تفاريد طرابلسية في مونتريال
ربيع شامي
إعلامي وأستاذ جامعي، حائز على شهادة دكتوراه في علوم الفن.
شهدت مدينة مونتريال الشهر الفائت المهرجان السنوي شرقيات (19-22 أغسطس). في هذا المهرجان، اجتمعت عدة ثقافات وحضارات ممتدة عبر ثلاث قارات، من المغرب العربي إلى الصين، ومن دول المتوسط (إسبانيا وتركيا وسوريا ولبنان) إلى العديد من دول الشرق. تضمّن المهرجان برنامجاً حافلاً بالعروض الغنائية والموسيقية والرقص والأفلام، حيث تنزه سكان المدينة في الميناء القديم، وحضروا عدداً من العروض الغنائية.
ضمن هذه العروض، كان ثمة أمسية من الطرب الشرقي للفنان اللبناني عبد الكريم الشعار تحت عنوان مزاج، ضمت وصلات من الطرب وكلاسيكيات الأغنية العربية ومقاماتها ومدارسها الأدائية، وحضرها جمهور كبير من العرب والكنديين. شارك الشعار، صاحب الحضور الاستثنائي على المسرح بإمكانياته الصوتية ومرونة تلاعبه بالمقامات والأدوار الموسيقية العربية الكلاسيكية، برفقة العازفين فادي عقيقي ووسام هاشم وعبود شمعون وجوزيف خوري ومشيد خلف ونعيم شنوار.
خارج السرب
يغني عبد الكريم الشعار خارج سرب المغنين المعاصرين، وذلك عبر دمج المقامات وأساليب الأداء العربية المختلفة عبر العصور. منذ طفولته، اكتشف الشعار مقدراته الصوتية في قرية والدته حين كان يسرح في الحقول، أو حين يجرب صدى صوته في الكنيسة الملاصقة لمنزل أهلها. وفي مدينة والده في طرابلس، المدينة المتوسطية التي تُعتبر العاصمة الثانية في لبنان والتي لعبت عبر العصور أدواراً مميزة (لا سيما في عهد المماليك حيث لقبت بمدينة المآذن وانتشرت فيها المدارس الصوفية) استمع عبد الكريم الطفل إلى مقاطع الذكر عبر المآذن، وإلى الموالد والأدعية الصوفية والابتهالات. كل هذه الأصوات والمشاهد شكّلت ذاكرته ومخيلته وكانت حجر الأساس لثقافته الموسيقية.
يقول عبد الكريم الشعار في حديث لمنصة حِنّا إن طرابلس “كانت متأثرة بقريبتها حلب ومدرستها الأدائية، كما تأثرت بالمدرسة المصرية وشيوخ الطرب والإنشاد الديني، كالنقشبندي ومصطفى اسماعيل والمنشاوي وزكريا أحمد وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، فضلاً عن الرحابنة ووديع الصافي وصباح فخري. هذه الأسماء والثقاقات لها الفضل على حضارتنا الموسيقية العربية، وأنا أنهل منها في مسيرتي الفنية”.
غنّى عبد الكريم الشعار منذ السبعينات الألحان الطربية القديمة والشرقية في أغانيه وحفلاته. أدّى الأغنية الشعبية والدور والقصيدة والموشح والطقطوقة والأدوار والابتهالات الدينية. وما زال يبحث عنها وفيها ويقدمها بأسلوب حرفي عال، يمزج فيها خياله الموسيقي عبر التفاريد والارتجال، ويُحمّلها توقيعه الخاص.
بسبب خبرته الطويلة، يمتلك الشعار قدرة عالية على جذب الجمهور واستدارجه إلى السلطنة: “أغني لنفسي أولاً وأضع في كل حفل وبرنامج غنائي توقعات نقاط الالتقاء بيني وبين الجمهور الذي يصبح المايسترو. أستدرجه الى اللقاء والارتقاء في حلقة تشبه الحلقات الصوفية في الإنشاد والوجد والسمو بالجمال”.
في ختام حديثه إلى منصة حِنّا، قال الشعار إنه يتبع إحساسه، الذي يسير به وبالجمهور إلى أماكن غير مكتشفة. مضيفاً أنه يخاف على التراث من النسيان والاندثار: “انتقلت لنا الآيات والمدائح عبر الأصوات الجميلة. هذه الأصوات جعلت الأديان مرآة للأخلاق والجمال، لا للحروب والنزاعات والعصبيات”، على حد وصفه.
يُذكر أن عبد الكريم الشعار هو أحد أهم المطربين اللبنانيين اليوم. كان قد بزغ نجمه عام 1973 عبر برنامج استوديو الفن، الذي نال فيه الميدالية الذهبية للطرب الأصيل. تأثرت مسيرته بالحرب الأهلية اللبنانية، ولكنه لم ينتهج نهج معاصريه عبر اللجوء إلى الفن التجاري للبقاء في الساحة الفنية والتزم بالخط الطربي الكلاسيكي.