جمهورية الأجساد الكليمة

حكاية لاجئين ينتظرون الأطراف الصناعية

هذا المقال هو جزء من مجلة مفازة الرقمية التي تبحث في موضوع النجاة. تقرأون أيضاً فيها: القيامة في الجسد لكنانة عيسى، حوكمة الأمل لحسين الشهابي، العالم ليس قرية صغيرة لرجا سليم، أن تهوي من اللامكان لنور موسى، نجاة الهوية في الشتات لعلا برقاوي، تأثيث الذاكرة لعلي زراقط، حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام لشاونت رافي، والجروح الحية: عن الانتهاكات والمظلومية لساشا زاك.

_____________________________

نبيل محمد

صحفي وناقد سوري، عمل مراسلاً ومحرراً وناقداً في عدد من وسائل الإعلام العربية. مقيم في كندا منذ 2022. صدرت له رواية “دورة أغرار”  سنة 2020 في إيطاليا.

______________________

يعبر الناجون الحدود، أي حدود كانت؛ حدود بلدهم، أو حدود الحرب، أو حدود آخر المقابر التي دفنوا فيها ذويهم. يظن من فُتح لهم باب الهروب أنهم نجوا. لكن الذاكرة المليئة بالتفاصيل والصور تغيّر كل القيم المجرّدة، وتغيّر مفهوم الوطن والانتماء أحياناً. تغير الذاكرة أيضاً معنى الحب والصداقة، خاصة لدى أولئك الذين فقدوا حبيباً أو صديقاً ثم استطاعوا النجاة بأجسادهم من محرقة الحرب. في الحرب هناك من يمضي تاركاً خلفه بيتاً يحفظ تفاصيله بقية حياته، وهناك أيضاً من تذكّره عكّازه كل صباح أن جزءاً من جسده قضمته الحرب.

“إذا كانت لديك القوة، فلا تنظر لترى ما إذا كنت قد فقدت ذراعاً أو ساقاً. القوة تأتي من الداخل”، وردت هذه الجملة في لقاء صحفي مع إبراهيم الحسين، وهو سبّاح سوري شاب اعتلى قمة أولمبيا الأثرية حاملاً الشعلة الأولمبية ومعلناً بدء رحلة أولمبياد ريو 2016. الرمزيّة التي حملها هذا الحدث ليست مرتبطة فقط برياضي متميّز نجا من الحرب في بلاده، فقطع البحر نحو أوروبّا بحثاً عن الأمان. ترتبط رمزية الحدث بكون نجاة الحسين من الحرب منقوصة فيزيائياً، حيث فقد رجله اليمنى برصاص قوات النظام السوري في مدينته دير الزور، قبل أن يهرب كعشرات آلاف الشبان السوريين. متطلبات الحسين كانت تزيد عن متطلّبات غالبية أقرانه من الهاربين، فهو يريد طرفاً صناعياً في البداية، ثم بعد ذلك يمكن للأحلام والأمنيات أن تنال مساحتها الطبيعية من التفكير. بالنسبة له، لم تتنازل الأحلام عن مكانتها، ذلك أنه أصبح اليوم سبّاحاً عالمياً يمثّل اليونان التي يحمل جنسيّتها دولياً.

في حالة الحسين، يختلف سرد القصّة عمّا هو معروف في قصص نجاح وتميّز أصحاب الاحتياجات الخاصّة. فعادة ما تتوافر في تلك القصص عوامل عديدة تسهل على صاحب الإعاقة تجاوزها أو التعامل معها. العوامل تلك هي البيئة الاجتماعية المستوعبة للطريقة المثلى في التعامل أصحاب الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى توفُّر الأطراف الصناعيّة الجيّدة أو الأجهزة المساعدة للاحتياجات المختلفة. بعد ذلك، يجب أن تتوفّر المؤسسات أو المراكز التأهيلية التخصصية التي تعلّم صاحب الاحتياج الطرق المثلى لتجاوز العقبات. كي تكون ذا إعاقة ناجحاً في مجال ما فأنت، إلى جانب التصميم النابع من داخلك، بحاجة إلى تلك العوامل سابقة الذكر لتحقق ما تريد تحقيقه. عند الحسين، وفي حالات أخرى مشابهة له، يثبت أنه حتى مع عدم توفّر تلك العوامل يمكن رؤية ضوء ما. خاض الحسين مخاطرة الهروب إلى تركيا بدايةً بهدف الحصول على طرف صناعي. بعد ذلك خاطر بالهروب بحراً إلى اليونان بحثاً عن المستقبل كسبّاح دولي.

حق الإحصاء المسلوب

____________

37 في المئة من سكان شمال شرقي سوريا يعانون نوعاً من الإعاقة

___________________________

لا يمكن لأحد أن يستصغر معاناة اللاجئ، عبر استخدام وصف “ليس مجرّد لاجئ”، إلا ذلك اللاجئ صاحب الاحتياج الخاص، الذي ينظر إلى معاناة اللاجئ بأنها معاناة مقبولة، يمكن التأقلم معها أو تجاوزها بجسد كامل الأطراف والحواس. هناك رحلة طويلة للاجئ السوري الذي فقد شيئاً من جسده قبل رحلة المطالبة بحقّه الإنساني كلاجئ (حق مساواته إنسانياً بابن البلد المضيف مثلاً، ثم حق العمل أو التعليم أو الصحة). قبل كل هذا هناك حقّ الحصول على طرف صناعي، وحق الحصول على الخدمات الخاصّة، وحق تسهيل استخدام الخدمات العامّة، ومجمل الحقوق التي يحصل عليها صاحب الاحتياج الخاص من البلد المضيف.

حق الإحصاء أيضاً يبدو حقّاً أوليّاً، لكن الإحصاءات التي تستهدف اللاجئين السوريين عامّةً في دول الجوار تقف عاجزة عن تقييم الوضع بشكل واضح وتفصيلي. لذلك يصعب التكهّن بعدد اللاجئين المحتاجين لدعم من نوع خاص. وبناء على ذلك، فإن تقييم أوضاع اللاجئين ذوي الإعاقة وتحديد متطلباتهم يبقى ناقصاً في ظل عدم وجود دراسات رسميّة موثوقة، تحدد بدّقة أعدادهم وأنواع إعاقاتهم ومواقع تواجدهم.

واحدة من أهم الإحصاءات التي قاربت قضية أصحاب الاحتياجات الخاصّة من السوريين هي ما أوردته منظمة الصحة العالمية سنة في تقرير لها 2018 وقالت فيه إن “هناك 30 ألف مصاب كل شهر نتيجة الأعمال الحربية، وقد خلفت الإصابات 1.5 مليون يعانون إعاقات دائمة من أصل 3 مليون شخص أصيبوا منذ العام 2011”.

الأمم المتّحدة أيضاً وفي تقرير صدر سنة 2021 بعنوان الإعاقة في سوريا، تحقيق حول الآثار المتعددة الجوانب للنوع الاجتماعي والعمر خلال عقد من الصراع على الأشخاص ذوي الإعاقة، قالت إن “حوالي 28 بالمئة من السكان السوريين، الذين تزيد أعمارهم عن عامين، يعانون الآن من إعاقة من نوع ما”. وكان من الأرقام الصادمة ضمن التقرير أن “حوالي 37 بالمئة من سكان شمال شرقي سوريا يعانون من نوع ما من الإعاقة”. تبلغ هذه الأرقام ضعف المتوسّط العالمي الذي يقدِّر عدد أصحاب الاحتياجات الخاصة في المجتمعات بحوالي 15 بالمئة وهو من تنطبق عليهم المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقة.

الأرقام الخاصة في سوريا تشير بشكل أو بآخر إلى أن نحو نصف أصحاب الإعاقة من السوريين، أصبحوا كذلك بسبب الحرب. ومن المعروف أن الأعمال الحربية التي حدثت في سوريا وما زالت مستمرّة في بعض المواقع، كانت تستهدف المناطق المأهولة بالسكّان، وتركّز الاستهداف على المستشفيات والمدارس والمراكز المزدحمة. وفق تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في عام 2019  حدث ما مجموعه 262 هجوماً على المدارس والمستشفيات في سوريا، وبالتحديد  157 هجوماً على مدارس و105 هجمات على مستشفيات، غالبية تلك الهجمات حدثت في إدلب. في ذلك الوقت كان الطيران السوري والروسي يشنان حرباً واسعة على فصائل المعارضة السورية في الشمال السوري، وكانا يستهدفان بشكل شبه يومي المواقع السكنية ومرافق الخدمات.

اشتهرت القنبلة العنقوديّة كواحدة من أكثر القنابل التي استخدمها الطيران الحربي في تلك الفترة. وتصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر تلك القنبلة بقدرتها الكبيرة على بتر الأطراف والتسبب بالإعاقات للمتواجدين في أمكنة قريبة من موقع سقوطها. وعليه فإن حالات بتر الأطراف كان شائعة جداً في سوريا.

لاجئون باحتياجات خاصة في تركيا

_________________

“من نجا من الحرب عبر الوصول إلى مكان لا حرب فيه لا يعني أنه نجا”

فراس الفوال، ناشط سوري فقط أحد أطرافه

_______________

يبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا بحسب آخر إحصاء صادر عن إدارة الهجرة التركية 3 ملايين و168 ​​ألفاً و512 لاجئاً خاضعاً لـما يسمى “الحماية المؤقتة”. يعاني أغلبهم من صعوبات تتعلق بممارسة العمل والحصول على الخدمات التعليميّة والصحيّة.

من بين جموع اللاجئين قدر صندوق الأمم المتّحدة للسكان عدد اللاجئين من أصحاب الاحتياجات الخاصة بـ 450 ألف شخص في 2021. ولكن بناء على الإحصاءات الصادرة في السنوات السابقة عن الجهات الدوليّة، والتي تجد أن نسبة أصحاب الاحتياجات الخاصة من السوريين تقارب ضعف النسبة العالميّة، يمكن القول إن عدد اللاجئين من أصحاب الاحتياجات الخاصة في تركيا قد يجاوز الرقم المعلن عنه. يتعزز ذلك خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النسبة الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا قادمة من الشمال السوري، وهي المنطقة التي شهدت أعتى الهجمات الجويّة، وأقسى الأعمال الحربية، والتي ترفع الأمم المتحدة نسبة المصابين فيها مقارنة بغيرها.

تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين أصحاب الاحتياجات الخاصّة، لا تحصل منذ 2018 على الخدمات المقدّمة لأصحاب الاحتياجات الخاصّة الأتراك، بل تتم معاملتهم معاملة اللاجئ السوري العادي. فلا يمكن لصاحب إعاقة سوري الحصول على البطاقة المعروفة التي يحملها صاحب الإعاقة التركيّ، والتي يحصل بموجبها على مجموعة كبيرة من التسهيلات والخدمات الإجتماعية والصحيّة، كتسهيل الإجراءات القانونيّة، واستخدام المواصلات العامة مجاناً، إضافة إلى الدعم المتمثّل بالدمج والتأهيل والتدريب، والرعاية الصحيّة الدورية وغيرها. عليه فإن تلك الفئة إما أن تحصل على دعم جزئي من قبل إحدى المنظمات الدوليّة أو المحليّة المختصة بدعم ذوي الاحتياجات الخاصة، أو أن تبقى دون دعم نهائياً. وتشير الحقائق على الأرض إلى أن أعداداً كبيرة من اللاجئين من ذوي الاحتياجات الخاصّة لا يحصلون على أي دعم.

ادعم نفسك بنفسك

مجموعة من اللاجئين السوريين من أصحاب الاحتياجات الخاصة في مدينة إسطنبول التركية، أدركوا مدى أهميّة السعي الشخصي لتحصيل الحقوق وتجاوز العقبات المتكاثفة، فعملوا في مبادرة أطلقها فراس الفوّال، وهو ناشط نجا بأعجوبة من مقذوف عنقودي أسقطته الطائرات الروسية خلال قصفها مدينة دوما في ريف دمشق سنة 2015، سقطت القذيفة حينها بينه وبين أخيه الصغير ووالده، ففقد هو ساقه اليمنى، فيما فقد والده ساقيه الاثنتين، وفقد أخوه الأصغر مشط قدمه.
المبادرة تضمنت تأسيس جسم خدمي بشكل قانوني منظّم يقوم بخدمة اللاجئين السوريين من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ويقوم على إدارته وتسيير شؤونه لاجئون سوريون من ذوي الاحتياجات الخاصّة.

“الصوت الواحد” هو ما كان يبحث عنه الفوّال ورفاقه في رحلتهم لتأسيس ما ينقصهم، وهو ما يعني أن يجتمعوا على موقف موحّد، يمكنهم من خلاله التأثير، أو الحصول على الدعم المحلي أو الأممي. لكن قبل كل شيء كان ينقصهم التنظيم، والخبرة في العمل الجماعي. حاولت المنظمة التي أسسها أصحاب الاحتياجات الخاصة سويّة منذ انطلاقتها تحديد أهداف واضحة وقابلة للتحقق. المنظمة انطلقت باسم المنظمة السورية لذوي الاحتياجات الخاصة بداية وفق لقاءنا مع الفوال.

فكرة الفوّال انطلقت من نظرة واقعيّة ترصد راهن اللاجئين من ذوي الإعاقات في بلد كتركيا، بواقعها السياسي والاقتصادي خلال السنوات الأخيرة. فمن جهة يشكل اللاجئون السوريون من ذوي الاحتياجات الخاصّة ضغطاً اقتصاديّاً، على اعتبار أن تكاليف التعامل معهم ليست بقليلة، لذا توقّفت الجهات الرسميّة عن خدمتهم في 2018. ومن جهة أخرى فإن الجهات غير الرسمية التركية من منظمات غير حكومية وجمعيّات، امتنعت عن خدمة تلك الفئة لاعتبارات بعضها سياسيّة، تتعلّق بوضع تلك المنظّمات وموقعها من الخريطة السياسية الحسّاسة في تركيا.

وضع الفوّال مع رفاقه نصب أعينهم أن ما يقصدونه ليس السمكة، وإنّما تعلّم الصيد. كان نضالهم بأقدامهم المبتورة وكراسيهم المدولبة والأدوات التي تساعدهم على الحركة والإحساس في البداية مكرّساً لتحديد الأولويّات الخدميّة التي تريدها كل فئة منهم، والطرق للحصول عليها. يشمل ذلك تعلّم الخبرات الإدارية واللغوية، وبالتالي يتطلّب التدريب والتأهيل المهني والأكاديمي، كي لا يكون ما ينتظرونه هو هبات مؤقّتة أو “صدقات” كما يصفها الفوال. 

انطلاقاً من 2018 بدأت منظمة جنباً إلى جنب العمل بجهود متطوّعين من ذوي الاحتياجات الخاصة اللاجئين. تم الإعلان عنها كجمعيّة مرخّصة، فحققت التواصل مع الجهات الخارجيّة الداعمة، وبنت مجموعة من الشراكات مع مؤسسات خدميّة تدعم ذوي الاحتياجات الخاصّة. غالبيّة الدعم الذي حصلت عليه المنظّمة لم يكن دعماً مالياً، إنما دعم بالاحتياجات الماسّة، كالأطراف الصناعيّة والأجهزة، إضافة إلى الدعم بالخدمات. تولّى المتطوّعون في الجمعيّة توزيع الدعم على مستحقيه في اللوائح الخاصة بالجمعيّة، والتي تضم أسماء وعناوين اللاجئين من أصحاب الاحتياجات الخاصّة. هي عناوين قامت الجمعيّة بتجميعها من خلال رصدها بيئات اللاجئين في مختلف مناطق تواجدهم في إسطنبول.

لم يتقاضى أحد راتباً في المنظمة، فجميع العاملين فيها هم من المتطوّعين، من مديرها التنفيذي إلى مُدخل البيانات وحتى المصوّر، وذلك نتيجة عدم حصول المنظّمة على دعم مالي. تخفيف النفقات إلى أدنى حد كان أداة المنظّمة في الاستمرار، وتحدّي الصعاب المتكاثرة في بلد تتلاحق فيه الأزمات السياسية والاقتصادية.

كانت إنجازات المنظّمة خلال السنوات الخمس الماضية لافتة بما حققته من الفوائد بأقل تكاليف، وكانت تلك الإنجازات على شكل خدمات متعددة، سواء بالأجهزة أو الأطراف الصناعيّة أو الخدمات المتعددة. يقول الفوال: “اليوم يمكن أن أقول بشكل أكيد، ليس هناك لاجئ سوري في إسطنبول يعاني من مشكلة في السمع إلا ولديه أفضل أنواع السمّاعات عالميّاً، وذلك تم من خلال منظمتنا، وجهودها بالعمل والتنسيق مع الشركاء الدوليين”. 

خلال خمس سنوات تعاملت جنباً إلى جنب مع 2000 حالة إعاقة شديدة، وقدّمت ما مجموعه 15000 خدمة متنوّعة خلال عامي 2021 – 2022 لآلاف أصحاب الاحتياجات الخاصّة من اللاجئين السوريين في اسطنبول ومناطق أخرى من تركيا.

حاولت المنظّمة توسيع مجالات اهتماماتها، وجغرافية خدماتها، فأسست مركزاً للمعالجة الفيزيائية بسويّة جيّدة وتكلفة قليلة. أسست المنظمة أيضاً مأوى في جنوب تركيا مخصص للمصابين القادمين من مناطق الشمال السوري. يقدّم المأوى العلاج الأولي للجرحى، ويقدّم الخدمات في الجانب الإداري والرسمي، كما يقدم خدمات متعلقة بتركيب الأطراف الصناعية. يتعامل المأوى مع نحو 20 مصاباً كل شهر.


فئة ضحايا الحرب من ذوي أصحاب الاحتياجات الخاصّة هي فئة تصل إلى حوالي نصف الأفراد الذين كانوا يراجعون المنظّمة، وهو ما يقارب الإحصائيات الدولية الواردة أعلاه. تلك الفئة ذات خصوصيّة بين أصحاب الإعاقات أنفسهم، فهي إما حديثة التعامل مع الإعاقة نسبياً، وإمّا بحاجة متابعة صحيّة دقيقة باعتبارها لم تخضع للعلاج في مراكز مختصّة في سورية قبل اللجوء.

الضحايا الذين فقدوا ما فقدوه في الحرب، ونجوا من تحت الأنقاض أو كانت هناك سيارة إسعاف قريبة منهم عندما أصيبوا، فكان أن بقوا على قيد الحياة، ينقصهم بالدرجة الأولى الإقرار الرسمي والشعبي بهم كأصحاب إعاقات. يقول الفوّال: “أنا، بساق واحدة، إذا دخلت إلى مؤسسة رسميّة تركيّة اليوم، ووجدت نافذتين، الأولى مخصصة للمعاقين، والثانية لغير المعاقين، سأتّجه بطبيعة الحال إلى نافذة المعاقين، وسيطلب مني الموظف هويّة ذي الإعاقة التي تمنحها الدولة أو البلديّة، وعلى اعتبار أنني لا أملك مثلها كلاجئ سوري، سيتم تحويلي إلى النافذة التي تخدم غير ذوي الإعاقة. هذا هو عدم الاعتراف الذي يشعر صاحب الإعاقة حياله بالتمييز الإنساني. كانت أولى أهدافنا أن نعترف بأنفسنا وبحاجتنا ونحاول نيل هذا الاعترف من أكبر فئة اجتماعية أو سياسية، لنحقق الخدمة لنا كمجموعة”.

على وشك الإغلاق

استمرّت منظمة جنباً إلى جنب مدة زادت عن خمس سنوات، إلى أن وصلت إلى مكان تراجعت فيه نشاطاتها، وتجمّدت قدرتها على تقديم المزيد من الدعم الذي اعتادت تقديمه، في ظل انعدام مصادر الدعم والتمويل. المنظّمة اليوم قاب قوسين أو أدنى من الإغلاق، على الرغم من استمرار القائمين عليها من ذوي الإعاقات بالمحاولة الدؤوبة. 

تنبع قيمة تجربة المنظمة في مجال خدمات ذوي الإعاقة من اللاجئين السوريين من أنها لم تقتصر على مهمّة محددة، ولم تضع مؤطرات لخدماتها، بل استمرّت بالتجريب والتطوير، ليكون ما تقدّمه أكثر من أدوات وأجهزة، وخدمات أوليّة. هناك اليوم من بين المتطوّعين في المنظمة أو الحاصلين على خدمات من خلالها من استطاع الاندماج بسوق العمل التركي، ومن استكمل تعليمه الجامعي، أو نال خبرة في مجال مهنيّ معيّن. وعليه سيكون الإغلاق قراراً مريراً، هو بشكل من الأشكال جزء من قضيّة عدم الاعتراف الإنساني التي أشار إليها الفوّال مراراً.  يقول الفوال إن الداعمين “كثيراً ما ينظرون إلينا كمتطوّعين، لا موظفين يتقاضون معاشات شهريّة، بمعنى ليس لدينا تكلفة تشغيلية، وهذه قضية ذات اعتبار عند الداعم. اعتبار سلبي غالباً”. 

سجنان بينهما قذيفة ورجل مبتورة

تفتح جدليّة النجاة باباً لذكريات سنوات مريرة مرّ بها الناشط الشاب فراس الفوّال، بدءاً من سنة 2011 عندما حمل مجموعة من الفيديوهات والصور التي وثّق فيها جرائم تقوم بها قوى أمنيّة تابعة للنظام السوري تجاه مدنيين من سكان مدينته. أراد الفوال أن يعرضها على منظمة حقوق الإنسان في لبنان، فاتجه نحو بيروت بعد تواصله مع موظفي المنظّمة هناك. خوفاً من الاعتقال، حاول الهروب من لبنان عبر التواصل مع السفارة الكنديّة في بيروت، ولكنّه لم يحظى بذلك.

تم اعتقال الناشط للمرة الأولى بعد عودته من بيروت باتجاه دمشق، حيث قام النظام بزجّه في المعتقل بصحبة مجموعة كبيرة من أصدقائه والنشطاء العاملين بصحبته في دوما بريف دمشق. تمت تصفية مجموعة منهم داخل المعتقل، وكان من حظّه أنه لم يفقد حياته خلال شهور الاعتقال الثلاثة تلك. يوضح الفوال أن في تلك التجربة “القصيرة نسبياً، هناك ما لا يمكن النجاة منه. إن صوت احتكاك أي قطع معدنيّة اليوم يؤذيني، يرتجف جسمي لسماع أي صوت يشابه صوت فتح قفل باب معدني. كان هذا الصوت يعني التعذيب، أو ربما الموت”.

بعد تجربة الاعتقال الأولى، استكمل فراس نشاطه في العمل العام، واتجه نحو العمل المدني وتشكيل المجالس الخدميّة، والدعوة إلى تعميم الحالة الديموقراطية، وتعميم ثقافة انتخاب الهيئات والمجالس. نجح في ذلك في بعض الأحيان، وما جعله أيضاً في مواجهة سلطات الأمر الواقع المسيطرة على منطقة تواجده.

سقطت القذيفة الأولى قريباً منه فأصيب بكسر في الجمجمة، وجرح في العنق. وقبل استكمال علاج تلك الإصابة، سقطت قذيفة أخرى أفقدته ساقه، وحوّلته مع والده وأخيه إلى أصحاب احتياجات خاصّة، في ظل ظروف صعبة يكاد يستحيل معها الدعم الطبيّ والإنساني المناسب.

بعد البتر وبسبب مسكنات الألم الكثيرة التي استخدمها الشاب، بدأت الأفكار الانتحارية تجتاحه. عندها قرر الهروب خارج البلاد لينال رعاية صحية مناسبة. خلال عملية الهروب تم إلقاء القبض عليه، ثم تم تسليمه من قبل مجموعة مسلحّة معارضة إلى النظام السوري. كان لديه حينها الكثير من الأعداء بسبب طبيعة عمله في الشأن العام، ونشاطه في منطقة تحكمها ميليشيات مسلّحة. زجّته قوّات الأمن السوري في سجن الفرع 293 (شعبة الأمن العسكري)، وهو سجن ذو سمعة مرعبة بأساليب التعذيب. تم التحقيق معه من قبل اللواء محمد محلا، وهو من كبار الضباط الذين فرضت عليهم عقوبات دوليّة لتورّطهم في القتل والتعذيب في السجون السوريّة. في السجن تعرّض الشاب للتعذيب الشديد، تعذيب استهدف مناطق الإصابات والبتر في جسده. شعر الشاب باقتراب الموت مراراً منه، وما زالت حتى الآن تفاصيل كثيرة غائبة عن ذهنه. يقول إنه لا يتذكّر إلا أنه كان يفتح عينيه لدقائق قليلة ويغلقها، ظاناً أنه سيموت تحت التعذيب، وهو مصير ناله الآلاف في سوريا.

نتيجة تهم متعددة، منها العمل كقيادي في تنظيمات معارضة، تم الحكم على الفوّال بالسجن لمدة 22 عاماً، وتم تحويله إلى السجن العسكري.  للمفارقة، شكّل الحكم بالسجن بارقة أمل بسيطة للفوال، فالحكم الرسمي بالسجن يعني إمكانية تحويل السجين إلى المستشفى لتلقّي العلاج. هذا العلاج هو ترف لا يمكن للسجناء في مراكز المخابرات وأقبية التعذيب الحصول عليه قبل المحاكمة. 

استطاع الشاب من خلال شبكة علاقاته القويّة التي كانت داعماً له في كثير من مفاصل حياته أن ينال العلاج مدة 14 شهراً متنقلاً بين عدّة مستشفيات في دمشق. الأمر كان مكلفاً بشكل كبير من الناحية الماديّة، وأغلب التكلفة كانت تدفع بمثابة رشى لينال ما ناله من معالجة وهو سجين. بأسلوب “الرشى” ذاته استطاع الفوّال التوصل إلى اتفاقية مع سجانيه المباشرين، بأن يتم تسليمه لقوات المعارضة في المنطقة الوسطى عله يستطيع الهرب خارج مناطق سيطرة النظام. تم ذلك بالفعل، وأدى في النهاية إلى هروبه إلى تركيا.

النجاة بالذاكرة.. النجاة بالحلم

_________

كان الحب في كل خطوة الحافز الأكبر للنجاة والتمسّك بالحياة

____________________

لم تكن فكرة تركيب طرف صناعي للفوّال فكرة مناسبة، وهو ما يعود إلى أسباب شتّى، أهمّها هو وضع منطقة البتر، فهي لا تتناسب إطلاقاً مع الأطراف البديلة التقليديّة لأن البتر لم يكن احترافياً أبداً. من قام ببتر ساق الشاب هو طبيب مختص بالأذن والأنف والحنجرة، ولم يقم بذلك لأن ذلك كان ضرورياً، فالبتر لم يكن ضرورياً تماماً. تم البتر بسبب عدم توافر طبيب قادر على وصل الأوردة حينها. أغلب الأطراف المبتورة جراء الحرب في سوريا بُترت بسبب عدم وجود مختصين قادرين على تجاوز قضية البتر. وهو أيضاً يعني أن البتر غير احترافي. 


حتى الآن هناك أجزاء صغيرة من مخلفات الشظيّة موجودة في منطقة البتر بساق الشاب، يشعر بها أحياناً، فيقول عن ذلك: “الألم الشبحي الذي أشعر به اليوم يبدو وكأنني قد فقدت ساقي بالأمس”. يعود ذلك إلى عدم احترافية البتر. الطرف الصناعي الوحيد الذي يمكن أن يتناسب مع وضعه اليوم هو الطرف الصناعي الذكي، وهو ذو تكاليف هائلة لا يمكنه تحمّلها، كما أن تركيبه بحاجة لدراسة ورعاية مختصين.

كان حلم فراس قبل كل ما حدث هو السفر إلى كندا للدراسة في معهد “بوتشر” في فانكوفر أو في الكلية الكندية للطب الطبيعي. كان دائماً يتخيّل اللحظة التي يقدّم فيها رسالة دكتوراه عن الطب الطبيعي في حضارات الشرق الأوسط، خاصة وأن العلاج الطبيعي هو اختصاصه ومهنته الحاليّة. 

اليوم يصعب على الشاب أن يقول بأن حلمه ما زال يأخذ من تفكيره المساحة ذاتها، فقد مرّت سنين طويلة. ولكنه من جهة أخرى يرفض أن يرى نفسه بلا حلم، فذلك استسلام سلبي للواقع القابل للتغيّر دائماً. يؤمن الفوّال بأن الخيار الوحيد للاستمرار هو إعادة المحاولة. الأمل هو ما يفرّق بالنسبة له بين قدرين، أولهما الموت الذي يسببه القهر أو إدمان المخدّرات، وثانيهما الكفاح والوقوف المستمر بساق واحدة.

كان الحب في كل خطوة الحافز الأكبر على النجاة والتمسّك بالحياة. في كل لحظة كان يغمض فيها عينيه في السجن أو المستشفى، كان هناك ما يجبره على أن يفتحهما مرة أخرى، وهو أن حبيبته خارج السجن تنتظره ولا يمكنه أن يتركها وحيدة. حبيبة غامرت في أعتى أيام الحرب فتركت إقامتها في الولايات المتحدة وعادت إلى سوريا لتكون معه. “الاستسلام في هذه الحالة قرار أناني”، يقول الفوال. 

النجاة أيضاً هي ليست خياراً فردياً، فنجاة الشاب هي نجاة حبيبته أيضاً، على أن النجاة كما يراها الفوّال ليست مجرد تغيير في الواقع أو الجغرافية. فمن نجا من الحرب بأن استطاع الوصول إلى مكان لا حرب فيه لا يعني أنه نجا. النجاة هي بمدى التأقلم مع الحياة الجديدة، وقابليّة الإجابة عن سؤال يتكرر: “هل أنا قادر على إكمال الحياة؟”، حسب الفوال.

في تجربة الفوّال، وفي تجارب آلاف “الناجين” من حرب لم تبق ولم تذر، تأخذ النجاة معانٍ مضطربة. هي ليست ما يقر به من يعتبرون أنفسهم ناجين بطريقة ما. إن مجرّد اعتبار نفسك ناجٍ من الحرب، لا يجعلك بالفعل كذلك. فالحروب تلاحق الناجين منها، ليس في كوابيسهم وخيالاتهم، ولا في اضطراباتهم المتكررة، أو صعوبات التنفّس و النوم، أو حتى صعوبات التعلّم. الحروب قادرة على أن تتجلّى من جديد، حتى وإن نسي الناجون تفاصيلها. هناك حتى اليوم أطفال صغار يولدون مصابين بتشوّهات خلقيّة أصابتهم في أرحام أمهاتهم الناجيات من القصف بالأسلحة الكيماوية والذي تم في الغوطة الشرقية سنة 2013. هؤلاء الأطفال لم يشاهدوا الحرب، لكنهم يشهدون نتائجها بأجسادهم.

 يكبر هؤلاء الأطفال برعاية جيل من المصابين بإصابات تختلف مواقعها وآثارها. أو قد يكبرون يتامى، في مناطق أغلبها لا تقدّم لهم الرعاية الكافية، أو على الأقل القبول الاجتماعي الذي قد يتيح لبعضهم القول: “نعم لقد نجوت من الحرب بأعجوبة”.

زر الذهاب إلى الأعلى