برتقال يافا المسكون
ماذا يمكن أن تعلّمنا الفواكه عن المقاومة؟
هيلي بريس
أنهت هيلي مؤخراً دراسة الماجستير من معهد تاريخ وفلسفة العلوم والتكنولوجيا في جامعة تورنتو. يتركز عملهم على دراسة الاستثمارات في عالم ما بعد الاستعمار، واستراتيجيات التخفيف من تغير المناخ، والسياسة الحيوية. على نطاق أوسع، يسعون إلى فهم علاقة التكنولوجيا المعقدة بالكوكب ودورها في التخفيف من أزمة المناخ. قبل ذلك، عملت في مجال التكنولوجيا الزراعية والتعليم.
هذا المقال هو جزء من ملف “التكنولوجيا ورأس المال واليوتوبيا” الذي يتم إصداره بالتعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة تورنتو. تقرؤون في هذا الملف أيضا المقالات التالية: ترويض الوحش المصري لمصعب النميري، و الهوية ورأس المال في لبنان أواخر العهد العثماني لتيموثي بوضومط، وتمرد النظرة في أفلام كيارستمي لنورا ميزو ويلينغهام، ومراقبة المسلمين في الصين واليابان لزناتول إسحاق.
الترجمة عن الانكليزية: منصة حنا
—————————————————————————————————
أتذكر في طفولتي كيف كانت أمي تملأ جعبتي بحبات كبيرة من البرتقال. كان هذا التقليد، الذي حملته إلى كندا من عائلتها المنتمية للطبقة العاملة في بريطانيا ما بعد الحرب، احتفالاً بالكرم والنية الطيبة. وكان في جزء منه مشهداً احتفالياً بترف تذوق فاكهة طازجة خلال فصل الشتاء. برتقال الأعياد الذي وزعته أمي في طفولتي كان، أغلب الظن، قد جاء إلى بريطانيا عبر السفن البخارية من شرق المتوسط. البرتقال المميز بقشرته السميكة ونواه القليل ومائه الوافر وكبر حجمه (الشموطي) فرض سطوته على سوق الحمضيات البريطاني لأكثر من قرن بدءاً من عام 1850 على وجه التقريب. رغم الوضع السياسي المعقد آنذاك، كان البرتقال الشموطي يصل إلى شواطئ ليفربول وتظهر أخبار وصوله وتخزينه في الصحف المحلية. كان الاسم التجاري الذي تتداوله العامة للبرتقال آنذاك هو: برتقال يافا – إنتاج فلسطين.
في صورة برتقال يافا كان ثمة نوع من المشهدية. يرى المُنظّر النقدي غي ديبور المشهدية كأداة رأسمالية لتشتيت العامة والتحكم بها في العالم المعاصر. يقول ديبور إن المشهدية تأتي بصورة إعلان أو مسلسل تلفزيوني أو فيلم كطريقة يفرض فيها النظام الاقتصادي المهيمن سطوته. مثّل هذا البرتقال بالنسبة لأمي رمزاً للرفاهية، إذ كانت تعتبره غنيمة عيد الميلاد. بيد أن برتقال يافا يمكن له كرمز أن يفرض انتصار المشاريع السياسية والاقتصادية للحداثة على امتداد الامبراطورية. لقد وجدت المشاريع الاستعمارية والإمبريالية البريطانية قوتها في التوسع الزراعي من إستراليا إلى الهند وجنوب إفريقيا وأميركا والشرق الأوسط. استُخدمت الزراعة بشكلها الصناعي في المستعمرات لإظهار البراعة التكنولوجية للدول الأوروبية وقدرتها على تحسين الأراضي “غير الحضارية” و”المهدورة”.
هناك تاريخ استيطاني-استعماري لبرتقال يافا. في كتاباتها عن المشهدية في كندا، التي كانت جزءاً من التوسع البريطاني، تقول نتالي بالوي إن المستوطنين غالباً ما استخدموا الإرث المادي للسكان الأصليين بنوع من المشهدية. ففي أماكن مثل فانكوفر، تلاحظ بالوي إن أعمدة الطوطم والجبال استُخدمت بمشهدية لتعزيز قوة المشروع الاستيطاني الكندي. ولكن، بسبب النهب التاريخي، يمكن لهذه الرموز أن تصبح أشباحاً. تقول بالوي إن دور الشبح يماثل دور المشهدية من ناحية أن كليهما، علاوة على تعزيز التفاعل البصري، فإنهما يلعبان ويُفعّلان أحاسيس أخرى. الرموز الأثرية التي تستخدمها المشاريع الاستيطانية الاستعمارية بنوع من المشهدية تظل دائماً مسكونة بالأشباح. وعبر تنشيط الحواس الأخرى غير البصر (كالسمع والشم والإحساس) تصبح الرمزية الشبحية حاضرة وتحوم حول الحاضر. يتمثل في برتقال يافا حضورٌ لكل من المشهدية والشبحيّة، وذلك بسبب تاريخ النهب الاستعماري الاستيطاني، ولأن طعمه ورائحته متجذران في أرض فلسطين.
كانت المشهدية الخاصة ببرتقال يافا قد ترسخت في فلسطين قبل الانتداب البريطاني بمئات السنين، وقد نفى الكثير من المؤرخين/ات والنشطاء أسطورة أن فلسطين دخلت في النظام الرأسمالي مع بداية المشروع الاستعماري الصهيوني الانكليزي. فقبل الانتداب البريطاني، وقبل حتى عام 1882 (تاريخ بدء الهجرة الصهيونية الموسعة إلى فلسطين)، كان برتقال يافا جزءاً من الصادرات التي تتدفق من نابلس ويافا إلى فرنسا ومصر وانكلترا وآسيا الصغرى واليونان وإيطاليا ومالطا وشمال سوريا. كانت زراعة الحمضيات في فلسطين خلال القرن التاسع عشر مقتصرة على سيطرة رواد أعمال أثرياء من العرب.
خلال موجات الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين، كانت أعمال صيانة البساتين وتصدير البرتقال مشروعاً متكاملاً بين اليهود والعرب ينطلق من ميناء يافا. مثّلت نسبة الحمضيات في فلسطين الخاضعة للانتداب 43 بالمئة من إجمالي الصادرات عام 1927، و84 بالمئة عام 1935. ورغم تنامي البساتين المملوكة لليهود في تسعينات القرن التاسع عشر، كان العرب يملكون الحصة الأكبر من الأراضي والمحاصيل لغاية عام 1929. كانت لرزاعة الحمضيات على الدوام أهمية وقيمة تجارية كبرى في الشرق الأوسط. ولكن مع تصاعد الهجرة اليهودية عام 1929 وتدفق رأس المال الخاص إلى فلسطين، إضافة إلى تنامي الرغبة بالتعامل الاقتصادي مع المجموعات الصهيونية في ظل حكومة الانتداب، بدأت البساتين المملوكة من جانب اليهود بالتفوق على نظيرتها المملوكة للعرب. كان برتقال يافا أكثر المحاصل المدرّة للأرباح في فلسطين. ورغبة في ترسيخ أسطورة أن اليهود الأوروبيين “جعلوا الصحراء جنة” وتسببوا في النهوض الاقتصادي للمنطقة، كان عليهم السيطرة على برتقال يافا.
مع التفوق اليهودي على العرب في إنتاج الحمضيات وبعد تأسيس دولة اسرائيل بدأت علاقة الفلسطينيين بإنتاج الحمضيات تتوارى خلف حملات الإعلان المروّجة للصناعة اليهودية-الاسرائيلية. بدأ برتقال يافا يصبح علامة تجارية ترمز إلى الإنجازات الاقتصادية الصهيونية في أرض “قاحلة” خاصة في الدول التي يتم التصدير إليها، مثل بريطانيا. في عام 1938 بدأت نقابة برتقال يافا (وهي اتحاد لمزارعي البرتقال وموزعيه اليهود) بحملة إعلانية في بريطانيا تظهر روعة برتقال يافا (الصورة 1).
تظهر في الصورة امرأة بشعر عسلي وعينين زرقاوين، لا تختلفان كثيراً عن عيني أمي، وهي تحمل صينية ثقيلة للغاية من البرتقال. تظهر الصورة تحت جملة “ابق مبتسماً” التي كانت شعاراً لبرتقال يافا. لدى المقارنة بين هذا المنشور ومنشور آخر للحملة الإعلانية (الصورة 2) يظهر كيف تمت الإشارة إلى أن منشأ برتقال يافا الذي كان غنيمة اقتصادية في الأعياد البريطانية هو مدينة تل أبيب في فلسطين. في لندن، المدينة الحديثة والمزدهرة، يقول غي ديبور إن برتقال يافا كان مشهداً “للانعكاس البصري للنظام الاقتصادي الحاكم”، وبذلك، كان برتقال يافا مثالاً للفوائد التي تجُنى من التقنيات الزراعية الحديثة والبعثات الانكليزية في الخارج. ألا يبدو مشهدياً تناول الحمضيات في ليلة عيد الميلاد، وبسعر رخيص؟
تأسست دولة اسرائيل عام 1948، وفي الوقت ذاته تم التهجير الدائم لمعظم الفلسطينيين. يسمى ذلك التاريخ بعام النكبة، إذ جُرد الفلسطينيون فيها من أراضيهم وكل بساتينهم تقريباً. وبعد ذلك بدأت الوكالات الاسرائيلية بالعمل خلال السنين الأولى لتأسيس الدولة على ربط زراعة برتقال يافا وقيمته الاقتصادية بالدعاية الصهيونة الهادفة للاستحواذ على الأرض. وقد نشر الحزب الصهيوني العام منشوراً عام 1950 (الصورة 3) يوضح الإنجازات الصناعية للشعب اليهودي. كل المشاريع، من مشهد المدينة والطاقة وخطوط الشحن وبساتين الحمضيات الفاقعة، استُخدمت في المنشور تحت شعار “أُنجزَ بمبادرتك”.
تطمس تلك الدعاية الجهد الهائل والمستمر الذي بذلته المجتمعات العربية في النجاح الاقتصادي لفلسطين. إضافة إلى ذلك، نشر الصندوق الوطني اليهودي عام 1950 منشوراً ووزعه على المتجمعات المُتحدثة بالعبرية والانكليزية، تظهر فيه الحقول البراقة والمنظمة. كانت الرسومات كرتونية واستخدمت اللونين البرتقالي والأخضر (ألوان برتقال يافا) لرسم المشهد. يظهر أيضاً في الرسوم أطفال مرتبين يساهمون في القطاف، وقد تم تلوين شعرهم بلون محاصيل الأرض المزروعة بعناية. بذلك يقترح المنشور رابطاً بين الأطفال اليهود، والثروة الزراعية، والبرتقال، فيما يقول عن أرض فلسطين، مُعلناً بخط عريض: “إنها أرضنا”.
في منشور آخر نشرته وزارة العمل والإسكان الاسرائيلية وتم تصميمة من قبل الإخوة شامير (الصورة 5) يظهر زوجان اسرائيليان (أطول من شجر البرتقال وهما يمشيان) متجهان إلى الحقل للقطاف. تحت الزوجين يظهر شعار يقول: “الحمضيات روعة بلادنا وثروتها”. بالنسبة إلى المستوطنين اليهود في فلسطين، يمثّل برتقال يافا التطور الاقتصادي للشعب اليهودي، الذي “جعل من الصحراء جنة”. يمثّل البرتقال رمزاً لأسطورة الأرض القديمة التي تحولت إلى معجزة اقتصادية على يد المستوطنين اليهود من خلال، وإن بشكل جزئي، برتقال يافا.
بعد النكبة أصبح اللون البرتقالي عنصراً قوياً لحركات المقاومة الفلسطينية. الفنان سليمان منصور يستخدم البرتقالي كركيزة أساسية في العديد من أعماله الكبرى. يُعتبر منصور فناناً للمقاومة والانتفاضة عبر تمثيل فكرة الصمود بصرياً. في كثيراً من لوحاته ثمة امرأة فلسطينية شابة تحمل البرتقال بين البساتين.
في لوحته التي تحمل اسم سلمى عام 1981 (الصورة 6) يسمّي منصور المرأة في لوحته على اسم جدته. ترتدي المرأة فستاناً ملوّناً بالتطريزة الفلسطينية التي تصل أمجاد الماضي بعزيمة الحاضر. أصبحت سلمى تمثيلاً بصيراً لفلسطين. استمر هذا النمط في أعماله الأخرى، ومن ضمنها لوحة البحر الضائع 1979 (الصورة 8)، ولوحة يافا 2015 (الصورة 7)، وفي كل من هذه اللوحات تظهر حبّات البرتقال. في لوحتي البحر الضائع ويافا تتمثل مشاعر مختلفة على إثر النكبة، ولكن في سياق الصمود. تحاكي لوحة يافا خاصة مشاعر الفخر بزراعة البرتقال على الأرض الفلسطينية.
تحمل المرأة العربية (التي ترمز لفلسطين) حصادًا ثقيلًا من البساتين الناضجة والممتلئة التي يزرعها مجتمع كبير ومتّحد. لوحة البحر الضائع تثير مشاعر الخسارة والألم، في حين يقدم الغصن حبة برتقال فاكهة واحدة يكاد يخفيها اتساع البحر الأبيض المتوسط. كلتا المرأتين تجسدان فلسطين. تنظر إحداهن إلى المساحة الواسعة – يواجهن الخسارة – ويمسكن الثمار لتذكر الماضي. البرتقال متجذر بعمق في أرض فلسطين المفقودة. يقول جدعون عوفرات، مؤرخ الفن الإسرائيلي، إن برتقال يافا هو تاريخياً اتفاق مع أرض فلسطين نفسها. يمكن أن ترمز زراعة برتقال يافا (الشموطي ، “التفاحة الذهبية”) إلى الانتماء إلى أرض فلسطين. في قصته القصيرة عام 1962، يصف غسان كنفاني فلسطين بأنها أرض البرتقال الحزين بهذا: “يقول الفلاح الذي كان يزرعها حتى رحيله إن حبات البرتقال ستذبل إذا سقتها أيادي الغرباء”. منذ النكبة، انتقلت ملكية البساتين الفلسطينية، ومن بينها البرتقال، إلى غير الأيادي الفلسطينية. بعد النكبة سيظهر اللون البرتقالي كرمز قوي للمقاومة الفلسطينية.
ظل برتقال يافا، حتى ثمانينيات القرن الماضي، رمزاً مركزياً لاسرائيل. لكن في أواخر القرن العشرين بدأت اسرائيل بالابتعاد عن استخدام هذا الرمز. لقد ساهم استخدام برتقال يافا كرمز للمقاومة الفلسطينية في تشويه مشهدية الاستعماري. لم يُنظر إلى برتقال يافا على أنه رمز لقوة إسرائيل الزراعية، وإنما كرمز لعدوان المستوطنين. جرفت اسرائيل عدداً كبيراً من البساتين، واليوم تقع في صدارة دول العالم بقطاعاتها التكنولوجية وصناعاتها التحويلية، لا بمحاصيل البرتقال.
على عكس ما ظهر في الإعلانات أو الأفلام، فإن برتقال يافا (الشموطي) متجذّر في فلسطين. ومن هنا تأتي قيمته الشبحية بالنسبة لاسرائيل، لأنه أضحى بمثابة كعب أخيل بعد استخدامه بمشهدية. هذه الثمرة وازنة ومخضلّة وحلوة، تستحضر الأحلام والذكريات. بإمكانك أن تشمّها وتتذوقها وتأكلها. هي أكثر من رمز بصري. لقد استُخدم برتقال يافا للإشارة إلى قوة اسرائيل والترفّه بثمار المستعمرات البريطانية. ولكن البرتقال الفلسطيني أصبح نذير شؤم للاستعمار بعد استخدامه من جانب المقاومة الفلسطينية كرمز. فالبرتقال يعزز حضور القلق حيال الماضي. لم تعد أمي تبحث عن برتقال يافا لأعياد الميلاد. وجدت بدلاً من ذلك علبة شوكولا بطعم البرتقال، شوكولا تيريز، مصنوعة في بريطانيا. البرتقال بحد ذاته صار أكله صعباً. لأنه لم يعد يثير مشاعر الدف والنية الطيبة كما كان الحال في طفولتي. لقد بهتت الصورة المشهدية البراقة للبرتقال، أو أن الأشباح الساكنة فيه أصبحت حقيقة للغاية.