تقديم لمجلة مفازة الرقمية

بورتريه متعدد الطبقات لفكرة النجاة

هذا المقال هو جزء من مجلة مفازة الرقمية التي تبحث في موضوع النجاة. تقرأون أيضاً فيها: جمهورية الأجساد الكليمة لنبيل محمد، القيامة في الجسد لكنانة عيسى، حوكمة الأمل لحسين الشهابي، العالم ليس قرية صغيرة لرجا سليم، أن تهوي من اللامكان لنور موسى، نجاة الهوية في الشتات لعلا برقاوي، تأثيث الذاكرة لعلي زراقط، حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام لشاونت رافي، والجروح الحية: عن الانتهاكات والمظلومية لساشا زاك.

_________

مصعب النميري

شاعر وصحفي سوري-كندي. نشر ديواني شعر وكتب وعمل محرراً في أكثر من موقع عربي. مؤسس منصة حنا ومديرها التنفيذي.

____________________

كان القرن الماضي مليئاً بالتحديات الوجودية والتحولات الكبرى التي شهدتها دول الشرق الأوسط. الإرث الاستعماري وسيطرة الأنظمة الديكتاتورية على السلطة لعقود حرما شعوب المنطقة من مسار الازدهار والتطور الطبيعي. عاشت هذه الشعوب صدمات متعددة لأجيال بسبب تعرضها للخطر الوجودي الدائم المتمثل في القمع والوحشية والحرمان. جاء الربيع العربي كمحاولة للانتفاض على الأنظمة القامعة، ولكن مواجهة الإرث المعقد والعميق للعقود السابقة أدت بمعظم ثورات الربيع العربي إلى الفشل وعودة الأنظمة الفاشية إلى الحكم. 

آمال وأحلام الشعوب بالعدالة والحرية تم إجهاضها بقسوة، وأدى ذلك إلى موجات لجوء وهجرة واسعة. لم تكن رحلة النجاة من كل هذا نزهة مسلية. لقد ترك اللاجئون والمهاجرون وراءهم مدناً مدمّرة وأحباء بعضهم قتلوا أو اختفوا قسراً، تعرضوا إلى صدمات شديدة العنف في بلادهم وفي طريق الخروج إليها. من وصل إلى “بر الأمان” كان عليه بدء حياته من الصفر والتأقلم مع أنظمة ومجتمعات لا يألفها، إضافة إلى مراجعة الماضي المتوحش والتعافي منه لامتلاك القدرة على عيش حياة “طبيعية” مثل بقية البشر.

ثمة حاجة اليوم إلى التفكير بهذا الإرث من التجارب القاسية بتروّي وتعمّق حتى نفهم مدى الضرر الحاصل في أجسادنا ومجتمعاتنا، ذلك أن تحرّكنا نحو المستقبل بالاتجاه الصحيح مرهون بقدرتنا على فهم ملامح التحدي الذي نخوضه اليوم كلاجئين ومهاجرين في دول الغرب. يتمحور هذا التحدي بشكل أساسي حول كسر دائرة العنف التي ورثناها، وتفكيكها وفهم آليات عملها، والحرص على عدم توريثها للأجيال اللاحقة. فضلاً عن ذلك، نحتاج إلى الإحاطة بكيفية عمل الأنظمة التي نعيش فيها اليوم، وفهم إرثها وتاريخها وآليات العنف والتهميش فيها. من هنا، تبرز ضرورة التفكير والتأمل في فكرة النجاة وملامحها وطبقاتها المتعددة. ثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن النجاة كفلسفة ونمط حياة وأنظمة معقدة داخل الجسد وخارجه، وهذا ما تحاول مجلة مفازة الرقمية تسليط الضوء عليه والغوص فيه.

تندرج هذه السلسة من المقالات ضمن مشروع مجلة مفازة الرقمية، الذي يمثل المرحلة الثانية من مشروع مفازة الأوسع الذي تنتجه منصة حنّا. كانت المرحلة الأولى من مشروع مفازة عبارة عن ورشة مكثفة لخلق نصوص شعرية وموسيقية تتمحور حول ثيمة النجاة. تمثل هذه المقالات المرحلة الثانية من المشروع وتهدف إلى توسيع مساحة التفكير بثيمة النجاة عبر الإضاءة على تجارب ومفاهيم ورؤى مختلفة لمفهوم النجاة وطبقاته المتعددة. وستكون المرحلة الثالثة من مشروع مفازة عرضاً مسرحياً في تورنتو خلال نوفمبر 2024. 

تعني كلمة مفازة باللغة العربية الأرض القاحلة والمقفرة، التي يفوز من عبرها سالماً وحياً. يستلزم عبور المفازة تركيزاً وصبراً وأملاً وتشبثاً بالحياة لاجتياز هذا التحدي الوجودي الصعب. وعبر توظيف رمزية المفازة، يحاول هذا المشروع تسليط الضوء على التحديات النفسية والعاطفية التي يخوضها اللاجئون و”الناجون” من الفظائع، والذين يحاولون التعافي والاستمرار بالعمل على تحقيق العدالة، في حين يواجهون أنظمة وقوانين معقدة غير مصممة للتعامل مع صدماتهم واحتياجاتهم الثقافية، فضلاً عن كونها مستمرة في توليد الفظائع بشكل مباشر أو غير مباشر.  

الابتعاد الفيزيائي عن الحدث الفظيع لا يعني النجاة منه. فرغم ابتعادنا كلاجئين/ات ومهاجرين/ات آلاف الأميال عن بلادنا الممزقة، تُظهر لنا الكوارث المستمرة كيف يمكن لأجهزتنا العصبية أن تضطرب وتتشنج على إيقاع ما يجري هناك؛ كيف يمكن لأصداء الزلزال أو الانفجار أو المجزرة أن تتردد في أجسادنا وأصواتنا ومناماتنا في الليل، وأن تقلب حياتنا رأساً على عقب. 

لقد جادت الفظائع على الناجين منها بأعصاب دائمة الانقباض، وذواكر متخمة بالمشاهد المؤلمة والفاقعة التي تتردد كومضات واخزة، ومُخيلات مشغولة على الدوام في محاولة استشراف احتمالات المصائب ونذور الهلاك والأذى. جادت الأحداث الرهيبة أيضاً على ضحاياها بمشاعر الذنب من ترك العوالم القديمة وهي تحترق، وبمشاعر الارتباك والحيرة والوحشة والاغتراب من العيش في عوالم جديدة تعمل بإيقاعات مخلتفة. 

جميع المساهمات/ين في هذا الملف مشغولون/ات بقضايا العدالة وإيجاد المساحة المناسبة للتعافي لهم ولمجتمعاتهم، ويمثّل ذلك جوهر ما يعملون عليه ويعيشون لأجله. معظم الكاتبات والكتاب اختبر تجارب قاسية، كالاعتقال أو اللجوء أو النجاة من الإبادة. لم تكن ضريبة إنتاج هذه المعرفة، وما تقتضيه من جهد نفسي وفكري، سهلة على الإطلاق، لأنها اقتضت زيارة أماكن هشة وحساسة، ومخيفة أحياناً. فضلاً عن ذلك، كان إنجاز عمل كهذا صعباً على جميع المساهمين/ات فيه في ظل الإبادة الجماعية التي نشهدها منذ ما يقارب العام في غزة، والتي أحدثت هزة عميقة في أجسادنا وأعصابنا وضربت قدرتنا على التركيز والعمل والحياة بشكل طبيعي. في كل خطوة من هذا المشروع كنا ننتبه إلى أثر الإبادة علينا وعلى طاقتنا وتركيزنا، بيد أن هذا المشروع كان مساحة لاختبار كيف يمكن لنا القيام بعمل جماعي قائم على التعاون والتعاطف والتفهم في ظل الأوقات العصيبة، وكيف يمكن لنا التشبث بالأمل ولكن احترام حدود طاقتنا وقبولها. 

لقد اختبرت الشعوب في بلدان الشرق الأوسط الكثير من الأهوال خلال الأعوام المنصرمة. في خلفية هذه التحولات السياسية الاجتماعية العنيفة، دفع المدنيون فاتورة باهظة. هذا ما يضيء عليه مقال جمهورية الأجساد الكليمة لنبيل محمد، والذي يقدم معلومات صادمة عن أعداد السوريين الذين يعانون من إعاقات دائمة بسبب الحرب. يحكي المقال قصة منظمة سورية تعمل على تقديم الأطراف الصناعية لمن يحتاجها، مسلطاً الضوء على التحديات التي يواجهها مصابو الحرب في رحلتهم للنجاة بأنفسهم وأحلامهم، ومنوهاً إلى قدرة البشر على توليد الأمل في أشد الأوقات حلكةً وصعوبة.

التعافي الفردي والجمعي يتطلب الكثير من العمل والتضافر والحب، وهذا ما تحاول إيضاحه لنا كنانة عيسى في مقالها القيامة في الجسد. يتناول المقال المصاعب التي تترتب على محاولات النجاة الفردية، ويفصل دور التعاطف والتعاون لتكليل جهود المناصرة والتعافي بالنجاح. 

القدرة على التخيل والأمل تمثل حجر الأساس لبناء واقع جديد، بحسب ما يذهب إليه حسين الشهابي في مقاله حوكمة الأمل. يشرح لنا حسين في مقاله كيف تلعب نظرية التنافر المعرفي دوراً أساسياً في فهم البشر وتباين ردود فعلهم على أحداث كالإبادة في غزة، موضحاً لنا كيف تتحكم الأنظمة بقدرتنا على الأمل بمستويات عدة.  وعبر سرد قصة شاب لاجئ، يشرح لنا كيف يمكن التحرر من سطوة النظام على عقولنا وقلوبنا، وإعادة امتلاك قدرتنا على الأمل والتخيل. 

تتقاطع المأساتان السورية والفلسطينية في الكثير من الأمور. ذلك أن البلدين اختبرا الإبادة والتهجير القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب على يد الديكتاتورية المتوحشة والميلشيات في سوريا، والاحتلال الاستيطاني العنصري في فلسطين. ولذلك، يعاني الفلسطينيون-السوريون بشكل خاص لأنهم/ن عاشوا المأساتين بشكل مباشر. تخبرنا علا برقاوي في مقالها نجاة الهوية في الشتات عن امتيازات وتحديات الهويّة الفلسطينية-السورية المركّبة في الشتات، مشيرة إلى أثر الإبادة في غزة على وعيها بهذه الهوية. من جانبها، تتناول نور موسى هذه الهوية المركّبة، موضحة في مقالها أن تهوي من اللامكان كيف تحرم دول مثل كندا الفلسطينيين من حقهم في الانتماء إلى فلسطين في وثائق الإقامة والجنسية، وما هو الأثر العميق لهذا الحرمان على قدرتهم على النجاة والازدهار. 

لا تقل المأساة اللبنانية فداحة عن السورية والفلسطينية، هذا ما يشرحه لنا علي زراقط في مقاله تأثيث الذاكرة. يخبرنا زراقط بالتحديات التي يواجهها اللبنانيون خلال العقود الأخيرة للنجاة بأنفسهم وذكرياتهم، مؤكداً على أن النجاة لا تكتمل قبل توقف المقتلة. يقترح الكاتب في هذا المقال أن العمل الواعي على الذاكرة هو جزء مهم من جهود النجاة، وذلك عبر تأثيثها بذكريات جديدة تجسر الهوة بين العالمين الجديد والقديم. 

تلعب المسافة دوراً هاماً بيننا وبين ما نرصده ونحتك به. وفي طبقات أعقد، تتغير المسافة بين الإنسان وأفكاره ومشاعره وماضيه وحاضره. تناقش رجا سليم هذه الفكرة في مقالها العالم ليس قرية صغيرة، وذلك عبر مراجعة أدبيات تتناول موضوع المسافة بشعرية وحساسية وحكاية تجربتها في اللجوء والانتقال بين عدة بلدان ومدن حول العالم والتقنيات التي لجأت إليها في مقاربة وفهم واقعها المتغير.

من جهته يراجع الكاتب اليهودي ساشا زاك الإبادة في غزة، موضحاً أن اسرائيل انحرفت عن الجرح الأصلي لليهود عبر تجاهله وإسقاطه على الآخر. يقترح زاك في مقاله الجروح الحية: عن الانتهاكات والمظلومية أن النجاة لا يمكن أن تتم إلا عبر زيارة الجرح الأصلي والعمل على تعافيه، مضيفاً أن التقليد اليهودي يقتضي التعاطف مع الآخر وضمان كرامته، لا إسقاط شبح الجرح عليه ونفيه. 

أما شاونت رافي، فيوضح لنا رحلته في النضال لتحقيق العدالة ضمن مجتمع الشتات الأرمني في تورنتو. يحكي لنا رافي في مقاله حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام كيف تغيرت وجهة نظره للحفاظ على ثقافته ومناصرة القضية الأرمنية في كندا، مشيراً إلى ضرورة الانفتاح والمشاركة، بدل الانغلاق والتمترس وراء الدروع، لنجاة الثقافة والإرث.   

نأمل أن تكون المعرفة التي ينتجها هذا المشروع مرجعية وفارقة، ذلك أن كاتباتها وكتابها ينحدرون من خلفيات إثنية وثقافية وجندرية متباينة، وينظر كل منهم/نّ إلى ثيمة النجاة من زاوية فريدة. كان القيام بهذا المشروع ممكناً عبر دعم مجلس تورنتو للفنون، ومجلس كندا للفنون.

زر الذهاب إلى الأعلى