شهادات تنسف دعاية “سوريا الآمنة”
رجا سليم
صحافية سورية مقيمة في كندا، تتابع دراستها حاليا في الدراسات النسائية والتواصل في جامعة كونكورديا مونتريال، كندا.
“أنت ذاهب إلى الموت”، بهذا الاقتباس افتتحت منظمة العفو الدولية (أمنستي) تقريرها الصادر قبل أيام بعنوان “الانتهاكات ضد اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا“، الذي يتناول الانتهاكات المروّعة التي يتعرض لها اللاجئون العائدون إلى سوريا. الشهادات الواردة في التقرير ليست مفاجئة لمن يعرف نظام الأسد واختبر بطشه وانتهاكاته، وهي تصيب دعاية “سوريا الآمنة”، التي يروج لها النظام ومؤيدوه، في مقتل.
يوثق تقرير منظمة العفو الدولية “انتهاكات جسيمة” طالت 66 لاجئاً ولاجئة عادوا إلى سوريا خلال السنوات الأخيرة، 14 منهم تعرضوا للعنف الجنسي، بينهم نساء ورجال وأطفال. وقعت تلك الانتهاكات إما عند المعابر الحدودية أو خلال الاستجواب في مراكز الاعتقال في يوم العودة أو بعده بيوم، حيث يعتبر المسؤولون في النظام أن اللاجئين العائدين “مشكوك في ولائهم للبلد” وأنهم “من مؤيدي المعارضة والجماعات المسلحة”، وفق الشهادات.
“لم أقدر على تحمل المزيد، لمت نفسي على العودة، نصحني الناس في لبنان ألا أعود، قالوا لي: أنت ذاهب إلى الموت، لم أصدقهم لأنها سوريا بلدي”، كريم، عائد من لبنان.
أعقب انطلاق الثورة في سوريا عام 2011 موجات نزوح ولجوء سببتها عمليات القصف التي طالت المدن والأرياف وحملات الاعتقال والتعذيب والسوق إلى الخدمة العسكرية من قبل النظام السوري. تزايدت أعداد اللاجئين في وقت لاحق بسبب انتشار الميليشيات والفصائل المتطرفة، ثم أتت اتفاقيات التهجير التي تمت غالبيتها برعاية إما روسية أو إيرانية لتقتلع سكان مناطق كاملة من بيوتها وتقذف بها إلى مناطق أخرى تعاني بدورها القصف وتردي الواقع المعيشي.
فر كثيرون من البلاد في السنوات الأولى التي أعقبت انطلاق الثورة واستقروا في الدول المجاورة لسوريا (لبنان وتركيا والأردن) قبل أن تغلق هذه الدول حدودها بوجه أي سوري يحاول الدخول إليها فاراً من الحرب. يواجه اللاجئون في هذه الدول ظروفاً معيشية وقانونية سيئة بعد أن بدأت الحكومات تتململ من وجودهم وتمارس عليهم ضغوطاً للعودة إلى سوريا. بحسب آخر إحصائية للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين فإن 13.5 مليون سوري أجبروا على النزوح الداخلي أو اللجوء، وهو ما يعادل أكثر من نصف عدد سكان سوريا. 6.7 مليون من هؤلاء لاجئون في 128 بلداً.
حكومات ترسل اللاجئين إلى جلاديهم
تلعب سياسات بعض الدول تجاه اللاجئين الدور الأكبر في عودتهم إلى سوريا عبر التضييق عليهم. يأتي هذا التضييق إما بعدم تجديد إقاماتهم، أو عبر استغلالهم في العمل أو حرمانهم منه، أو تقييد حرياتهم. في لبنان مثلاً، قامت السلطات بترحيل أكثر من ستة آلاف لاجئ ولاجئة إلى سوريا بين عامي 2019 و2020. بدورها، فرضت تركيا على اللاجئين إجراءات مشددة لحثهم على العودة، كإيقاف إصدار الكيملك (بطاقة الحماية المؤقتة)، ورحّلت الآلاف منهم إلى الشمال السوري. أوروبياً، قلّصت السويد فرص منح الإقامة لطالبي اللجوء، أما الدنمارك فجردت ما لا يقل عن 380 شخصاً من تصاريح إقامتهم، أو رفضت تجديد صلاحيتها، خلال العام الماضي، حسب التقرير.
في دول أخرى تنادي أحزاب يمينية بإعادة اللاجئين، مثل حزب البديل الألماني الذي قال على لسان جوتفريد كوريو (المتحدث باسم السياسة الداخلية للمجموعة البرلمانية من حزب البديل): “لقد حان الوقت أخيراً. فلنكن صادقين في التعامل مع قضية اللاجئين وإعادة العلاقات مع الحكومة السورية.. علينا إطلاق برنامج إعادة السوريين إلى المناطق الهادئة ليتمكنوا من إعادة إعمار وطنهم”.
أما دول مثل اليونان وهنغاريا فانتهجت سياسة ترهيب من يحاولون العبور من تركيا إلى أوروبا، سواء بالضرب أو الترحيل أو تركهم في عرض البحر والامتناع عن إنقاذهم من الغرق. دول مثل كندا، التي استقبلت 74,070 ألف لاجئ بين 2015 عامي 2020، وفق آخر إحصائيات الحكومة الكندية، لم تَعُد إعادة توطين السوريين من أولوياتها وباتت تفرض شروطاً أصعب على ملفات اللجوء.
بدورها، استقبلت الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2011 و2021 نحو 22 ألف لاجئ سوري فقط، وصل معظمهم عام 2016، قبل أن تفرض الولايات المتحدة قراراً يحظر دخول مواطني دول إسلامية، منها سوريا، إلى أراضيها عام 2017. ورغم نية الإدارة الأمريكية الجديدة إلغاء القرار، إلا أن إلغاءه لا يعني تسهيل دخول اللاجئين.
الدنمارك كانت النموذج الأكثر سوءاً بين الدول الأوروبية، إذ شرعت بتقديم مبالغ مالية للاجئين مقابل عودتهم. وقد عاد نحو 250 سورياً حاصلين على إقامة قانونية في الدنمارك “طواعية” إلى سوريا، قبولاً بعرض الحكومة لمبلغ نقدي بقيمة 28400 دولار مقابل العودة، وفقًا لوزارة الهجرة والاندماج.
تعقيباً على سياسة الضغط التي تتبعها الدنمارك مع اللاجئين على أراضيها، أصدرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في نيسان الفائت بياناً جاء فيه أنها “لا تعتبر التحسن الأمني الأخير في أجزاء من سوريا جوهرياً ومستقراً لتبرير إنهاء الحماية الدولية لأي مجموعة من اللاجئين”. مطالبةً بعدم إعادتهم قسراً إلى أي مكان في سوريا، بغض النظر عن الجهة المسيطرة على المنطقة.
لا تكون الحكومات متواطئة مع النظام السوري عبر إعادة اللاجئين بشكل مباشر وعلني فقط، ولكن أيضاً عبر التضييق على طالبي اللجوء وإغلاق الحدود في وجههم، متغاضية عن موضوع الاعتقال والموت تحت التعذيب في السجون السورية. ما تقوم به هذه الحكومات هو مشاركة علنية بجريمة إعادة رمي اللاجئين بين فكي الوحش بعد أن كانوا قد نجحوا بالنجاة منه.
“قولوا للناس لا تعودوا إلى سوريا؛ لا تعودوا إلى بلدكم؛ لقد عدت إلى بلدي وأنا نادمة على ذلك؛ المصالحة أكذوبة كبيرة”، آية، عائدة من لبنان.
قبل أسابيع، أبرم النظام السوري اتفاقاً في درعا، برعاية روسية، يقضى بتهجير مجموعة من الأشخاص إلى الشمال السوري بعد عمليات قصف ودهم واعتقال استهدفت المحافظة خلال الشهر الماضي بغية إحكام القبضة الأمنية عليها. كان هدف الاتفاق هو إخضاع سكان المدينة، الذين رفضوا عدة محاولات تهجير كان آخرها في 2018. والسؤال هنا، هل يُهجّر السكان من بيوتهم ومناطقهم في بلد آمن؟ وإذا كان الفرد الذي لم يغادر سوريا عرضة لانتهاكات النظام وبطشه، فكيف سيكون حال اللاجئ العائد إليه؟