جليد لا يذوب بالأسئلة

بهيج وردة

شاعر وصحافي سوري مقيم في مدينة مونتريال. نُشر هذا المقال سابقاً في مدونة ختم السلطان، وتنشر حنا نسخة خاصة منه بالانكليزية

جرت العادة أن أجيب على سؤال: “كم مضى على وجودك في مونتريال؟” برد يحمل عدد الشتاءات التي أمضيتها، كأن أقول الآن: “هذا هو شتائي الرابع في المدينة”. غالباً نضحك معاً من الجواب لأن كثيراً من جليد المدينة -الذي يدوم حوالي سبعة شهور- يذوب في هذه اللحظة تحديداً، ويبدأ محدثك بمشاركتك تجربته إن كان مهاجراً سابقاً، أو يخبرك أنه يتفهم انزعاجك من الجو القاسي، ويحاول التخفيف عنك ببعض النصائح، فيما كان مثيراً لاستغرابي أن بعض الشباب المولودين في المدينة القريبة من القطب الشمالي يجيب بكونه يكره البرد والثلج، وعندما أخبر محدثي عن قدومي من دبي، فإن الجليد المتبقي في حديثنا يذوب تماماً، كأن حرارة الصحراء اللاسعة تنتصر في تلك اللحظة، وغالباً يتوقف الحديث عن الأصول، ولا نصل في الحكاية إلى سوريا.

في الواقع أحاول أن أغير ترتيب الأمكنة قدر الإمكان، لأن الحديث عن سوريا يستتبعه الكثير من الأسف، أو الجهل، أو نقص المعرفة، وفي كل الحالات على الحديث أن يستمر لنصف ساعة على الأقل، وهذا ما أفتقده في كثير من الأحاديث العابرة، فاتبعت تكتيك الإشارة إلى قدومي من دبي للدردشات السريعة، وفي حالات الاكتئاب غير القليلة، وفي كثير من الحالات فشل هذا التكتيك أيضاً، عندما يقذف الفضول بسؤال جديد إلى ساحة الحديث، ولماذا جئت إلى كندا إن كنت تعمل في دبي؟ أوف. الآن عليك أن تتحدث عن الإمارات وسوريا معاً، ويزداد الأمر تعقيداً، وفي كثير من الأوقات أنت تهرب من هذه الأسئلة المربكة، وتكتفي بالكليشيه الشهير: لقد جئنا من أجل الأولاد.

عادة يكون السؤال الثاني في الترتيب بعد “كيفك؟” هو: “مبسوط بالبلد؟” وأجيب: “الحمدالله ماشي الحال”، فيما أضبط نفسي متلبساً بالتفكير، هل أنا سعيد حقاً؟ وعندما أنتبه إلى محدثي أجد في ملامحه علامات مشابهة لضياعي. ربما يدرك البعض بأنه غير سعيد إلا أنه يبحث عن الإجابات في عيون الآخرين وتجاربهم، لعل تجاربهم تلهمه بعض السعادة.

غالباً يأتي السؤال عن السعادة من مهاجرين ذوي أصول عربية ممن اعتاد مقارنة حياته بالآخرين، وهذه ليست مذمة بقدر ما هي عادة غير محمودة لم يفكر كثيرون بوجوب التخلص منها ليشعر بسعادته الخاصة، وغالباً لا يكون السائل صبوراً كفاية ليسمع الرد، إن لم يتجاوز نعم أو لا.

هل اندمجت مع المجتمع؟ سؤال افتتاحي آخر يوجه لك كقادم جديد من قبل مدرسي اللغة، والأصدقاء، والمعارف، والأقارب، ورفاق الدراسة، والموجودين في مناطق بعيدة عن سوريا في أنحاء كوكب الأرض، وعليك أن تفكر إما في إيجاد جواب موحد للجميع، أو أن تبحث في داخلك عن مرادف لمعنى الاندماج وتجيب.

مدرسو اللغة عادة هم أكثر المنصتين لجوابك، وأكثر الرافضين لجواب مختصر، حتى إن كثيراً من المهاجرين يعتبر مدرسي اللغة خط الاستخبارات الأول للدولة المضيفة، بناء على تاريخهم الطويل مع الأنظمة الحاكمة، والحياة المليئة بالتفاصيل التي يجب تجنب الخوض بها علناً -حسب العادة المجتمعية المتعلقة بالكتمان للكثير من الأمور، ولو كان هذا من قبيل تجنب «صيبة العين»، وربما تكون بعض هذه المخاوف حقيقية -لا أدري حقاً.

مجتمع الناطقين باللغة العربية صار الثالث في الترتيب من حيث العدد في مقاطعة كيبيك الفرنسية، وهذا بناء على إحصائية حكومية حديثة نسبيا تحصي اللغة الأم التي يتحدثها المهاجرون، حيث سجلت اللغة الإيطالية تراجعاً أمام العربية لتصير في الترتيب الخامس، فيما زاد عدد الناطقين بالإسبانية إلى المرتبة الرابعة، وطبعا الناطقون بالفرنسية أولاً، والمجتمع الناطق بالإنكليزية ثانياً، مما يفتح الباب أمام المزيد من أسئلة اللغة، هل تكتب لهؤلاء؟ هل يقرأون بالعربية؟ كم عددهم؟ هل تكتب للعالم العربي البعيد جغرافياً؟

يميل الكثير من المهاجرين للتجمع في مناطق بعينها. بالأمس أخبرني دليل سياحي عن حي اصطلح على تسميته (PETIT MAGHREB) «المغرب الأصغر» على شاكلة حي (PETIT ITALY) «إيطاليا الصغرى»، لكن دون أن يحظى بتسمية رسمية كما يحظى الحي الإيطالي، وكما حولت أعداد المهاجرين اللبنانيين بلدية سان لوران إلى سان ليبان في حديثها المتداول، كذا كان للسوريين سورياهم الصغرى (PETIT SYRIE) في بلدية لافال (يفصلها عن مونتريال أكثر من جسر من الجسور الحديدية والأسمنتية) وتحديداً منطقة شوميدي، فعلى حد تعبير إحدى مدرسات اللغة الفرنسية يندر أن يسكن طالب سوري خارج هذا الحي. لكن السؤال عن الاندماج لا يتوقف.

في واقع الأمر لم أستطع لمرة واحدة أن أجد جواباً واضحاً، ولا أظن أن من يسأل لديه وضوح في الجواب. وحدهم العاملون في وزارة الهجرة لديهم أسئلة معيارية، فيما لا إجابات معيارية لها، لكن عليك أن تجيب على كل هذه الاستبيانات لعلك تساعد في الإجابة على سؤال الاندماج.

كيف يكون الاندماج إن كان الأطفال يذهبون إلى المدرسة وحضانة الحي مع كل الأقران، فيما ندرس نحن الكبار في مدارس اللغة الفرنسية، ونبذل جهدنا لنتحدث وفق قواعد صحيحة باللغة الفرنسية ولا ننجح في كثير من الأوقات.

غالباً نعمل (كقادمين جدد) في شركات محلية لاكتساب الخبرة الكندية، وعندما ننجح في العمل لفترة، ونحاول استعادة حياتنا السابقة لا يُعترف بخبرتنا الكندية لأنها ليست ضمن مجال العمل! وبالتالي عليك أن تتمسك بما بنيته لتبني فوقه مراكما الخبرات، وتتجه إلى مسار مختلف. أليست البلاد الجديدة رحلة جديدة ومسار عمل مختلف؟ ليس دائماً. هل تكون الترجمة هي الجسر لاندماج أفضل؟ ربما. ولكنني على أي حال لا أطيق هذه الكلمة: الاندماج. وكأن الحياة كيان ثابت، وعليك النفاذ من أحد شقوقها لتنجو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى