جسور الموسيقى البديلة
تورنتو تستضيف الفرعي
أماني الشيخ
كاتبة وصحفية سورية مقيمة حالياً في كندا. كتبت في عدة مواقع عربية بينها رصيف 22، ومهتمة بقضايا الجندر والعدالة الاجتماعية.
تعود الذاكرة وحدها إلى بيروت. تقودها الموسيقى والرغبة المتقدة بالرجوع إلى بداية الصبا. إلى بداية أحلام الاستقلال والكيان الحر على المستوى الشخصي. ليلة 24 ديسمبر عام 2014، كنتُ قد بدأتُ العيش لوحدي مع بعض الأصدقاء في حي الأشرفية منذ فترة قصيرة فقط. وعندما أقول وحدي فأشير إلى قرار واضح قبيل تخرجي من الجامعة أن أبدأ الاعتماد على نفسي على معنوياً ثم مادياً، خارج كنف الحماية والرعاية العائلية.
على الطريق من الدورة إلى المتن الشمالي، تكتظ السيارات وترتفع الزمامير وشتائم سائقي التكاسي والباصات الغاضبين وهدير المطر على معدن المرسيدس الصدئ، في التاكسي القديمة التي تقلني إلى المتن حيث ألتقي بعائلتي محملّة بهدايا العيد. كنت قد اشتريت هذه الهدايا من ثمن أول مقال مدفوع نشرته. كنت حينها أدندن مع الصوت الذي يصلني عبر السماعة. كلما طالت ساعات الانتظار كنت أرفع صوت الأغنية التي كنت قد سمعتها مع أصدقائي في الأشرفية، وأكرر جملة واحدة: “لما بتبسمي.. بحياتك ما تنسي الجيرة.. والعشرة.. ولا تنسي ضواوي المدينة والصحرا”. كانت الموسيقى البديلة جسراً بيني وبين نفسي.
قد تبدو الكلمات السابقة، وهي كلمات مقتطعة من أغنية “ضلك ملاك” لمؤدي الراب الفلسطيني الأردني طارق أبو كويك المعروف بـ”الفرعي”، كلمات بسيطة، وقد لا تعني شيئاً لشخص لا يعرف الفرعي، ولا يعرف بيروت، ولم يسمع عن سنوات الحب والآلام الجماعية التي قضيناها معاً في بيروت بين الأعوام 2012 و 2015. مجتمع مزيج من الشباب السوريين الهاربين من المذبحة وشتى أنواع الأسى، والشباب اللبنانيين الذين وجدوا في نزوح السوريين الهائل بعد 2011 فرصة للتعرف إلى جيرانهم من الفنانين والناشطين والصحفيين والحقوقيين الشباب من سوريا، فما كان من الطرفين إلا أن بدؤوا قضاء الوقت مع بعضهم، يطرقون الكؤوس، يناقشون هذا العالم البائس، ويشتمون الأنظمة. الموسيقى البديلة كانت جسراً بين هذه المجتمعات.
كان لدي رغبة كبيرة في العمل في الصحافة حينها، ودفعني ذلك إلى حضور اللقاءات والسهرات التي تُفتح فيها الأحاديث والنقاشات السياسية والاجتماعية. كانت تلك الجلسات أشبه بجلسات العصف الذهني الذي سيشكل رسائلنا للأجيال القادمة، كجيل عاش تجارب الثورة والحرب والنزوح القسري ثم اللجوء. القاطع المشترك الدائم، والذي لا شك بقوته بين تلك المجموعات الصغيرة، هو الموسيقى الدائمة. كانت الثيمة الرئيسة في هذه التجمعات هي الانفتاح الموسيقي على كل جديد، وأهم من ذلك استبدال الثورة الفنية التقليدية بثورة بديلة تناسب ذوق الجيل الشاب الشاهد على المرحلة، والحجر الأساس فيها. موسيقى وكلمات تناسب رؤاهم وتطلعاتهم وأفكارهم الجديدة. كانت الموسيقى البديلة بذلك جسراً بيننا وبين أحلامنا.
الجسور العتيقة تتهدّم
تعرفت إلى مفهوم الموسيقى البديلة في بداية سنوات الجامعة، وخصوصاً في اللاذقية عام 2012. قبل ذلك في الثانوية، كنت أعرف وأحب ما يعرف بالفن الثوري أو الملتزم. مارسيل خليفة ومي نصر وزياد الرحباني وغيرهم. ثورة جيل المذكورين سابقاً لا تشبه ثورتنا نهائياً. والتزام هؤلاء بقضايا الحق والنصر، لا يشبه حقنا ولا نصرنا، بعيدة كلياً عما سعينا له وحلمنا به، وانتهى بنا الأمر في بقاع الأرض أو مدفونين تحتها لأجله. زاد التباعد كثيراً بين المثقفين والفنانين من جهة والشارع والشباب من جهة أخرى، بعد كل ما جرى في العالم العربي منذ عام 2010، فقد صُدم معظم الشباب المتحمسين والساعين إلى التغيير بعدم انضمام قسم كبير من الفنانين ممن اعتبروا قدوة ومثالاً أعلى سابقاً. أدى ذلك إلى بحث مستمر عن بدائل فنية تعبر عن هذه الشرائح الحالمة بالتغيير.
ظهر مصطلح الموسيقى البديلة في سبعينيات القرن الماضي في الغرب وزاد انتشاره في التسعينيات بداية مع فكرة موسيقى الروك البديلة، ثم تطور ليشمل كل ما هو مغاير عن موسيقى الـبوب أو الموسيقى الشعبية. عندما تم استيراد المصطلح إلى العالم العربي وترجمته، فقد شمل بمفهومه العام، البديل فكرياً، مع المحافظة على فكرة التنويع والإضافة والخروج الموسيقي والشعري عن الأنماط الموسيقية العربية السائدة حينها.
في الوقت نفسه، كانت عمّان الأردن تضج وتعبق بفرق الموسيقى البديلة ومؤدّي الراب الفلسطينيين والأردنيين. كان أولئك يخلقون مساحة كاملة ووجهاً جديداً لمفهوم المقاومة. يقول سليم (34 عاماً) وهو شاب فلسطيني عاش في الأردن بين عامي 2005 و2012 إن حي اللويبدة في عمّان “كان مركز نشاط عالي على المستوى الفني والثقافي، فقد وجدت الفرق الناشئة والموسيقيين المستقلين مجتمعاً جاهزاً لتلقي كل ما هو جديد ولخلق وسائل جديدة للتعبير عما نريد ونرغب ونحلم”. يشير سيلم أيضاً إلى أن أبناء الحي “كانوا شغوفين كثيراً بالموسيقى والتعلم مما دفع بعمان كلها إلى الكثير من النشاطات الفنية والحفلات والمسارح التي رعت نشوء هذه الموسيقى”.
كان الفرعي آنذاك يساهم في إنشاء فرقة المربع، الفرقة التي بإنتاج قليل من الروك العربي رافقت أرواحنا فترة ثم خفت إنتاجها متيحة المجال لنشوء فرقة جديدة وهي 47soul والتي حققت نجاحاً كبيراً لما تحمله من روح الموسيقى الشعبية مع المواضيع الثورية الشبابية، وحققت انتشاراً كبيراً للفرعي، أحد مؤسسيها، على المستوى الفردي.
“حنّا” الحكايا الجداد
نحاول في بلادنا الجديدة ألا ننسلخ عن عالمنا القديم، ونحاول أيضاً أن ندخل في عالمنا الجديد دون أن تذوب ملامحنا. في ظل هذه الرحلة البرزخية، تأتي الموسيقى البديلة كنتاج أمين ووثيق الصلة بهذا الانتقال الوجداني والثقافي بين العوالم، فهي محمّلة بكل الأسئلة التي يواجهها الإنسان الذي يخوض معارك طاحنة على الصعيد السياسي والنفسي والثقافي.
سُررتُ كثيراً حين قررنا، في منصة حنّا، المشاركة في تنظيم حفلة الفرعي في تورنتو بتاريخ 12 نوفمبر عبر التحالف مع منظمات ومؤسسات محلية في كندا مهتمة بالثقافة، ليكون ذلك خطوة أولى في التعاون لامتلاك القدرة على الحشد والتأثير في المشهد الكندي.
حضور الفرعي إلى تورنتو هو تذكير شخصي لي بأيام الأمل، إلا أنه أيضاً مناسبة لنا للاجتماع تحت سقف واحد، نحن أبناء البلاد الممزقة بالاحتلالات والديكتاتوريات، التائهين على مفارق هذه المدن الباردة. قد تكون هذه مناسبة لنا لكي ندرك أننا لسنا وحيدين ونحن نردد: “في بُعدك مالناش جيران”.