النهضة العربية من منظور نسوي

الكاتبة إستر مويال ودورها في النهضة

سارة مولاي  

طالبة دكتوراه في جامعة تورنتو، قسم حضارات الشرق الأدنى والشرق الأوسط. تركز في أعمالها البحثية على الشاعرات النساء الفارسيات والعربيات والعبريات في القرن التاسع عشر. 

هذا المقال جزء من ملف “النهضة العربية بعيون معاصرة”، الذي يصدر ضمن مشروع التعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. خلال هذا المشروع يقدم محررو حنا الاستشارة التحريرية لطلاب البكالوريوس والماجستير بهدف نشر مشاريع تخرجهم على موقع حنا. تقرأون في هذا الملف المقالات التالية: المفكرون المعاصرون في العالم العربي لـينس هانسن التعافي الثقافي بعد الهزيمة لتيموثي بوضومط، محاولات تعريف الذات في عوالم متغيرة لمصعب النميري،  طه حسين وديالكتيك النهضة العربية لكوين كوين تيج-كولفر، وعن أهمية أن تكون على خطأ لشاونا مكلين. 

ترجمة علا برقاوي

نشر الأكاديمي والباحث اللبناني طارق العريس في عام 2018 كتاب النهضة العربية: أنطولوجيا ثنائية اللغة. الكتاب هو مجموعة مختارات من أعمال شخصيات بارزة في عصر النهضة باللغتين العربية والإنكليزية. الشخصيات المختارة هم من المثقفين ورجال الدين والكتاب والنشطاء والسياسيين الذين يناقشون قضايا التعليم والتكنولوجيا والممارسات التقليدية في السياقات الدينية والعلمانية، إضافة إلى نقاش الجندر. بالتأكيد، النهضة العربية ليست مجرد مجموعة من بعض المثقفين العرب الذين برزوا في القرن التاسع عشر، ويحاول العريس وزملاؤه معالجة مفاهيم جديدة للنهضة لدى عرض أعمال أولئك المفكرين/ات. في هذا البحث أود أن أناقش أهمية خلق منظور جديد عن النهضة عبر تسليط الضوء على مشاركة النسوية وغير المسلمين التي كانت موجودة تاريخياً في النهضة.

دعوة طارق العريس: مِحَن الحداثة العربية

عادة ما يرتبط فهم أصول ومراحل تطور حركة النهضة بالظروف السياسية للحكم الاستعماري. ثمة نظرة سائدة بأن الفترة التي تلت الغزو الفرنسي لمصر ومن ثم الاستعمار البريطاني كانت بمثابة لحظة صحوة صارخة حفزت العرب إلى إعادة تشكيل الحياة الثقافية والدينية وإحياء اللغة العربية في سبيل العودة إلى الأصالة، وكوسيلة للتوفيق بين المبادئ الدينية والتنوير والحداثة. ارتبطت حركة النهضة أيضاً بخلق هوية جماعية جديدة أدت إلى تنامي القومية العربية في نهاية المطاف، كردٍّ على القوى الاستعمارية.

في كتاب مِحَن الحداثة العربية: الآثار الأدبية والسياسات الجديدة (2013)، يدعو العريس إلى إعادة قراءة تاريخ ومشروع النهضة، ويعيد صياغة مفهوم الحداثة في الأدب العربي  عبر مناقشة أصل مصطلح ”الحداثة“. يقول إنها لم تكن مجرد حدث واحد، إنما سلسلة من الأحداث خلقت حركة التجديد في القرن التاسع عشر، ويتعين أن يتم النظر إلى التجديد على أنه نمط من التجارب والخبرات والتأثير. 

لم يكن هناك لحظة خلقت الحداثة لدى العالم العربي ليقدموا أدباً معاصراً، إنما كانت سلسلة من ”المِحَن“ التي تم اختبارها منذ القرن التاسع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين. تقدم تجارب الحداثة العربية في تلك الفترة الزمنية عدداً من النصوص لكتاب بارزين ومغمورين على حد سواء، وتسلط الضوء على تجاربهم في لحظات انعدام الأمن والهشاشة والارتباك في مواجهة الأدب المعاصر. يرى العريس تلك اللحظات كـ“مِحَن“ يمكن من خلالها التوصل إلى مفهوم أعمق لـ“الحداثة“، وتلك التجارب لم ”تكتمل أو تدرك بشكل تام، بل نشأت عبر تجارب تخلَّلها القلق والارتباك والافتتان والالتباس“، لكن تأثيرها على طريقة تفكيرنا نحو عالمنا كان كبيراً.

يبتعد مفهوم الحداثة من منظور العريس عن فكرة أن ظهور الأدب المعاصر في العالم العربي جاء بتأثير من الغرب، وذلك عبر محاولته عدم ربط الحداثة بممارسات محددة أو بحدث ما. يتحدى العريس بذلك ما أُشيع عن مفهوم التضاد بين الحداثة والتراث، وبين الشرق والغرب. بالنسبة للعريس، من المستحيل فصل الشرق عن الغرب. الأديب المصري طه حسين أشار في كتاب مستقبل الثقافة في مصر، إلى الارتباط الكبير بين ثقافَتَي وحضارَتَي العرب والأوروبيين. إذ تشبه مدينة الاسكندرية المصرية إلى حد كبير مدناً يونانية، ولطالما جمعت البلدين روابط قوية، خاصة من جانب التبادل الثقافي بينهما. كانت الإسكندرية واليونان تاريخياً، منطقة واحدة، بحسب حسين.

إستر أزهري مويال كنموذج للنشاط النسوي في النهضة

يبدو واضحاً أن العريس يحاول أن ينطلق بمفهومي الحداثة والنهضة في الأدب العربي عبر مناقشة الأفكار الخاطئة، لا سيما ثنائية التَّضاد بين الحداثة والتقليدية وبين الشرق والغرب. في كتاب النهضة العربية: مختارات ثنائية اللغة من النهضة، يدعو العريس وزملاؤه إلى إعادة قراءة النهضة ويقدمون مفاهيم جديدة عن الحداثة. تتحدث ليتال ليفي في أحد فصول الكتاب عن إستر مويال وتقدم ترجمة لاثنين من أعمالها: الأول رسالة لمجلة الهلال، والآخر مقدمة لسيرة الروائي والصحفي والكاتب المسرحي الفرنسي البارز إميل زولا. 

إستر هي كاتبة نسوية ومترجمة، ولدت لعائلة يهودية سفاردية في لبنان عام 1873. تلقت أزهري تعليماً جيداً، ونشرت أعمالها في صحف ومجلات عربية في ذلك الوقت ولعبت دوراً هاماً كناشطة في قضايا المرأة. تزوجت من ”النهضوي“ الدكتور سيمون مويال، وحملت اسم عائلته ثم انتقلا إلى القاهرة حيث أسست مجلة للمرأة باسم ”العائلة“ عام 1899، وشغلت منصب مديرة إحدى مدارس الفتيات المسلمات، وطغت روايات إميل زولا على ترجماتها.

ثمة اثنين من أعمال إستر مويال، أحدهما رسالة وجهتها إلى مجلة الهلال عنوانها ”هل يليق بالنساء المطالبة بحقوق الرجال؟“، كتبتَهْا رداً على الدكتور أمين الخوري. واجهت مويال بقوة طرْح الخوري الرديء بوضعه النساء على قدم المساواة مع الخيول والحمير واصفاً تفكيرهن بالمحدود، ودافعت في رسالتها عن قدرة المرأة الفكرية بلغة جريئة.

لا تحاول مويال في رسالتها أن تبرهن ببساطة بأن النساء كائنات متساوية مع الرجال، إنما توجِّه أنظار القراء إلى السيدات في مجتمعها، اللواتي تم تقديرهن والاعتراف بتفوقهن على الرجال في مجالات فكرية. تؤكد مويال، كجزء من دفاعها، على أن تأخر النساء في الدخول إلى المجال الأكاديمي لم يكن عيبهن، بل إن السبب الذي يكمن وراء ذلك هو ”ازدراء الجنس الأقوى لهن“، مثل ما هو الحال مع أمين الخوري.

لرسالة إستر مويال أهمية بالغة على مستويات عدة. بداية، يدحض العريس الافتراض الشائع بأن النهضة كانت مقتصرة على أدب المثقفين من الرجال. العديد من المثقفات اللواتي لم يتم الاعتراف بهن، أو قراءة أعمالهن لديهن مساهمات كبيرة في مشروع النهضة. يدعو العريس عبر ترجمة رسالة مويال إلى الاعتراف بنساء النهضة وقراءة مساهماتهن الأدبية الهامة.

تنحدر مويال دينياً من خلفية يهودية سفاردية. تجدر الملاحظة هنا أنه وبالتزامن مع حركة النهضة، كان الشتات اليهودي في أوروبا يساهم في مشروع ”هسكلاه“ أو ”حركة التنوير والاندماج اليهودي“. إجادة إستر مويال للغتين الفرنسية والإنكليزية وترجماتها إلى اللغة العربية تجاوزت الافتراضات بأن النهضة اقتصرت على العالم العربي أو أنها جاءت ضمن سياق إسلامي فقط. وجود شخصيات مثل مويال أثبتت أن النهج الذي سلكته في مساهماتها كان سلساً، وقد تم تقديم أعمالها ضمن فصل خاص في مختارات كتاب العريس. تدمج مويال العديد من الأفكار التي نوقشت من خارج العالم العربي، عبر ترجماتها الهامة ووعيها بالحركات الموازية المعاصرة. 

النهضة ليست مشروعاً هرمياً بدأ من الأعلى إلى الأسفل، ولم ينظّر لها الغربيون فقط. في القرن التاسع عشر، كان الناس يعقدون حلقات قراءة ونقاش للصحف والمجلات، وكانوا مدركين لمجتمعاتهم المحيطة ولأفكار المثقفين فيها. ناقش الناس الأدب والسياسة، وكانت لديهم درجة عالية من الوعي بأن لهم دور هام في التفكير والتفاعل وتغيير المجتمع. شارك نشطاء وصحفيون ونسويات ومترجمون وأشخاص مثل إستر مويال -جاؤوا من صلب تلك المجتمعات- في تشكيل النهضة.    

طارق العريس وبيل هوكس

إعادة التصور التي طرحها العريس للحداثة كسلسلة من الأحداث التي خاضها العديد من الناس، وكتحدٍّ للتضاد بين الحديث والتقليدي، يذكرني بمقال الكاتبة بيل هوكس، الذي يحمل عنوان “التنظير كممارسة تحريرية”. في مقالها، تتحدى هوكس التضاد بين النظرية والممارسة، وترى النظرية كشكل من أشكال الممارسة الاجتماعية. تشير هوكس إلى أن النظريات تتشكل عبر تجارب الحياة الواقعية المعاشة للأغلبية من الناس. من ناحية أخرى، ترفض النظرية الوصول الديمقراطي إلى عملية صنعها، وبالتالي تبقى ضمن هيمنة قلة من المجتمع تمتع بالسلطة. بمعنى آخر، من أجل تحرير النظرية من إطارها الحصري، يتوجب الانطلاق بها على أنها نهج ينتمي للجميع. تؤكد هوكس أن ”التجارب الشخصية هي أرض خصبة لإنتاج التنظير النسوي التحرري، لأن التجارب عادة ما تشكل أساس صنع نظرياتنا“. يمكن وفقاً لذلك رؤية النهضة عبر عدسة ديمقراطية، عندما تساهم تجارب الناس جميعهم في تشكيل مفهومَي النهضة والحداثة. بهذا الشكل، تكون النهضة عملية مستمرة، وليست حدثاً محدداً في وقت معين. 

المصادر 

العريس، طارق. 2018. النهضة العربية: مختارات ثنائية اللغة للنهضة. تحرير طارق العريس. نيويورك: الجمعية الأمريكية للغة الحديثة.

العريس، طارق. 2013. تجارب الحداثة العربية: الآثار الأدبية والسياسات الجديدة. الطبعة الأولى. نيويورك: مطبعة جامعة فوردهام. 2-3 [المصدر الأصلي: https://studycrumb.com/alphabetizer]

حسين، طه. مستقبل الثقافة في مصر. واشنطن: المجلس الأمريكي للمجتمعات المتعلمة، 1954.

هوكس، بيل. “النظرية كممارسة تحريرية”. مجلة ييل للقانون والنسوية 4، عدد 1 (1991): 1-12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى