرية (دي كابوا 2018، 1047-1075).  كتاب مستقبل الثقافة في مصر هو واحد من أهم أعمال طه حسين، وقد نشر عام 1938 قبل بداية الحرب العالمية الثانية، إذ يدعو فيه حسين إلى الاحتذاء بالثقافة والمؤسسات السياسية الأوروبية في مصر بعد الاستقلال (حسين 1938، 2). يجادل حسين في كتابه بأن النتاج المعرفي في مصر القديمة كان أساسياً في تطوير الفكر الإغريقي، مستشهداً بدور النصوص الإغريقية، التي حُفظت في مصر خلال العصور المظلمة، وتأثيرها على النهضة الأوروبية (حسين 1938، 4، 8-9). يطرح حسين فكرة أن هذا التاريخ المعرفي المشترك يمنح المصريين “عقولاً أوروبية” تختلف عن تلك التي لدى جيرانهم المشرقيين (حسين 1938، 4-7).  ولهذا يرى أن على المصريين تلقي التعليم الأوروبي للحاق بركب الأوروبيين (حسين 1938، 14). دعا حسين، كسياسي وإصلاحي، إلى ديمقراطية برلمانية، وعمل بعد انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 على بناء أساسات النظام التعليمي في مصر (أحمد 2018، 10-11).

يفصل كتاب حسين بين الواقع الموحش للحداثة الأوربية وأصوله المعرفية،  فالأهوال الإمبريالية والفاشية هي مجرد حواشٍ في مسيرة الحداثة الصناعية، وهو بالكاد يعرّج على ضرورة تفادي الإمبريالية (حسين 1938، 15). يدافع حسين عن العودة إلى الفكر الكلاسيكي الأوروبي دون التوعية بخطر الإمبريالية والفاشية، وبكيف يمكن لمصر تجنب الوقوع في هذا المصير. يستشهد حسين باليابان، التي حظيت بالاحترام بسبب تقليدها النهج الأوروبي، كنموذج للتنمية المصرية، مُتجاهلاً النزعة المادية والقومية المتطرفة فيها (حسين 1938، 14).

يغيب عن منظور حسين الثنائي (بوصف المعرفة إما شرقية أو غربية) الإنتاج المعرفي في إفريقيا والأمريكيتين، وكأنه بذلك التجاهل ينفي قدرة هذه الأماكن على إنتاج المعرفة. ولكن يجب وضع رغبة حسين في تأطير بلاده ضمن سياق المعرفة الأوروبية المهيمنة في سياقها الزمني. ذلك أن كتاب مستقبل الثقافة في مصر نُشر قبل خروج مصر من عباءة الاستعمار، وبالتالي قبل أن يجتاح الفكر المناهض للاستعمار البلاد المُستمَعرة. يجب أن نتفهّم محاولة حسين للانخراط بالنهضة بالأوروبية وتقدير إسهامات هذه المحاولة في بناء الأمة المصرية، بغض النظر عن التناقضات التي تنطوي عليها. 

معاصرو حسين من الألمان اليهود في جامعة فرانكوفورت قدموا رؤى في عالم ما بعد  الحرب حللوا فيها أمراض فكر التنوير (وبالمحصّلة كتاب حسين)، وكان من بين هؤلاء ثيودور أدورنو وماكس هوركهايم في كتابهما “ديالكتيك التنوير”. يقول أدورنو وهوركهايم، على ضوء تروما الهولوكوست، خلال محاولتهم لفهم انحدار مجتمعات يُفترض أنها “مستنيرة” إلى فعل الإبادة إن “الأسطورة تعدّ تنويراً، والتنوير يعود إلى الأساطير” (أدورنو وهوركهايم 2022، xviii).

يقترح الكاتبان أن الأسطورة والتنوير يسعيان لتجاوز الخوف الوجودي عبر التحكم بالطبيعة (أدورنو وهوركهايم 2022، 10). التنوير والأسطورة يتشاركان منطقاً واحداً مهووساً بـ”الكشف”، تتم فيه تهدئة الخوف الوجودي من الطبيعة عبر التحكم بعناصرها (سيدجويك 2002، 141). تتم إعادة تكوين الطبيعة عبر ذاتية البشر، إذ تسمح الأسطورة بتطبيق الذاتية على الموضوع، ويتم استخدام التنوير لجعل طبيعة الشيء قابلة للقراءة (أدورنو وهوركهايم 2022، 4). يجادل أدورنو وهوركهايمر بأن التنوير هو تعبير راديكالي عن الخوف الأسطوري، يحاول جعل الحياة برمّتها خاضعة للمنطق. تتجسد في الهولوكوست وحشية التنوير الذي تصبح فيه الرغبة بالتحكم والاستغلال والإخضاع شمولية. هكذا، تصبح الأطر المعرفية والخطاب الحضاري الذي وظفه حسين وأقرانه الليبراليين فاعلة في الانحدار نحو الوحشية. فكثيراً ما قاد تبنّي المعرفة الأوروبية دون انخراط نقدي إلى فرض منطق سلطوي عنيف. لا يمكن أيضاً اعتبار الإمبريالية بلاء أوروبياً فقط، ذلك أن جلّ المعارف المستمدّة من الفكر الأوروبي يتجذر فيها الخوف والرغبة بالتحكم، وهي معرّضة لهذا الإغراء. 

القيمة التحررية لكتاب طه حسين لسيت فيما يدعو إليه، وإنما في النقد الجوهري الذي يدفع إليه القارئ في القرن الحادي والعشرين. حالنا كحال حسين، فنحن نعيش في وقت مليء بالتحديات والأزمات المتشابكة، والمعارف التي وصلنا إليها لم تكن محض استجابة لأحداث تاريخية مضت وإنما اشتباك مع تطورها. إذا كان الفكر العربي له دور مؤثر التاريخ الأوروبي قديماً، فيجب على هذا الفكر امتلاك القوة  ليس فقط للتأثير في المستقبل العربي، وإنما الأوروبي أيضاً. 

ثمة حاجة إلى معرفة جديدة تقود إلى مُساءلة منهجية؛ مُساءلة ليست مدفوعة بالخوف والرغبة بالتحكم، وإنما بالتفكير والتحرر. لا يُمكن لأي نهضة أن تحدث إلا عبر الانخراط الفاعل مع أفكار رواد النهضة، الذي نستخدم فيه النقد المنهجي لكتاباتهم بأطر معرفية جديد. فدون امتلاك القدرة على النقد الصارم، لا يمكن أن نأمل بمواجهة المشكلات دون تذاكر عبور من وقتنا الحاضر. 

المصادر

.

أدورنو، ثيودور وماكس هوركهايمر. جدلية التنوير: شظايا فلسفية. ترجمه إدموند جيفكوت. ستانفورد: منشورات جامعة ستانفورد، 2002.

أحمد، حسام ر. “النهضة في البرلمان: سيرة طه حسين. مؤسسات المعرفة، 1922-1952”. مجلة الدراسات العربية 26، (2018): 8-32.

دي كابوا، يوآف. “الوجودية العربية: فصل غير مرئي في التاريخ الفكري لإنهاء الاستعمار”، أمريكان هيستوريكال ريفيو (2012): 1061-1091.

حسين، طه. مستقبل الثقافة في مصر. 1938

خوري، إلياس. “من أجل نهضة ثالثة”. ترجمة ماكس ويس وينس هانسن. في الفكر العربي ضد العصر الاستبدادي: نحو تاريخ فكري للحاضر، تحرير ينس هانسن وماكس ويس، 357-369. منشورات جامعة كامبريدج، 2018.

سيدجويك، إيف. “القراءة المرتابة والقراءة الإصلاحية”. في تاتشينغ فيلينغ، تحريربارال وجولدبيرغ ومون: منشورات جامعة دورها ، 2002.

سكوت، ديفيد. “نقد ما بعد الاستعمار”، في ريفاشونينغ فيوتشرز. برينستون: منشورات جامعة برينستون، 1999.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى