جريمتان في كندا تستحضران التاريخ القاتم

سلام السعدي

كاتب وصحفي مقيم في كندا. يدرس حالياً الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة تورونتو. 

لم نكن بحاجة جريمة قتل جماعي، جديدة مدفوعة بالعنصرية والعداء للإسلام في مدينة لندن الكندية لندرك حقيقة تنامي وخطورة ظاهرة الإسلاموفوبيا في كندا. لقد سبق الحادث الأخير هجوم على مسجد في مدينة كيبيك في العام 2017 قُتل فيه ستة أشخاص وجُرح 17 آخرون. كما قُتل حارس أحد المساجد في مدينة تورونتو في العام 2020. وخلال السنوات السبع الماضية، أحصى المجلس الوطني للمسلمين الكنديين أكثر من 300 حادث كراهية استهدفت مسلمين.

لكن الحقيقة أن ظاهرة “الإسلاموفوبيا” تتجاوز جرائم القتل، وقد باتت جزءاً من حياة المسلمين الكنديين وتجربتهم اليومية. فقط لدى إعطاء هذا الموضوع المساحة التي يستحقها في وسائل الإعلام المختلفة، يمكن إدراك حجم وطبيعة المتضررين، وتسليط الضوء على مستويات مختلفة للهجمات والإهانات التي يتعرضون لها عند كل احتكاك مع المجال العام، سواء في المواصلات العامة، أو أماكن التسوق، بل حتى في حدائق الأطفال. ويتم استهداف النساء المحجبات بصورة خاصة، إذ تتقاطع الإسلاموفوبيا مع كراهية النساء واستسهال إهانتهنّ.

لا يتعلق الأمر بأفراد متطرفين معزولين فقط، وإنما بشريحة واسعة ضمن المجتمع تحتفظ بأفكار استشراقية عامة أو عنصرية مباشرة تستهدف المسلمين وتنسج عنهم صورة سلبية. ظهر ذلك أثناء وباء كوفيد حيث انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وساهمت وسائل إعلام مرموقة في ذلك، صورة تظهر الجالية المسلمة والمساجد في كندا كمصدر للعدوى وانتشار الفيروس، وبأن رواد المساجد يتجاهلون بروتوكولات التباعد الاجتماعي. ليس الأمر بجديد، إذ ولدت قضية ارتداء النقاب نقاشات حادةً في انتخابات 2015 في كندا. ففي حين وصفت امرأة تصر على تغطية وجهها الموضوع بأنه شخصي و “صغير وتافه”، لم يبدُ الأمر كذلك بالنسبة لملايين من الكنديين، إذ احتفظ أكثر من ثلاثين بالمئة من المصوتين برأيٍ حاد يرفض ارتداء النقاب ويدفع قضية لباس النساء المسلمات من الحيز الخاص لتكون شأناً عاماً يستوجب تدخل الدولة. 

عند حدوث هذا النوع من الهجمات القاتلة ضد المسلمين، فضلاً عن الهجمات الصغيرة ومتناهية الصغير المتواصلة يومياً، يتم التركيز على الجانب الفردي من الحادث وتجنب امتداداته في المجتمع والتاريخ الحافل بالعنصرية. لا يحدث هذا مع كل جرائم الكراهية بالطبع، إذ يتم ربط هجمات قاتلة ينفذها إسلاميون بأيديولوجيا معينة وأجسام تنظيمية متطرفة. والحقيقة أن جرائم الكراهية ضد المسلمين في كندا، والتي تزايدت في السنوات الماضية، تستحق التفكير بها باعتبارها تتجاوز المستوى الفردي وتتصل بالتاريخ والأيديولوجيا وبعض التنظيمات المتطرفة.

خلال فترات طويلة من بناء الدولة الكندية، عززت الأخيرة من نظرات مجتمعية سادت لفترات طويلة بين الكنديين ضد غير البيض والكاثوليك والمتحدثين بالفرنسية واليهود باعتبارهم سكاناً أقل شأناً إن لم يكونوا خطراً على هوية الدولة. أسست منظمة كوكلاس كلاين، التي نشأت في الولايات المتحدة، فرعاً لها في مدينة تورونتو في العام 1925 وانتشرت وحشدت شعبية كبيرة بسرعة رغم كونها تقوم على الكراهية. خرج في المسيرات التي نظمتها الآلاف، وأحياناً عشرات الآلاف، في مدن أونتاريو (ومن بينها مدينة لندن التي شهدت الاعتداء الأخير). وما لبثت تلك الشعبية أن ترافقت مع ممارسة العنف واستهداف الملونين واليهود ومتحدثي الفرنسية والكنديين من أصول آسيوية بالاعتداء والضرب حتى الموت وتفجير مراكز ومؤسسات كاثوليكية. بدا أن الهدف، كما كان في أمريكا ايضاً بعد انتشار أفكار تحرير السود واتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، هو الحفاظ على هيمنة العرق الأبيض وإيصال رسائل لتلك الشرائح تذكرهم بمكانتهم كفئة أدنى في سلم الترتيب المجتمعي.

ومع تبني كندا للتعددية الثقافية، صارت تلك المجموعات تعتبر الأقليات مصدر خطر خاص وتطالب بعودتهم إلى حيث أتوا. لم تختفِ تلك المجموعة اليوم، بل استفادت من وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيا الكراهية واتّباع أشكال تنظيمية غير مركزية وعابرة للحدود. يفسر ذلك ارتفاع جرائم الكراهية من جهة، واختبار شرائح واسعة من المسلمين، وبشكل خاص النساء المحجبات، الإسلاموفوبيا كتهديد ومصدر قلق يومي مستمر.

لقد جاءت هذه الجريمة، وقبلها حادثة العثور على مقبرة جماعية تضم رفات 215 طفلاً من السكان الأصليين، لتسلط الضوء أكثر على ضرورة التعاطي النقدي مع تاريخ كندا ومع حاضرها. وهو أمر أكدت عليه منصة حنا منذ انطلاقتها. تتراوح رواية الدولة الكندية بين تجاهل التاريخ الاستعماري والدور التأسيسي الذي لعبته العنصرية في تاريخ البلد وفي حاضرها، أو التقليل من شأن ذلك والتعامل معه بصورة وصفية مبسطة وغير نقدية. ولا تقوم وسائل الإعلام بعمل كافِ في هذا الصدد بل يجري تداول آلي لصورة رومانسية قامت الدولة بصناعتها. ويخضع المهاجرون لتلقين خاص بما يتعلق بالتاريخ الكندي ذلك أن عليهم حفظ دليل مبسط يروي تاريخاً أحادي البعد، محافظ، ومنمق بصورة كبيرة. وقد نجحت الجهود الرسمية تلك في الهيمنة على أذهان شرائح واسعة من المهاجرين الذين ينخرطون في ترويج طوعي لهوية خيَرة وثابتة عن بلادهم الجديدة دون إدراك أن الخير والشر وما بينهما هي أمور كامنة، تحتاج إلى فاعلين، وأن بوسع المهاجرين ان يفكروا بأنفسهم على هذا الأساس، كفاعلين سياسيين.

من المفهوم أن تتضافر الأصوات اليوم لتطالب الحكومة الكندية باتخاذ إجراءات أكثر صرامة للتصدي للإسلاموفوبيا، ولكن ذلك غير كاف، ويتجاهل أن الإسلاموفوبيا هي امتداد لتاريخ طويل من الهيمنة الإثنية والعنصرية ضد شرائح مختلفة من السكان في كندا. ومن الضروري إعادة قراءة ذلك التاريخ واكتشاف التقاطعات مع تلك الشرائح ومع قضايا الاضطهاد والعنصرية لمحاربة الإسلاموفوبيا.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى