رؤى لمشاريع عملاقة
تقديم لسلسة "رأس المال واليوتوبيا"
أدريان زكار
مؤرخ لمرحلة أواخر الإمبراطورية العثمانية والشرق الأوسط الحديث، وله خبرة في الخرائط والتاريخ الفكري والممارسات البصرية ودراسات العلوم والتكنولوجيا. حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة كولومبيا، ثم عمل بعد الدكتوراه في مركز العلوم الإنسانية بجامعة ستانفورد. هو الآن أستاذ مساعد في قسم الشرق الأدنى والأوسط في جامعة تورنتو ومعهد تاريخ وفلسفة العلوم والتكنولوجيا.
ترجمه عن الانكليزية: فريق حنّا
————————————————————————————————————
تقع مجموعة المقالات في هذه السلسة حول “رأس المال والتكنولوجيا واليوتوبيا” في المساحة المشتركة بين دراسات تاريخ الشرق الأوسط ودراسات التكنولوجيا. جاء هذا المشروع كثمرة تعاون بين منصة حنا وقسم حضارات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة تورنتو. تمت كتابة هذه المقالات كجزء من مقررات الفصل وقدمت فيها منصة حنّا الدعم التحريري لطلاب البكالوريوس والماجستير منذ بداية الفصل وحتى نشر مقالاتهم.
في الفصل الدراسي الشتوي لعام 2023 اجتمع الطلاب في المحاضرات لمناقشة المقررات والبحث عن أجوبة للأسئلة التالية: كيف يتقاطع رأس المال مع التكنولوجيا والرؤى السياسية؟ وكيف كانت المشاريع التكنولوجية جزءاً من الخطابات السياسية والعلاقات الاقتصادية والإنتاج الثقافي خلال التغيير الذي طرأ على المؤسسات في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين في الشرق الأوسط؟ وهل ترتكز البنى التحتية المعاصرة والمشاريع العملاقة والتطور التكنولوجي على تاريخ طويل في مسار الدول الحديثة في المنطقة؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من النظر إلى الماضي؟ حاول هذا الفصل مقاربة هذه الأسئلة عبر قراءة مقررات أساسية في تاريخ التكنولوجيا والعلوم والحرب والسياسية والاجتماع، وهي مقررات تتناول التاريخ الثقافي وتدرس التطور المادي والنفوذ مستخدمةً الشرق الأوسط كنقطة انطلاق لدراسة واقع العالم والاتجاهات الثقافية آنذاك.
تتضمن المقالات الصادرة في هذه السلسلة وجهات نظر متعددة تتناول تشابك رأس المال والتقدم التكنولوجي وصعود خيالات الماضي والحاضر والمستقبل في مصر وفلسطين ولبنان وإيران وشرق آسيا. ففي الشرق الأوسط، كما في أي مكان آخر، كانت الأفكار الطوباوية للبراعة التكنولوجية نقطة ارتكاز لمخططات الدول الاستراتيجية، الرامية إلى تعزيز شرعيتها عن طريق “رؤى” المشاريع العملاقة. غالباً ما كان هدف هذه المشاريع هو جذب رأس المال الاستثماري بغض النظر عن الاستدامة وتعزيز الثروة النمو، وبالتالي تغير موضع الكفاح الاجتماعي السياسي في النقاشات ليحل محلها الحديث عن الكفاءة والهيبة والفخر الوطني والحضاري، ويُترجم ذلك إلى حالة من التنافس على “الأعلى” و”الأضخم”. ما يجمع بين هذه المقالات هو الانتباه الذي توليه إلى عملية التقدم والتطور التي تحركها المادة ورأس المال والتكنولوجيا منذ فترة الاحتلال الأوروبي والإصلاح العثماني إلى يومنا هذا.
في مقال “ترويض الوحش المصري: صورة مصر في المخيال الاستعماري القلق“، يبحث مصعب النميري في فكرة التوحش في النظرة الاستشراقية عبر تسليط الضوء على اعتبار مصر كمكان غامض ومتوحش، والذي تصاعد بعد تأسيس قناة السويس في نهايات القرن التاسع عشر. كان هذا التصوير متجذراً في الرؤى الثقافية الحديثة للغريب والشاذ والمتوحش، وكان مدفوعاً بالشعور بالتفوق والقلق الامبراطوري الذي يحاول شرعنة الإصلاحات التكنولوجية المصممة لترويض الوحش. لم يساهم تأسيس القناة في تغيير المشهد الجيوسياسي العالمي فقط، وإنما ساهم في تعزيز اعتبار مصر كمكان غامض مرتبط بمشاعر القلق من الانحدار الامبراطوري واحتمال صعود قوى انتقامية في المستعمرات.
في مقال “الهوية ورأس المال في لبنان: دور الفهم الشعبي لرأس المال وبناء الدولة في أواخر العهد العثماني“، يبحث تيموثي بوضومط في دور العثمانيين خلال القرن التاسع عشر في رسم ملامح الهويات السياسية في بلاد الشام، وخاصة في جبل لبنان. فقد شهدت مرحلة أواخر الحقبة العثمانية تشابك الهويات العرقية والدينية والاقتصادية، حيث استخدم قادة محليون، مثل داوود باشا، رأس المال في لإضفاء الشرعية على الحكم العثماني ومواجهة التأثير الماروني في جبل لبنان. الخلاف الأيديولوجي بين داوود باشا والقائد الماروني قاد في النهاية إلى نفيهما، ولكن تأثيرهما الطائفي والرأسمالي يستمر على الهوية السياسية اللبنانية حتى يومنا هذا.
في مقال “برتقال يافا المسكون: ماذا يمكن أن تعلّمنا هذه الثمرة عن المقاومة والذاكرة؟” تغوص هيلي بريس في تاريخ ورمزية برتقال يافا، متابعة رحلة البرتقال من كونه جزءاً من التقاليد الاحتفالية في بريطانيا بعد الحرب إلى كونه رمزاً للاستعمار الاستيطاني في فلسطين. يتحرى المقال في كيفية تحول برتقال يافا من أيقونة للرخاء والازدهار إلى شبح يلخص قصة حرمان الفلسطينيين من أراضيهم. يسلط المقال الضوء على تغيّر رمزية البرتقال، الذي كان يذكّر بأعياد عيد الميلاد في بريطانيا، وأصبح رمزاً للاقتصاد الصهيوني، ثم صار أيقونة للجذور والمقاومة الفلسطينية، وكيف تلاشت مشهديته في دعاية الدولة بسبب تاريخه المُربك.
أما في مقال “تمرد النظرة في أفلام كيارستمي” تستكشف نورا ميزو-ويلينغهام أعمال المخرج الإيراني عباس كيارستمي، مسلطة الضوء على دور هذه الأعمال في تحدي الأفكار الطوباوية والسوداوية في إيران ما بعد الثورة. ترصد كامير كيارستمي حركة القرى المهمّشة وتُبرز آمال الناس ومخاوفهم، وتنخرط في عملية نقدية لصناعة الأفلام كتمثيل للواقع لتفنّد وتدحض كلاً من الصور النمطية الغربية عن إيران والأساطير المحتفية بالجمهورية الإسلامية. يراوغ كيارستمي الرقابة الشديدة ليرسم صورة لهموم الحياة اليومية، ويتحدى أيضاً الأعراف الاجتماعية، مقدّماً بذلك منظوراً دقيقاً لسياقات إيران الثقافية والسياسية ضمن التاريخ الأوسع للسينما الإيرانية.
وأخيراً تشرح زناتول إسحاق في مقال “مراقبة المسلمين في الصين واليابان” كيف تساهم رأسمالية المراقبة، وتقنيات مراقبة الوجه خاصةً، في زيادة التهديد ضد المسلمين أو من يمكن استهدافهم بسبب اعتبارهم مسلمين في شرق آسيا. يسلط المقال الضوء على حالات في الصين واليابان تمت فيها المراقبة بناء على الهويات العرقية الدينية، مشيراً إلى المخاوف من الانتهاكات لحقوق الإنسان. تؤكد سياسات الصين تجاه مسلمي الأويغور وهيمنتها العالمية في المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب استثمارات اليابان في صناعة المراقبة، إلى ضرورة الحذر من الأنظمة المتطورة للتعرف على الوجه التي تساهم في استمرار وتعزيز ممارسات التهميش.