حلب: القطع الناقصة في لعبة الذاكرة التركيبية
مونتريال- بهيج وردة
كما في المطارات، كذلك في مسرحية «حلب. بورتريه الغياب». قبل الدخول إلى قاعة العرض، عليك الانتظار أمام خريطة خشبية للمدينة، وأن تختار واحداً من عشرة أقسام نافرة، لتكون بمثابة جواز الدخول إلى المدينة/المسرح.
في صالة الانتظار مشاعر مختلطة. تنزع نظارتك الطبية، وتمسح دموعك ثم تعيد ضبط القناع الطبي (كنا في زمن كورونا وارتداء القناع إلزامي). ترتدي نظارتك من جديد، وتبحث عن بيتك، ومحلك، وبيت أهلك لتدل صديقك على ذكرياتك. أهكذا يكون اللقاء بعد خمس سنوات من الفراق؟ هكذا كانت ملامح وشفتا صديقي تتحدثان.
أنا لا أزعم معرفتي بالمدينة. لا أعرف الشوارع ولا المعالم ولا مطاعمها الشهيرة إلا من التلفزيون. لذا ذهبت مسلحاً بمناعة ضد البكاء. لم أزرها إلا عابراً في رحلة برية من مدينة إلى أخرى، والمرة الوحيدة التي مشيت في شوارعها كنت رفقة والدي، فلم أحفظ ملامح شوارعها لاتكالي على ذاكرته التي عاشت فيها. أيضاً، ما كان عندي أي صديق حلبي حتى وصلت مونتريال. الآن عدد كبير من أصدقائي وأصدقاء زوجتي وابنتي من حلب. الجيران في البناية. كأن حياتي في مونتريال هي تعويض عن علاقتي بحلب.
لذا عندما عرفت أن عرضاً مسرحياً سورياً «حلب. بورتريه الغياب» بتوقيع عمر أبو سعدة ومحمد العطار وبيسان الشريف يشارك في مهرجان “ترانس أميريك” (26 أيار- 12 حزيران 2021)، أسرعت إلى شباك التذاكر الالكتروني لأشتري بطاقة، مع تزامن توقيت المهرجان مع تخفيف القيود التدريجي على التواجد في الأماكن المغلقة، وهذا لوحده أمر يستدعي الاحتفاء بعد ما يقارب عاماً ونصف من النشاطات الافتراضية على شاشة الكمبيوتر.
حسناً فعل من قام بالركض الافتراضي لأن التذاكر نفذت بسرعة البرق. ورغم أنني حجزت مقعداً مع صديقي في ثاني أيام بيع التذاكر، إلا أن الوقت الوحيد المتاح كان في آخر أيام العرض. لم أتوقف عن التفكير في صديقي -بعد استجابته السريعة لشراء بطاقة- كيف ستكون ردة فعله؟ حماسته تحديداً أثارت قلقي. أعرف أن لدى بعض السوريين ما يكفي من المناعة العاطفية، لكن ماذا لو لم يمكن لديه مثل هذه المناعة؟ كيف سيلتقي مدينته؟ هل سيبكي؟ غالباً، أجيب نفسي. فليبكِ. يا لحظه الجيد. اللعنة على تلك المناعة العاطفية.
بعد اختيار إحدى القطع العشرة، والتي تمثل كل منها واحداً من أحياء المدينة، ستحصل على جهاز تسجيل يحمل رقماً مشابهاً للقطعة التي انتزعتها من الخريطة. وقتها ستدخل في ملكوت الذاكرة. في قاعة خفيفة الإضاءة عليك أن تبحث عن الطاولة التي تشبه القطعة التي حملتها. كحلبي ستبحث عن الحي، لكن كغريب ستبحث عن الشكل، وتختبر ذاكرتك البصرية. وإن طابقت ذاكرتك شكل القطعة الناقصة، ستضعها في الفراغ على الطاولة، وتجلس منتظراً من سيجلس على الكرسي المقابل.
من قلب الظلام بعدما جلس الحضور في أماكنهم، تستمع إلى شهادة كريم -الحلبي المقيم في مونتريال- والذي يشتكي من نسيانه لأماكن مفضلة بعد سنوات من ابتعاده عن المدينة. دخل الممثلون من خاصرة الغرفة السوداء ليجلس أحدهم على الضفة الثانية من الطاولة، بينما يفصلكما حاجز زجاجي (فرضته تعليمات الجهات الصحية). تنساب حكاية باللغة العربية من جهاز التسجيل وتتعرف إلى صاحبها. لأتعرف إلى حكاية آدم ومنطقة ثكنة هنانو، ورحلته ككردي في منطقة لا يحمل من ذكرياتها سوى ذكريات الفرجة على المدينة من بعيد من تلة بستان القصر.
وما أن تنتهي الحكاية من جهاز التسجيل حتى تبدأ رواية الممثل للحكاية، ليقدم لك النسخة الممسرحة من القصة. مسرحية موجهة لك وحدك. لا شركاء في تلقي العرض. فقط أنت والممثل. عكس توقعك المسبق بالدخول إلى مسرح العلبة الإيطالية الذي يتركك مع المتفرجين بمواجهة العرض، إلا أن كسر الشكل التقليدي جعل من كل حكاية مسرحية لوحدها، متفاعلة حسب القصة الحقيقية التي تخرج من كل جهاز تسجيل، ولك أن تعلق وتتفاعل وتشترك في اللعبة المفتوحة.
كان هنالك عشر حكايات وعشرون ممثلاً يتبادلون الأدوار، وأكثر الأدوار إرباكاً هو ذلك الذي تعرف الكثير عما يود الممثل أن يقوله، ماذا سيخبرني الممثل عن مدينتي؟ ما التفصيل الذي سأتعرف إليه من خلاله؟ الارتجال هنا لن ينفع. فعندما تكون الحكاية حكايتك سيخسر الممثل عنصر المفاجأة ويرتبك، كما ارتبكت الممثلة التي جلست قبالة صديقي.
فوجئ صديقي خلال العرض بصوت مألوف عبر جهاز التسجيل، كان ذلك صوت صديقته التي تتحدث عبر جهاز التسجيل عن حلب. الممثلة هنا ارتبكت، وبدلاً من إكمال المسرحية كانت تتفرج على الأداء العفوي لصديقي الحلبيّ الذي كان متأثراً وهو يحاول ترميم ذاكرته، تاركاً الممثلة تبكي أمامه.
بعد أيام من العرض، لا يزال صديقي يرشقني بقطع ذاكرته التي كانت في نظره تستحق الإشارة إليها في الخريطة (كما في خريطة طيران «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت اكزوبري) كفيلا روزا، وأبو عبدو الفوال، وأوتيل بارون، وغيرها… وكلما زاد غضبه من غياب هذه الأمكنة تتأكد من نجاح رسالة العرض في الرغبة لإكمال بورتريه الغياب، واستعادة قطع/ أمكنة من ذاكرة تتداعى كما قطع البازل (اللعبة التركيبية الشهيرة).