جيل جديد يُخرج سردية فلسطين من الغيتو
أسامة موسى
ناشط فلسطيني سوري مقيم في كندا، حاصل على ماجستير في الشؤون الإنسانية الدولية.
“من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً”، محمود درويش
يُعد امتلاك السردية مصيرياً في القضايا العادلة التي تستوجب الدفاع عنها ومناصرتها. هذا الأمر بدا واضحاً مؤخراً مع الفارق الكبير في التفاعل والتغطية والتضامن مع القضية الفلسطينية الذي أحدثه انخراط آلاف الشابات والشبان في ذكرى النكبة وما سبقها. رواية سرديتنا للعالم قلبت موازين التغطية المحدودة والمنحازة للأحداث في فلسطين، إذ تجاوز وصولها العالم العربي إلى شعوب العالم، ودفعت مئات الآلاف إلى الشوارع للتظاهر.
المساهمة الإضافية النوعية والفعّالة بنشر سردية جديدة في دول الشمال كانت لجيل الألفية الحالية (Z Generation)، إضافة إلى الشرائح العمرية الأكبر التي استطاعت استخدام أدوات هذا العصر. وقد استطاعت هذه الجهود أن تُحدث شقوقاً في جدار الخطاب المنحاز في دول الشمال بما فيها أمريكا وكندا.
التفوق على الإعلام التقليدي وإحراجه
مع بدايات شهر أيار بدأ التفاعل مع أحداث القدس، وتحديداً مع قضية تهجير أبناء حي الشيخ جراح، بالتصاعد. تزايدت تغطية المؤثرين والمؤثرات العرب، وانضم مؤثرون عالميون لعشرات الآلاف الذين غردوا ونشروا الهاشتاغ الخاص بالشيخ جراح على منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي. الصحفية الفلسطينية المقيمة في كندا منى حوا كانت من أبرز هؤلاء. تخلت حوا عن أساليب الإعلام التقليدي التي خبرتها ووظّفت هي وعدد كبير من النشطاء حساباتهم على الانستغرام لدعم هذه القضية. أتاح هؤلاء حساباتهم لتكون جسراً لمواطنين صحفيين فلسطينيين في حيفا واللد والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح ثم بعد ذلك في غزة. تمكّنوا من إيصال الصورة والخبر من الأرض مباشرة لمئات الآلاف من المتابعين موفرين عشرات الساعات من التغطيات المباشرة للأحداث، التي استمر بعضها لأكثر من عشرة ساعات متواصلة، وتجاوز عدد المتابعين في أكثر من فترة تغطية المئة وخمسين ألفاً.
تحولت هذه المنصات إلى المصدر الأول للأخبار لشريحة كبيرة من الناس في مختلف أنحاء العالم، وحررتهم من الحاجة لانتظار وكالات الأنباء العالمية التي لم تقم بتغطية هذه الأخبار إلا نتيجة انفجار الأوضاع عسكرياً. هذه المنصات لا تخضع لكثير من الحسابات أو تعقيدات سياسات التحرير والبث وضغوط المانحين. وقد دفع إصرار سي بي سي الكندية الدائم على ظهورها بمظهر الحياد المتوازن دون الدخول في تفاصيل وأسباب أحداث اليوم أكثر من ألفي أكاديمي وصحفي إلى التوقيع على بيان موجه للشبكة الكندية للقيام بتغطية عادلة للأحداث.
جيل الأدوات المرنة
يمتلك هذا الجيل مرونة وقدرة مميزة على التفاعل مع الأحداث التي تجري من حوله. هو جاهز لتعلم مهارات وتقنيات حديثة وجديدة. قادر على استخدام لغة مبسطة عفوية وذكية تمكنه من الوصول للآخر وليس الاقتصار على مخاطبة مجتمعاته. الأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها استخدام الشابة المصرية إيمان عسكر لحناً فلكورياً غربياً Sea shanty. لتغني في دقيقة ونصف قصة مئة عام من تاريخ فلسطين وتحقق وصولاً لعشرات الملايين من المشاهدات خلال يومين عبر حسابتها الشخصية، عدا المشاهدات على الآلاف من الحسابات الشخصية والعامة التي قامت بإعادة بنشر الأغنية لتصبح هي الخبر الذي تناقلته وسائل إعلام تقليدية.
هذا النشاط الاستثنائي للجيل الشاب على هذه المنصات تجاوز عملية نقل الأخبار والصور ونشر الهاشتاغات، ليٌقدم محتوى مدعّماً بالأدلة ويقترح كتباً عن القضية، و يشارك مراجع ووثائق. تدفق سيل من المعلومات والحقائق عن تاريخ الصراع والحقوق الفلسطينية وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان. رافق ذلك وجود أدلة على ممارسات التمييز العنصري والتطهير العرقي والاستيطان مدعّمة بما تراكم عبر السنين من قرارات دولية وتقارير منظمات حقوق الإنسان حول فلسطين.
وحصدت سلسلة فيديوهات الشاب الفلسطيني الأمريكي صبحي طه مئات الآلاف من المشاهدات لمحتواه الذي شاركه وأعاد نشره الآلاف من الحسابات، ليقدم سردية مختلفة عما اعتاد المواطن الأمريكي سماعه من إعلامه. محتوى مباشر يتحدّث بلهجة أمريكية معاصرة بالتفاصيل عن الحقوق الفلسطينية.
أثبت هذا الجيل أنه قادر على مخاطبة الآخرين والوصول إليهم، وأنه قادر أيضاً على تكثيف كمّ هائل من المعلومات والمفردات والخبرات العالمية وتقديمها بطرق غير تقليدية، بعيداً عن عُقد ومحددات الكتاب المدرسي والمنهاج الحكومي أو العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو المنطقة الجغرافية أو اختلاف المناطق الزمنية.
هذه الأدوات والمنصات أثبتت خلال الأعوام الأخيرة فعاليتها الهائلة في التأثير المتبادل بين من يقومون باستخدامها، إذ رفعت مستوى وعيهم وتفهّمهم للقضايا التي تتقاطع وتتكامل مع قضاياهم. وقد ساهم الوصول إلى المعلومات من مناطق مختلفة حول العالم إلى التحرر من قيود الحكومات والدول واللوبيات بدرجات كبيرة.
معظم أبناء جيل هذه الألفية يتقن اللغة الانكليزية لا كلغة فئة أو شعب فقط بل كوسيلة فعّالة للتواصل. كثير منهم متحرر من العديد من الموروثات الاجتماعية والثقافية التي قد تحد من قدرتهم على الانفتاح على قضايا الآخرين. أوصل ذلك المحتوى الفلسطيني إلى جمهور عريض في أمريكا الجنوبية والشمالية ودول شرق آسيا. هذا الوصول كان مُشابهاً لانتشار الحديث عن قضايا الاستبداد والجندر والنسوية والتطهير العرقي والعنصرية وعدم المساواة خارج أطر الإعلام الرسمي والعالمي. وقد حصل ذلك في تغطية الاحتجاجات على اعتقال المعارضين في روسيا، واختراق التعتيم على وجود معسكرات الإيغور في الصين، وأحداث القمع في هونغ كونغ، ونضالات حياة السود مهمة في أميركا وكندا، ومظاهرات النسوية في الأرجنتين. في الصيف الماضي مثلاً، نفّذ شبان وشابات آلاف الحجوزات الوهمية لحضور أحد خطابات دونالد ترامب خلال حملته لولاية رئاسية ثانية، ما جعله يلقي خطابه أمام مدرجات شبه خاوية.
الخروج من الغيتو
يُعتبر العرب والمسلمون رسمياً في كندا جزءاً مما يُسمى “الأقليات الملحوظة Visible Minority“. ويتم تحفيزهم رسمياً على المشاركة والمساهمة بفعالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كندا، وخاصة في مواسم التصويت والانتخابات. تطلب الحكومات الكندية منهم ومن الأقليات الأخرى، كالسكان الأصليين والسود، التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم وعاداتهم و تقاليدهم. إلا أن الحكومة الكندية وسياساتها تجاه فلسطين وقضايا أخرى كمحاربة العنصرية الممنهجة والتمييز تجاه الأقليات من السود أو العرب والآسيويين أو المسلمين، تبدو غير جادة أو شفافة. يتم تجنب فسح المجال أمام هذه الأقليات للتعبير عن آرائها بحرية، فلا نجد تغييراً حقيقياً في السياسات الظالمة ضدها. وكان واضحاً لأبناء هذه الأقليات التغطية الكندية المنحازة للأحداث الأخيرة في فلسطين، وتجنّب حكومة ترودو وحزبه توجيه أي انتقادات حقيقية لسياسات إسرائيل.
في كندا، يبدو الحديث عن فلسطين كأرض وشعب تحت الاحتلال صادماً ومُحرجاً لكثيرين. في الإعلام والأوساط العامة يتم تداول ما يجري دون التجرؤ على الخوض في انتهاكات اسرائيل وانتقادها. هناك ما يشبه الخطوط الحمراء الفكرية التي تحدد سقف التعبير. غيتو حرية التعبير هذا يتلاشى مع تراكم النضالات وتقاطعها لدى الأجيال الشابة، فأدوات النضال في تطور دائم. عالم اليوم لا يُمكن التغاضي فيه عن التمييز بمختلف أشكاله، ولا يجب أن يكون فيه مستقبل للاستيطان الاستعماري أو التطهير العرقي أو ممارسات الاستبداد. ثمة شبان وشابات قادرون على زعزعة أركانه.