شقوق في جدار الخطاب المنحاز

فريق حنا

تشهد عدة عواصم ومدن كبرى حول العالم هذه الأيام مظاهرات واحتجاجات مناصرة للفلسطينيين المهددين بالترحيل من بيوتهم في حي الشيخ جراح، وتضامناً مع الفلسطينيين في المسجد الأقصى وقطاع غزة. أحداث عاصفة تطورت بسرعة كبيرة لتصبح مواجهات ضد قوات الاحتلال المدججة بالسلاح والعتاد، تلاها قصف على قطاع غزة وسقوط ضحايا من المدنيين بينهم أطفال، وإطلاق بعض الفصائل الفلسطينية مئات الصواريخ باتجاه الداخل الاسرائيلي أوقعت عدداً من الجرحى. 

ليست الانتهاكات التي تُرتكب بحق الفلسطينيين اليوم شيئاً جديداً، فالسنوات الثلاث والسبعون الماضية كانت سلسلة متواصلة من الاعتداء على الحقوق والتهجير والقمع والاحتلال، وهي أحداث مركزية أسست لملامح الشرق الأوسط الذي نعرفه اليوم. الاستثناء الذي يُمكن ملاحظته اليوم في هذا الإطار هو حجم التضامن العالمي الكبير مع القضية على الصعيد الشعبي، الذي نجح بفعالية في كسر سطوة وسائل الإعلام التقليدية والموجهة في وصف ما يجري بالمصطلحات الفضفاضة وحمّالة الأوجه، وتصدير الوعي المساوي بين الآلة القامعة والعزّل المدافعين عن أنفسهم بالحجارة.

تظاهرات الشيخ جراح قادها شباب فلسطيني نشأ في ظل تهديد دائم من قبل المستوطنين بالتهجير والطرد من مدينة القدس، ونجحوا باحتجاجاتهم السلمية في ربط مجتمعات فلسطينية مقطعة الأوصال بفعل الاحتلال. إذ قاد فلسطينيون من أراضي ٤٨ سياراتهم لساعات واستقلوا الحافلات للمشاركة في تظاهرات مدينة القدس قبل أن ينتفضوا في مدن اللد وحيفا والناصرة وأم الفحم وغيرها. لا يريد هؤلاء الفلسطينيون كياناً مقطع الأوصال وفاقداً للسيادة كما تعرض عليهم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ويسمونه “دولة”، بل يريدون البقاء على أرضهم واستعادة ممتلكاتهم باعتبارهم سكاناً أصليين لهذه البلاد. يريدون الحرية والمساواة في دولة واحدة، والتطورات الأخيرة خلال الأيام الفائتة عززت من التضامن العالمي تجاه القضية الفلسطينية وأعطت النضال الفلسطيني أدوات جديدة للتعبير عن ذاته. 

الشيخ جراح والتغطية الإعلامية

فيما خص قضية الشيخ جراح، تُركّز بعض وسائل الإعلام، والكندية منها، على أن ما يحدث هو “نزاع ملكية، أي نزاع حول ملكية الأراضي التي قامت عليها بيوت الفلسطينيين الذين تعمل السلطات الإسرائيلية على طردهم منها. تُعتبر هذه المعالجة للأمر مضللة لعدة أسباب: أولاً، يتجاهل ذلك أن القدس الشرقية هي أرض محتلة وفقاً للقانون الدولي وأن القانون الإسرائيلي لا يسري عليها. ثانياً، يفترض ذلك أن ما تقره المحاكم الإسرائيلية صحيح أو عادل ويتجاهل أنها محاكم تميز بين اليهود والفلسطينيين على أساس ديني، إذ يُسمح لليهود فقط بتقديم دعاوى ملكية الأرض والعقار، وتقبل منهم مستندات دون أن تدقق فيها على النحو المطلوب. في المقابل، يمتلك الفلسطينيون مستندات ملكية ولكن ترفض المحاكم استلامها والنظر فيها. ولا يتعلق الأمر بمصير ستة عائلات، لكن السؤال المطروح اليوم هو إذا كان يحق للفلسطينيين العيش في القدس على الإطلاق.

خلال العقود الماضية، طردت السلطات الإسرائيلية العديد من العائلات المقدسية وترفض إعطاء موافقات بناء للفلسطينيين، ما يسهل عليها هدم بيتوهم وطردهم من أحياء مدينة القدس. سبعة في المئة فقط من موافقات البناء ذهبت للفلسطينيين خلال العقد الماضي، رغم أنهم يشكلون أربعين في المئة من السكان في المدينة. ويحظى نصف فلسطيني القدس فقط بإمكانية الوصول لشبكة المياه فيما يعيش ٧٥ في المئة منهم تحت خط الفقر. هذا التفاوت الصارخ والتمييز الممنهج في كل نواحي الحياة، أي التمييز في القانون والمحاكم على أساس الدين بين الفلسطينيين والمستوطنين، دفع منظمة هيومان رايتس وتش لوصف إسرائيل بأنها “دولة أبارتهايد”، تمارس التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، وهي مصطلحات كان من المحرّم تداولها بهذا الشكل، بسبب اللوبيهات الاسرائيلية ذات النفوذ السياسي والمالي دولياً وقدرتها على الضغط لضبط المصطلحات المُتسخدمة في وصف ما يجري.

رسمياً في كندا، عبّرت الأحزاب الكندية عبر رؤسائها أو أعضاء/عضوات فيها خلال الأيام القليلة الماضية عن مواقف متفاوتة مما يحدث في القدس الشرقية. كان لافتاً موقف زعيم الحزب الديمقراطي الجديد، جيغميد سنغ، الذي وصف محاولات قوات الاحتلال الإسرائيلي، بأنها طرد لسكان حي الشيخ جراح من منازلهم واستخدام العنف ضدهم، مُطالباً رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، باتخاذ موقف علني داعم للقانون الدولي. وبمفردات أكثر حيادية، عبر وزراء ووزيرات في الحكومة الكندية الليبرالية عن قلق حيال الأحداث الجارية في القدس الشرقية كوزير العائلة والطفل والتنمية الاجتماعية، أحمد حسين، ووزيرة شؤون المرأة والمساواة بين الجنسين والتنمية الاقتصادية الريفية، مريم منصف، ووزير النقل عمر الغبرا، الذين اعتبروا أن “أحداث العنف” في الأقصى والشيخ جراح وعمليات الإخلاء القسرية من شأنها أن تعرقل خيار حل الدولتين والسلام المستدام. بيد أن زعيم حزب المحافظين، إيرين أو تول، أصدر بياناً حاد اللهجة لم يتطرق فيه إلى الاعتداءات الاسرائيلية في الشيخ جراح والقدس، مُديناً القصف الصاروخي من جانب حركة حماس وواصفاً إياه بالـ”إرهابي”. 

مناصرة متزايدة.. وتابوهات تتكسر

لكن بعيداً عن الخطاب الرسمي، تبدو اليوم حملات المناصرة الشعبية الواسعة في بلد مثل كندا مع القضية الفلسطينية استثنائية إلى حد بعيد، نظراً إلى الشقوق التي أحدثتها في جدار الخطاب العام السائد، الحيادي أو المتعامي عن الانتهاكات الاسرائيلية. أسس لهذا الاستثناء عدة عوامل: أولها التداول الكثيف للأحداث على وسائل التواصل الاجتماعي، التي نحّت وسائل الإعلام التقليدية من الواجهة وضربت قدرتها على احتكار صناعة الوعي العام. فاليوم يتعرض معظم مستخدمو هذه الوسائل حول العالم لمئات الفيديوهات والبوستات اليومية التي توثق كلام يعقوب حيال رغبته في سرقة البيت، أو الشرطي الداهس على رقبة الشاب مُذكّراً بما جرى لجورج فلويد، أو الرقصة الاحتفالية المتشفية للمستوطنين قبالة المسجد الذي يحترق. هذه مشاهد مؤثرة في صناعة الرأي المتضامن، وكان يُمكن في السابق ألا يتم تداولها سوى في وسائل الإعلام العربية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، وأن تُحذف أو تحوّر من سياقها إذا تم تداولها في وسائل الإعلام الغربية. انتشارها على هذا النطاق الواسع ساهم بكسر تابوهات راسخة لدى المواطنين في الدول الغربية عند الكلام عن اسرائيل، وبدأت مصطلحات أكثر حدّة في التداول ضدها. 

العامل الثاني هو الوعي العام الجديد المتشكل في الأوساط العامة والأكاديمية حيال قضايا الاستعمار وحقوق الأقليات العرقية، وتزايد التقاطعات بين القضية الفلسطينية وقضايا محلية أخرى في السياق الكندي والأمريكي والأوروبي. وقد أشار حازم صاغية في مقال له إلى ذلك بالقول إن “قضية عرب القدس تقع على تقاطع عريض لقضايا عادلة: إنّها حقوق إنسانيّة تتّصل بالاقتلاع القسريّ للسكّان، وهي حقوق وطنيّة تتّصل بالاحتلال وبالإبادة السياسيّة لجماعة قوميّة، لكنّها إلى ذلك إحدى المعارك الدائرة اليوم عالميّاً ضدّ رُهاب الإسلام، كما أنّها واحدة من معارك السكّان الأصليّين، وهي أيضاً عالميّة النطاق، للبقاء في أرضهم ولتطوير ثقافتهم الخاصّة. فوق هذا، وفي مواجهة الحجج التي تسند حقّها إلى وعود دينيّة موغلة في القِدم، هي معركة عقل وتقدّم وتنوير. وفي مواجهة الآلة القمعيّة والتقنيّة، هي صراع الإنسانيّ ضدّ البربريّ”.

مناسبة للتفكير 

ترسم هذه التطورات الأخيرة ملامح مرحلة جديدة في التعاطي مع قضايا حساسة وشائكة قد تُربك المتلقي الغربي العادي مثل القضية الفلسطينية. ثمة أحداث تاريخية تدور منذ عشرات السنين في بلدان أخرى كوّن قطاع كبير من المواطنين الغربيين أراءهم بها بناء على ما كان يقدمه الإعلام المؤدلج أو الراضخ للتوجيه على مدى عشرات السنين. النقلة التي حدثت اليوم في تعريضهم للحدث المباشر دون وصاية أو غربلة هي فرصة للتفكير ومراجعة الكثير من المسائل: منها الموقف المبدئي المكون على مدى عشرات السنين إزاء قضايا مشابهة لها صلة بالعدالة وحقوق الإنسان في أمكنة بعيدة، ومن السديد اليوم تأمل هذه المواقف وتحرّي تقاطعاتها مع خطاب العدالة الصاعد في العقود الأخيرة. من ذلك أيضاً سؤال الرقابة الذاتية والرهبة من التعاطي مع قضايا كالقضية الفلسطينية، ومدى معقولية وجود قيود على الكلام في بلاد عريقة الممارسة الديمقراطية مثل كندا أو الدول الأوروبية، تُعتبر فيها حرية التعبير، حتى التي تطال حكوماتها وأنظمتها وتاريخها، مقدّسة ولا يُمكن المساس بها. ثمة فرق واضح بين التحريض وخطاب الكراهية، وبين المناصرة والمطالبة بالحقوق. ولدى الفلسطينيين حقوق تاريخية وسياسية مُحقّة وعادلة، يجب أن تُضمن لهم بهدف تحقيق السلام والعيش الكريم. قد يكون من الأجدى توفير الجهود المبذولة اليوم في ضبط الانتقادات الموجهة للمُنتهكين، وتوجيهها لصالح وقف الانتهاكات وتحقيق العدالة، فهذا أسهل وأكثر راحة لبال المُرتبكين والتائهين اليوم في دوامة البحث عن الكلمات المناسبة، وهو الطريق الأقصر لتحقيق السلام: فالسلام لا يتحقق عن طريق القهر والإخضاع وتكميم الأفواه، لقد خاضت البشرية الكثير من التجارب التي تثبت عكس ذلك.  

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى