اليوم الوطني لكندا كحدث مؤسف
غاريث شانتلر
صحفي كندي مهتم بقضايا اللجوء والتعددية الثقافية، حاصل على جائزة أفضل تحقيق صحفي عام 2018، وله كتاب منشور بعنوان ماهي كندا؟
مع تصاعد الدعوات لإلغائه، تمتلك مقاطعة اليوم الوطني الكندي قيمة رمزية، وهي تدفعنا إلى توجيه سؤال إلى المستوطن الأبيض هنا: حين قررت الامتناع عن حضور عيد ميلاد عمّتك العنصرية، هل لاحظت فرقاً فيما خص أوضاع السكان الأصليين بفعلك هذا؟
“هذه الأرض ملطخة بالدماء”، كان هذا الشيء الوحيد الذي خطر لي أن أقوله حين كنت أناقش بودكاست حياة كندا السرية، الذي يناقش المذبحة التي ارتكبتها كندا بحق السكان الأصليين، مع صديق من القادمين الجدد إلى كندا. قال صديقي رداً على ذلك إن “المذابح تُرتكب في كل مكان”.
لن يكون مجلس تحسين النسل في ألبرتا، الذي كان يعمل على تعقيم السكان الأصليين، أو المصادرة غير القانونية للأطفال المولودين حديثاً من أمهاتهم حتى اليوم في بعض المقاطعات الكندية، ضمن قصص الرعب الوحيدة التي سيقرأ عنها القادم الجديد إلى كندا، مهما كانت الفظاعات التي رآها في بلده.
لأجل هذا السبب يُعد تبييض صورة كندا للوافدين الجدد أمراً مقيتاً للغاية. فهو ليس مجرد خداع، ولكنه أيضاً ينطوي على استصغار واستغفال للقادمين الجديد، استغلالاً لقلة المعرفة لديهم بهدف لترسيخ الخرافات الوطنية.
تتضمن التوصية رقم 93 للجنة الحقيقة والمصالحة أن تتم “مراجعة المعلومات التي يتم إعطاؤها للقادمين الجدد إلى كندا، وإعادة النظر في اختبار المواطنة الخاص بها لتعكس تاريخاً أكثر شمولاً للشعوب الأصلية المتنوعة في كندا، وليتضمن ذلك سرداً للمعاهدات و تاريخ المدارس الداخلية”.
الرفض المتكرر.. ثم التقليل من شأن المسألة
قال دانييل هيث جستس، البروفيسور في دراسات السكان الأصليين في جامعة كولومبيا البريطانية، في حوار مع سي بي سي إنه “ليس سراً أن المدارس الداخلية كانت تضم مقابر. لا أظن أننا قادرون على إعادة البحث في التاريخ دون التألم. فالألم حاضر بشدة في قصة دفن هؤلاء الأطفال”.
لا يختلف الصحفي مات غورني، الذي يكتب في صحيفة ناشيونال بوست المُحافظة، مع فكرة أن التاريخ الكندي تم تبييضه إلى درجة معينة، لكنه يرى أن المشكلة الأكبر هو أن “الكنديين لا يعرفون شيئاً عن تاريخهم”. يجب أن يُدرَس التاريخ الكندي أولاً، وإلا “سيستمر الشخص بالتفاجؤ من أمور يجب أن لا تكون مدعاة للمفاجأة”.
لا أفترض أن طرح غورني ليس نزيهاً. لكنني أود الإشارة إلى قلة تفاعلنا كمستوطنين أو تأثرنا الكبير بأحداث كهذه، فنحن لا نأخذها كثيراً على محمل الجد. إذا راجعنا مثلاً آراءنا خلال جلسة في الفناء الخلفي، فلنطرح هذا السؤال الحارق: ما هي الكتب نقتنيها على رفوف مكتباتنا في الشتاء تحضيراً لمحادثات الصيف في الفناء الخلفي، أو للتباهي بأننا مطّلعون على الأحاديث الجارية في الأوساط العامة؟
في العموم، انتقلت كندا الناطقة بالانكليزية من مرحلة الإنكار إلى مرحلة الـ”ماذا بشأن”. إذ أننا نسمع مقولات جديدة عن التاريخ الذي كنا ننكره من فترة قريبةمن قبيل: “بالطبع. بالطبع هناك أمور فظيعة حدثت”. مع كتفين مرفوعين إلى الأعلى دلالة على قلة الحيلة والمسؤولية إزاء ما حدث.
هذا الكوكب هو مصنع لتوليد المذابح، فلماذا ستكون كندا استثناءً من ذلك؟ الكثير من المستوطنين يرون أن التاريخ له وجهين، مثل شريحة الخبز: “هناك دائماً جانبان للقصة”، يتم تكرار مثل هذه الجمل في حفلات الشواء التي يحضرها البيض.
يجب التنويه هنا إلى أن الخلاف الصادق بين الطرفين لا يجب أن مبارزة أو قتالاً. فالخلاف النزيه في وجهات النظر يجب أن يكون تعاونياً ومثمراً وغير حاسم، يتم فيه تبادل الآراء واستكشافها دون هدف مسبق، ويسعى فيه المتخالفون لتحديد ما يختلفون حوله بالضبط. قليلاً ما تُثمر هذه النقاشات حلاً جذرياً، إلا أن المحادثة تكون ممتعة. يتم في حديث كهذا إظهار النوايا الحسنة، ويبذل الطرفان جهداً لذلك، ولا يكون ذلك فرصة لتسجيل النقاط في شباك الخصم.
الأشخاص الذين يتمسكون بمقولة أن “للقصة دائماً وجهين”، يظنون أن التاريخ هو لعبة في باحة المدرسة، لعبة شد الحبل التي يتصافح بعدها الفريقان، فهم يريدون العودة إلى منازلهم برفقة أحكامهم السابقة.
يتضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة 94 دعوة للتحرك والعمل، تتضمن 71 إلى 76 من هذه الدعوات بذل جهود للكشف عن “الأطفال المفقودين ومعلومات الدفن”. كان بإمكان أي مستوطن أن يتوقع ذلك. لذلك قد يكون غورني محقاً في قوله بأن الكنديين لم يقرؤوا التقرير بحجة أنه لم يمر على إصداره سوى خمس سنوات فقط! وقد قالت إميلي نيكولاس، الصحفية في كندا لاند، في محاولة لإيضاح مشاعر بعض الكيبكوازيين: “نحن لا نعرف كل الحقائق، ربما لأننا لم نقرأ تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة”.
وكما هو الحال مع التمييز العنصري المستمر وإرث العبودية في الولايات المتحدة، كلما سمعت نداءاً غاضباً “للمضي قدماً”، لأن هذه الأمور “مضى على حدوثها وقت طويل”، بإمكانك أن تعرف من هذه النغمة أن هناك افتراض بأن ما يتم نقاشه قد حدث في الماضي ولا علاقة له بالحاضر.
إذا تجولت اليوم في كمبوديا ستلاحظ الارتفاع المثير للفضول في فقدان الساقين. هذه هي الحداثة التي يتم طرحها اليوم، حداثة تتضح فيها الأدلة بشكل دامغ على أبدان الناجين. يحدث هذا بالتحديد لأن الحدث قريب للغاية.
القانون الهندي ما زال سارياً حتى اليوم، وتحقيقات لجنة الحقيقة والمصالحة لم تتركز على التاريخ المجرد، وإنما على الماضي القريب. الوزيران المسؤولان عن قضايا السكان الأصليين، كارولين بينيت ومارك ميلر، لا يستطيعان التعليق على هذه الأحداث بأريحية. هما يُصرّحان حول هذه الشؤون كما تطلب منهما الحكومة، لأن هذه القضايا ما زالت حاضرة في المحاكم حتى اللحظة.
الوزير الساذج
يمكن ملاحظة الفجوة بين الطبقة السياسية الكندية البيضاء وقضايا السكان الأصليين عبر متابعة الحديث الذي دار أثناء استضافة أحد أعضاء مجلس العموم، نيت ايرسكين-سميث، لوزير خدمات السكان الأصليين مارك ميلير. خلال البودكاست، ركز ميلير على وجود تناقضات وخلافات تشوب علاقة الحكومة الفيدرالية وحكومات المقاطعات في كندا بما يخص عملية المصالحة وتفاصيل العلاقة مع السكان الأصليين. لا يلاحظ هذان السياسيان الأبيضان أن السكان الأصليين يرون الحكومة الفدرالية والحكومة المحلية وجهان لعملة واحدة. وأنهم يتعاملون مع الطرفين باعتبارهما حجر عثرة في طريق تحررهم وإن اختلفوا على تفاصيل وشروط ودرجة الحرية الممنوحة لهم.
ورغم أن إيرسكين-سميث يمتلك بعقلية منفتحة وتميل نحو نقد الحزب الليبرالي في مجلس العموم، إلا أنه لم يعارض ميلير. كان النقاش يدور حول محاربة الحكومة في المحاكم الكندية لقضايا تتعلق بانتهاك حقوق السكان الأصليين، إذ تعمل الحكومة على المماطلة وتأخير البت بتلك القضايا عوضاً عن القبول بتسوية. تستفيد الحكومة من عدم التسوية وتركها لتموت مع الزمن ويشيخ أصحابها.
ما يهم الحزب الليبرالي ليس تسوية حقيقية لقضايا السكان الأصليين، وإنما إدارة الملف حتى اجتياز الانتخابات العامة القادمة التي يأمل أن يحقق فيها نصراً يحسن من وضعيته في مجلس العموم. ويستخدم الحزب الليبرالي ميلير لهذا الغرض، إذ يأمل بالحصول على بعض المصداقية لأن الأخير يتحدث إحدى لغات السكان الأصليين، لغة الموهاك.
إعادة تشكيل التاريخ
يتساءل أحد تلك الأصوات خلال مشاركة على محطة “سي تي في” عن صدمة المجتمع والنخب الكندية جراء الكشف عن المقابر الجماعية لأطفال السكان الأصليين. تقول لوان نيل، إحدى الناجين من المدارس الداخلية، إن الإعلام والنخب ربما نجحوا بصناعة صورة عن كندا باعتبارها “مكاناً لا يمكن أن تحدث فيه مثل هذه الفظاعات”. مضيفة: “لقد أشار كثير من السكان الأصليين إلى وجود تلك المقابر ولم يصدقهم أحد”. في السابق، لم يحظ هذا النمط من المقابلات التلفزيونية والنقاش بمساحة على المحطات الكندية التقليدية المهيمنة، بيد أنه يحضر اليوم في معظم وسائل الإعلام.
أحد التطورات التي برزت حديثاً تتمثل في إشراك السكان الأصليين في نقاش قضاياهم على وسائل الإعلام. ورغم أن هذه الأصوات كانت دوماً حاضرة، إلا أن دعوتها للمشاركة في البرامج التلفزيونية والإذاعية لم تتم إلا حديثاً.
ولكن إنصافاً لميلر، يجب الإشارة إلى أنه أقر في السادس والعشرين من حزيران بأن “هذه القصص موجودة منذ زمن بعيد، ولكن تم إنكارها بصورة مستمرة ولم يُسمح لها بالظهور إلى لعلن، كما لو أن ثمة رغبة بطمسها وإنكار أن هناك فظاعات ارتُكبت في هذه البلاد”. كما اعترف ميلير بإشكالية أن تقوم الحكومة بالتحقيق بجريمة قامت هي بارتكابها. إذ لا يمكن للص أن يكون شرطياً، ولا يمكن أن يتحقق أي تقدم جراء ذلك.
المؤرخ هوارد زين، كتب تعليقاً على الموضوع: “لا نريد أن نكون موضوعيين إذا كان ذلك يعني التظاهر بأن الأفكار لا تلعب دوراً في الصراعات الاجتماعية في عصرنا. أدعو إلى أن لا يكون التاريخ مجرد سرد بارد لحقائق حول الماضي، بل أن يساهم في رسم ملامح المستقبل”.
قبل أربعين عاماً، كان يطلق على اليوم الوطني لكندا اسم يوم السيادة (Dominion Day) وهو ما يحيل إلى القوة والسلطة والتفوق لجماعة على أخرى. الاسم القديم هو أقرب للحقيقة التي نعيشها في كندا: هناك قوة قاهرة ومقهورين.