شجنٌ على الرصيف البحري
كورال نوا النسائي يستقبل الطفلة آمال في تورنتو
جمال منصور
مرشّح لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسيّة (اختصاص السياسة المقارَنة) من جامعة تورنتو. يعمل على رسالة دكتوراه بعنوان “علاقة قطاع الأعمال بالسلطة في سوريا: ١٩٩١–٢٠١١.”
بتأنٍّ ومهابة، بودٍّ وحزنٍ شفيفٍ، مشت آمال على رصيف بحيرة أونتاريو في مدينة تورونتو قبل أيام في احتفاليّةٍ استمرّت عدّة أيّامٍ وكانت هذه المسيرة خاتمةً لها. وآمال هي ابنة مشروعٍ لمؤسّسة هاندسبيرنغ بابيت التي أرادت لها، عبر خلق شخصيّة دميةٍ تمّ اختيار شخصيّة طفلةٍ سوريّةٍ لاجئةٍ بعمر عشر سنواتٍ لها، خلق “رمزٍ دوليٍّ للتراحم وحقوق الإنسان، وحمل رسالة أملٍ للنازحين في كلّ مكان، وخاصة الأطفال الذين أجبِروا على الانفصال عن ذويهم وعائلاتهم”. حملتها زياراتها إلى ١٤ دولةٍ حتى اليوم، كانت آخرها زيارتها إلى كندا، ومدينة تورونتو بالتحديد.
استضافت تورنتو آمال بناءً على دعوةٍ نظّمها مهرجان لوميناتو كجزءٍ من برامجه بهدف التوكيد على قيم الوطن والهجرة، الخوف والمغامرة، والترحاب (باللاجئين) في مجتمعاتهم الجديدة. وأهمّ ما في هذا الأمر، هو محاولة رواية حكايا هؤلاء اللاجئين، وإلقاء الضوء ليس فقط على معاناتهم التي دفعتهم إلى اللجوء، بل وعلى أنسنتهم وتحويلهم من مجرّد “أغيارٍ” قادمين جدد يفرضون وجودهم على المكان، إلى أفرادٍ مرئيّين بوصفهم أصحاب حكايا، وتراثٍ غنيٍّ، وقدراتٍ وإراداتٍ، أجبرتهم ظروف قاهرة على ترك أماكنهم وحيواتهم للبدء من جديد في أماكن جديدة.
مشى خلف آمال مئاتٌ من الكنديّين—من ذوي الأصول السوريّة أو العربيّة، ولكن بأكثريّة من سواهم من ذوي الأصول المهاجرة الأخرى— بحبٍّ وتعاطفٍ، وبفرحةٍ كانت ماثلةً على الوجوه الباسمة، وبمشاركةٍ صاخبةٍ فرِحةٍ بآمال وبما تمثّل. غالبت هذه الجموع نسائم أمسيةٍ باردةٍ بعض الشيء، وحتى الأمطار التي بدأت خفيفةٍ، ثمّ تزايدت صوب نهاية مشية آمال هذه. وكأنّما حتى سماء المدينة أرادت وهي تودّعها في نهاية زيارتها القصيرة، أن تروي لها بحزنٍ شفيفٍ ونبيلٍ، كيف أنّها لا تريد لهذه الزيارة أن تنتهي.
مرّت آمال في هذه الأمسية باحتفاليّاتٍ جانبيّةٍ كثيرةٍ نُصِبَت خصّيصاً لتوديعها ومخاطبتها بصورةٍ رمزيّةٍ بلغةٍ تفهمها، كما يفهمها كل لاجئٍ، خصوصاً كل سوريّةٍ وسوريٍّ فُرِض اللجوء عليهم: نحن لنا جذورٌ، حملناها معنا لنزرعها في أرضنا الجديدة. جذورنا هذه، نعبّر عنها بالقول والفعل، بالتطريز والرسم والغناء، بإسماع أصواتنا ورسم صورة هويّتنا.
من أبرز ما مرّت آمال من أمامه كان عرضاً لمؤسّسة صبّارة لثياب أطفالٍ معلّقةٍ على أحبال غسيلٍ رُفِعت في طريق مشيتها. كان القصد من هذا العرض الرمزيّ الدلالة على أطفالٍ آخرين، لاجئين سوريّين، حاولوا كما حاولت آمال أن يبدأوا حياتهم برفقة أهاليهم من جديدٍ، لكنّهم لم يتمكّنوا من ذلك لأنّ الأقدار منعتهم. كما وعُرِضَت أشغالٌ يدويّةٌ مطرّزةٍ بأيادي نساءٍ لاجئاتٍ سوريّاتٍ تقدّمهنّ صبّارة عبر أعمالهنّ هذه، كنساءٍ قويّاتٍ صامداتٍ رغم الظروف، كصبّار هذه البلاد، متحمّلاتٍ صبوراتٍ، بقلوبٍ ملآى بالحلاوة والجمال.
على أنّ مرورها الأخير، قبل وداعها للمدينة، كان ذا معنى رمزي. إذ توقّفت بعد ذلك أمام كورال نوا النسائيّ الذي يضمّ مجموعةٍ من النساء السوريّات اللواتي يقدّمن “احتفاءً بالأصوات المتنوّعة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخاصة من المجتمعات المهمّشة”. كانت الوقفة ذات دلالاتٍ متعدّدةٍ، يحملها اسما آمال واسم الكورال، نوا، فالنوا في اللغة (بالألف الممدودة) اسمٌ ذو أصلٍ أعجميٍّ عُرّب ليعني النغمة أو اللحن الجميل أو “السيمفونيّة المتناسقة” وهذا بُعد الاسم موسيقيّاً. وأمّا النوى، بالألف المقصورة، وفي إحدى أبرز معانيه، يعني البُعد والمفارقة—مفارقة البلاد والأحبّة.
البُعد هو جوهر تجربة اللجوء والهجرة: فهو ابتعادٌ عن الأهل والأحبّة، وهو مفارقة البلاد والذكريات والتفاصيل التي تكوّننا كأفرادٍ، وهو كذلك، فيما يخصّ تجربة اللجوء بالتحديد، يحمل ألم الاقتلاع القسريّ من الوطن والمنزل، إلى صعوبات البدء من جديد وزراعة الجذور في تربةٍ جديدة. وفي أداءٍ يمازج بين المعنَييْن، حملت أصوات النساء الساحرة بتناغمٍ امتزج فيه الفرح والشجن، وحتى آمال نفسها، على أجنحة العتابا وأغاني التراث السوريّ إلى مكان أليف مليءٍ بالحمولة العاطفية.
كان في هذه الخاتمة لزيارة آمال رسالة، وإن كانت ضمنيّة: فما بين ألم النوى الذي غالبته وتغالبه أصوات نساء الكورال الجميلة وموسيقاهنّ التي تدخل القلب؛ وبين ما تمثّله آمال باسمها نفسه من تصميمٍ على اجتراح الأمل في الغد مع عدم نسيان أو تجاهل الجذور والتراث والهويّة؛ اختزل هذا اللقاء بين آمال ونوا تجربة اللاجئات واللاجئين، والسوريّات والسوريّين منهم على وجه الخصوص: قصّة تجربةٍ ملآى بالشوق ومشاعر الفقد واللوعة، والتصميم الجَلود والمثابر على اجتراح الأمل وخلق غدِهم الخاصّ بنجاحٍ وتواصلٍ وتفاعلٍ حيويٍّ مع محيطهم بما يؤكّد على إنسانيّتهم وقدرتهم وإرادتهم على نشر الحبّ والخير والقيَم النبيلة. وآمال ابنة اللجوء السوريّ، ذلك اللجوء الذي لم تنتِجه الحرب في سوريا فحسب، بل وتقاعس العالم الرسميّ بتقديم الحماية القانونيّة والسياسيّة لهم حتى يتمكّنوا من البقاء آمنين في بلدهم. ورغم قيام بعض المجتمعات المستقبِلة للاجئين، مثل كندا، بدورٍ رائدٍ في استقبال وحماية وتسهيل اندماج اللاجئين إلا أن ذلك لا يمحو من ذاكرة السوريّات والسوريّين بالتحديد، واللاجئين الآخرين كذلك، دور كثيرٍ من الدول والمؤسسات الدوليّة في المساهمة بشكل ما في مأساتهم، أو في غلق الأبواب في وجوههم/ن.
ولكن، في هذه الأمسية، وقفت كل هذه الاعتبارات جانباً لبرهةٍ من الزمن: غنّى السوريّات والسوريّون مع نساء الكورال. كان مؤثراً مشهد السيدات السوريات، اللواتي مررن بكافة الأهوال والآلام، وهنّ يقفن على صعيد واحد ويغنين بصوت واحد. كان لمشهد السيدات السوريات قبالة آمال مشاعر إنسانية مكثّفة، فهي من ناحية طفلة تائهة قبالة أمهات يستقبلنها بأذرع مفتوحة، وهي في الوقت ذاته، بحجمها العملاق، تفيض بالعطف والرعاية على من حولها، كما لو أنها هي، الطفلة التائهة، تقول لهن إن كل شيء سيكون على ما يُرام. أن ثمة بريق يبعث على الطمأنينة في وقوفنا على الصعيد ذاته، ولو للحظة خاطفة. أن ثمة لحظة أمان حين نرى الأيدي المتشابكة والأصوات المتفرقة التي تصبح صوتاً واحداً.