ترويض الوحش المصري

عن صورة مصر في المخيال الاستعماري القلق

مصعب النميري

شاعر وصحفي سوري مقيم في كندا، نشر ديواناً وله عدة مقالات في مجلات وصحف عربية. يتابع دراسته حالياً في قسم حضارات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة تورنتو. 

هذا المقال هو جزء من ملف “التكنولوجيا ورأس المال واليوتوبيا” الذي يتم إصداره بالتعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة تورنتو. تقرؤون في هذا الملف أيضا المقالات التالية: الهوية ورأس المال في لبنان أواخر العهد العثماني لتيموثي بوضومط، وبرتقال يافا المسكون لهيلي بريس، وتمرد النظرة في أفلام كيارستمي لنورا ميزو ويلينغهام، ومراقبة المسلمين في الصين واليابان لزناتول إسحاق.

اقرؤوا المقال بالانكليزية هنا.

—————————————————————————————————-

“على أطراف المتوسط تجد البشرية قاعدتها. وحين يغامر الناس بالابتعاد عن هذا البحر الاستثنائي، عبر أعمدة هرقل أو مضيق البوسفور، يبتعدون عن طبيعتهم ويخرجون عن المألوف… وعبر ذلك الطريق الجنوبي، عبر السويس، يصلون إلى أكثر الأراضي غرابة على الإطلاق”. 

جول سيغفريد، سياسي فرنسي

ربما يألف كثيرون تلك القصص الأسطورية التي تتناول التاريخ المصري. وفي عالم اليوم مثلاً، قد يمر أحدنا على فيديوهات عشوائية على يوتيوب تتحدث عن الكائنات الفضائية التي بنت الأهرامات، وعن كوننا خُدعنا طويلاً وأخفيت عنا حقائق التاريخ ضمن مخطط “المؤامرة الكبرى”. لقد كانت مصر منذ زمن طويل مكاناً للغموض الاستثنائي، تخطط فيه الوحوش الضارية للانتقام. بيد أن هذا التخيل لمصر كمكان “غريب” ليس دون سياق.  

أحاول في هذا المقال الإضاءة على اقتران صورة مصر كمكان غامض ومتوحش بالتطور الذي تسارع في أعقاب إنشاء قناة السويس. أجادل بأن النزعة لإلقاء هالة الغرابة على مصر في نهاية القرن التاسع عشر بيُنت على فكرتين أساسيتين: الأولى هي الإحساس بـ”التفوق” من جانب القوى الأوروبية التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة آنذاك، وهو إحساس تُرجم ليصبح خطاباً سياسياً عاماً اعتُبرت فيه مصر مكاناً متخلفاً يجب أن “يتحضّر”. يمكن اتباع أثر هذا الإحساس في الأعمال الاستشراقية المعروفة التي ازدهرت في تلك الفترة. الإحساس الثاني هو القلق الإمبراطوري في أعقاب إنشاء قناة السويس التي أصبحت بمثابة شريان الحياة لللبريطانيين. لقد فتحت “المسألة المصرية” المعقدة آنذاك الباب لمشاعر القلق والترقب لدى الإمبراطورية البريطانية المتداعية، وتم إسقاط هذه المشاعرالمضطربة على المستعمرات التي تخطط فيها “الوحوش” للانتقام.  

أهمية قناة السويس 

رغم أن كثيرين يعتبرون أن الاهتمام الدولي بمصر بدأ مع حملة نابليون بونابارت عام 1798، إلا أن هذا الاهتمام تصاعد كثيراً مع تأسيس قناة السويس. قبل تأسيس القناة كانت الحضارة المصرية مصدراً للانسحار والغرابة في أعقاب حملة نابليون. تم افتتاح قناة السويس عام 1869 على يد الدبلوماسي الفرنسي فرديناند دي ليسبس، وقد غيرت القناة حينها “الخريطة الجيوسياسية والمشهد الاقتصادي العالمي” (بونين 2010). قبل أن تصل القناة البحر الأحمر بالمتوسط كانت الرحلة من الهند إلى لندن تستغرق نحو عامين.  

أصبحت قناة السويس، ومصر، جزءاً حيوياً ومصيرياً من العالم، لأنها قلصت الوقت اللازم لهذه الرحلة من عامين إلى نحو شهر فقط. مثّل إنشاء القناة تتويجاً للمشاريع المتطورة تكنولوجياً في مصر خلال  القرن التاسع عشر، والتي تضمنت إنشاء خطوط التلغراف والسكك الحديدية. ساهمت هذه المشاريع في تعزيز قيمة مصر كمكان حيوي، وساهمت أيضاً بشكل أساسي في صكّ مصطلح “الشرق الأوسط” الذي “وُلد في مطالع القرن العشرين، ولم يكن ممكناً التفكير فيه لولا سلسلة من المشاريع الفارقة خلال القرن التاسع عشر، ومن ضمنها خطوط التلغراف والسكك الحديدة وقناة السويس. هذه المشاريع أسست خطاً واصلاً بين الشرق والغرب عبر مصر تم اعتماده بديلاً عن الرحلة الطويلة إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح” (باراك 2013، 21). 

الوقوف على ظهر التمساح 

جاء التعامل مع مصر كمكان متوحش كنتيجة للتفوق التكنولوجي الأوروبي الذي تُرجم ليصبح مشروعاً سياسياً جوهرانياً،  ذلك أن تأسيس القناة كان مشروعاً عملاقاً وصعباً لأنه اقتضى تغيير الطبيعة الجيولوجية للمكان. كان تحدي إنشاء القناة يتم ضمن سياق الاستشراق الأوروبي الذي يفترض أن “الآخر”، أي مصر، هو وحش يجب إعادة ترويضه والسيطرة عليه. هذا النمط من الاستشراق “عبّر عن عقلية مركزية أوروبية تهدف إما لاعتبار التاريخ المصري جزءاً من التاريخ الأوروبي، أو لإسناد مهمة تنوير مصر المتخلفة إلى النخبة الأوروبية عبر نقل أدوات التطور الأوروبي إليها، وهو تطور تم إيقافه بسبب الإمبراطورية العثمانية وسواها” (بونين 2010، 44).  

هذا الإيمان بالتفوق الأوروبي بُني على افتراض أن امتلاك التكنولوجيا هو الحد الفاصل بين الإنسان والوحش، وهو افتراض يُصبح فيه “الآخر المتخلّف” وحشاً يجب ترويضه من قبل من يمتلك التكنولوجيا. يشير كل من يعقوب بكتاش وروجر شيرمان إلى ذلك خلال مراجعتهما لمتحف اسطنبول للتاريخ والعلوم والتكنولوجيا في الإسلام عبر القول إن “العلم والتكنولوجيا مثّلا الحد الفاصل للتمييز بين المتحضر والبدائي، بين المثقف والبربري، والمتطور والمتخلف. وبذلك لم يكن ادعاء امتلاك التراث العلمي والتقني مقتصراً على غايات علمية، لقد كان ذلك بياناً سياسياً” (بكتاش وشيرمان 2013، 631). 

بدا هذا الإحساس بالتفوق واضحاً في رسمي كاريكاتير يصوّران مصر كمكان متوحش: الأول كان غلاف مجلة لا لون الفرنسية (1867)، الذي صور دي لسبس وهو يقف على ظهر تمساح ضارٍ مُعلنا انتصاره (الصورة 1). الرسم الثاني كان لمجلة ذا بنش عام 1882 تزامناً مع الانتداب غير الرسمي لبريطانيا على مصر. يظهر في الصورة جون بول، وهو رمز وطني بريطاني، يحاول، بمساعدة الامبراطور الفرنسي،  ترويض مصر، التي تم تصويرها أيضاً كتمساح (الصورة 2). 

Caricature of Ferdinand de Lesseps Cover of La Lune 29 September 1867 Hand-colored Engraving. 

André Gill  (1840–1885) 
27 September 1867
Size: 12"w x 18"h 
Source: Universitätsbibliothek Heidelberg
الصورة 1. كاريكاتير لفيرديناند دي لسبس. غلاف مجلة لا لون، 29 أيلول 1867. تلوين يدوي. 
أندريه غيل، 27 أيلول 1867. المصدر Universitätsbibliothek Heidelberg

النزعة إلى رؤية مصر كمكان غريب وغامض أخذت شكلاً آخر مع الانخراط المباشر للبريطانيين في المنطقة ونتيجة للتحديات التي واجهوها (الصورة 2). لم يدم الترقّب البريطاني الحذر لمراسم افتتاح قناة السويس، الذي بان فيه التقارب المصري الفرنسي واحتمال تقويضه للهيمنة البريطانية في المنطقة. افتتاح القناة كان إعلاناً لاحتدام التنافس الدولي على المنطقة. إضافة إلى هذا التنافس وإلى الوصول البريطاني المحدود إلى القناة، حدثت ثورة عرابي ضد “هيمنة الغرباء على المصر، سواء كانوا من الأتراك أو الأوروبيين” (ميتشل 1991). 

جون تينين. مجلة بنش (10 حزيران 1882). المصدر: The Victorian Web الصورة 2، “تشبث! تمساح على ضفاف النيل”.

العقل الامبراطوري القلق 

كل هذه التطورات دفعت بريطانيا إلى الانتداب على مصر بشكل غير رسمي عام 1882 لتأمين خطوط التجارة، ذلك أن ثلاثة أرباع ما كان يمر عبر قناة السويس كان بضائع بريطانية. أضحت مصر بذلك “شريان الحياة” أو “العمود الفقري للامبراطورية (بلفن، 2011). ولكن التحديات المحلية من القوى المصرية المختلفة والتهديدات من جانب القوى الأوروبية الأخرى وضعت البريطانيين في حالة من القلق لدى التعامل مع “المسألة المصرية”. هذا القلق الامبراطوري وجد صداه في الآداب والفنون البصرية. ورغم أن هذا النوع من الآداب كان موجوداً من قبل وتضمن قصصاً غرائبية عن المومياءات، إلا أنه تصاعد في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، بين عامي 1860 – 1914 على وجه التحديد، وهي الفترة التي شُيدت فيها قناة السويس وتلاها الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882. تضمن أدب هذه المرحلة عناصر جديدة، تضمنت فكرة اللعنة والغزو المضاد (بلفن، 2011). كانت الرواية البصرية فاروس المصري لغاي بوثبي واحدة من أكثر هذه الأعمال شهرة. تستجيب هذه الرواية إلى “المسألة المصرية” حينها، إذ يقوم بطلُها، وهو كاهن من حضارة مصر القديمة يدعى فاروس، بغزو بريطانيا للانتقام لاحتلال مصر وسرقة آثارها (الصورة 3).

الصورة 3. فاروس المصري، الصفحة 56. المصدر: Internet Archive

فاروس، الذي يمثل الروح المصرية، يسعى إلى إبادة الانكليز عبر نشر الطاعون بينهم، مُهدداً الإمبراطورية من قلب عاصمتها وهو يجول من مكان إلى آخر بعينين مريبتين (الصورة 4). حكاية الانتقام هذه توضح إحساس القلق المتأتي من المسألة المصرية في المخيال الاستعماري.  

الصورة 4. فاروس المصري، الصفحة 36. المصدر: Internet Archive

هذه الأعمال الأدبية المهووسة بفكرة الغزو المضاد للامبراطورية تقع ضمن سياق أوسع مرتبط بالتطورات الجيوسياسية التي كانت تعيشها بريطانيا خلال المرحلة الفيكتورية. ففي أواخر القرن التاسع عشر ساد إحساس بأن قوة الإمبراطورية تتداعى وأن ثمة خطراً هائلاً سيأتي من المستعمرات. لقد عكس الأدب الشعبي في تلك المرحلة روح القلق والريبة والخوف على خلفية تراجع القوة الإمبراطورية، إذ شاع حينها وجود قصص تتحدث عن غزو مُتخيل يقوم به أكلة لحوم البشر ومصاصو الدماء والحشرات والكائنات الغريبة. تقع هذه القصص ضمن ما يسميه ستيفن آراتا “روايات الاستعمار العكسي”، التي تتضمن قوى بدائية تزحف من أطراف الإمبراطورية إلى مركزها لنشر الفوضى والعنف (آراتا 1990). وتناغماً مع إحساس القلق العام في نهاية العصر الفيكتوري “استجاب الأدب البوليسي في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر لحال الإمبراطورية حينها عبر عكس مشاعر القلق وعدم اليقين والعواقب القريبة لذلك” (كلارك 2013). 

مراجعة التاريخ الاستعماري أواخر القرن التاسع عشر تتيح لنا معاينة النواحي المتراكبة للنظرة الاستشراقية حينها. العلاقة المعقدة بين المشروع الاستعماري، المرتكز على فرض الهمينة على الأماكن والأشخاص، وبين المشاريع الاقتصادية العملاقة، هي علاقة جديرة بالفضّ والدراسة. تتيح لنا النظرة المعمقة في هذا التاريخ إدراك دور التطور الاقتصادي في رسم ملامح الخطابات السياسية والاتجاهات الأدبية لدى القوى المهيمنة. لقد كان تأسيس قناة السويس ودورها الحيوي في الاقتصاد العالمي مثالاً لهذا التراكب الذي خلق وعزز صورة مصر، مثل كثير من المستعمرات الأخرى، كمكان غامض ومتوحش. يمكن لأحدنا المجادلة بأن صورة “الآخر” في عالم ما بعد الحداثة ما زالت تلعب دوراً حاسماً في رسم المواقف والاصطفافات السياسية. الجثث الطافية في المتوسط اليوم هي نتيجة لهذا الخوف والهوس من غزو “الأجانب المتوحشين”.  

المصادر 

ايليز بولفين. “الأدب القوطي حول مصر والبارانويا الإمبراطورية البريطانية: لعنة قناة السويس”.  إنغلش لترتشر إن ترانزشن، 1880-1920 54، العدد 4 (2011): 411-443. muse.jhu.edu/article/445326.

كلير كلارك. “عفاريت إمبريالية: مخاوف الاستعمار العكسي في أعمال غاي بوثبي”.  فيكتوريان ليترتشر إند كلتشر 41، العدد 3 (2013): 527-45. https://doi.org/10.1017/s1060150313000089. 

غاي بوثبي. فاروس المصري: رسوم جون هـ باكون. لندن. وارد، لوك، 1899. 

هوبيرت بونين. تاريخ شركة قناة السويس، 1858-2008 (جنيف، 2012): 33-58. 

لا لون، (29 سبتمبر 1867). 

أون باراك. عن الوقت والتكنولوجيا والزمان في مصر الحديثة (كاليفورنيا UP، 2013)

 بنش، 82 (24 حزيران 1882)، 297. 

 ستيفن أراتا. “السائح الغربي: دراكولا وقلق الاستعمار العكسي”. الدراسات الفيكتورية 33 (1990): 621-45. غوغل سكولر. 

تيموثي ميتشل. استعمار مصر (بيركلي: منشورات جامعة كاليفورنيا، 1991)، 137. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى