النجاة بالنغم

عن اللجوء إلى اللحن وألحان اللجوء

هذا النص هو جزء من سلسلة مقالات ضمن مشروع مفازة الذي يحاكي موضوعة النجاة عبر الشعر والموسيقى. تم إنجاز مرحلة البحث والإنتاج لهذا المشروع بدعم من مجلس كندا للفنون. تقرأون في هذه السلسلة أيضاً: عن توأمة النجاة والهزيمة لوائل سعد الدين، والالتفات إلى مواضع التصدع لمصعب النميري. 

عبد الوهاب الكيالي

موسيقي وباحث أردني-فلسطيني مقيم في مونتريال، يؤدي ويدرس العود العربي ويؤلف الموسيقى له. أصدر ألبومه الأول “جذور” في ٢٠٢٠،  ويعمل حالياً على عدد من المشاريع الأدائية.

سخّر اللاجئون سائر الفنون للتعبير عن ظروف معاناتهم واقتلاعهم، ومنها الموسيقى. للّحن دور مختلف عن الكلمة والصورة والرسمة في التواصل العاطفي. اللحن أكثر مجازاً من هؤلاء، وقد يكون أكثر بلاغةً. تستنفر الموسيقى مشاعر قد يحاول اللاجئ طمرها وإخفاءها. تستذكر بيئته وأوقات فرحه وترحه، تدعوه لإعادة تركيبها في منفاه. للموسيقى أثر عاطفي يعكس طبيعة المشاعر المركبة التي يملكها أي إنسان، وخصوصاً اللاجئ الناجي (أو الذي يعتقد أنه ناجي، فمن ينجو من المجزرة – ضحيتها أم الشاهد عليها؟). ليست سهلة إذن مهمة عكس تعقيدات اللجوء والنجاة لحنياً، ولا سهل على المستمع تلقي اللحن في المنفى. تعري الموسيقى الانكشافات والحساسيات لدى مؤلفها ومستمعها. تفتح الموسيقى الصناديق العاطفية المغلقة التي يعمل اللاجئ على دفنها بداخله لكي ينجو من الواقع المرير، واقع الخسارة والخذلان – واقع التطبيع مع الجريمة والإبادة والإفلات من العقاب.

قد تلعب الموسيقى دور أساسي في مواجهة الاضطراب والتداعي الذي نعيشه، في تشريحه، في وضعنا على تماس معه، لكي نستطيع التعامل معه واستخلاص دروسه. الموسيقى تجربة اجتماعية بقدر ما هي فردية، تذكرنا أننا لسنا وحيدون، أن آخرون يشعرون ما نشعر به، ويعانون ما نعانيه، وحتى من لم يمروا بنفس التجارب قد يتعاطفون معنا ويضمدون جراحنا. الموسيقى فرصة للتعافي الفردي والجماعي، لإنتاج الجمال من القباحة، لتوثيق الرضوض والجروح الوجدانية. وهي فرصة أيضاً لحفر آلامنا عميقاً في وعينا الفردي والجماعي، لكيلا نغفر يوماً عمن أذانا، وإن غفرنا لا ننسى أبداً.

الموسيقى خارج بلادها

كسائر الفنون الأدائية والجميلة، تتأثر الموسيقى بمحيطها المباشر – بالرفاه والسعادة والبحبوحة، وبالمصيبة والكارثة والدمار. ولكن للاقتلاع واللجوء أثر مضاعف على الموسيقى والموسيقي، فغالباً ما تنتمي الألحان إلى حيز جغرافي ثقافي معين والموسيقي إلى نوع معين من أنواع الموسيقى (الكلاسيك، التراثي، الروك، إلخ). حينما يرحل الموسيقي وترحل موسيقاه قسرياً، تختلف على الموسيقي البيئة والمتلقي والمرجعية الصوتية. يتعين على الموسيقي إذن التكيف مع البيئة الجديدة، مع المتلقي الجديد، ومع الذائقة الدارجة في بلاد اللجوء. يتعين على الموسيقى وموسيقاه إعادة تعريف وإعادة تكوين نفسيهما في المنفى. يسهل في هذا الإطار السقوط في فخ النوستالجيا، في فكرة أن البلاد التي قذفت اللاجئين هي الجنة المسلوبة، أرض الميعاد المسروقة والتي كانت الحياة فيها نسمة عذبة وشم ورود. النوستالجيا عاطفة معطِلة، تمنع اللاجئ من تكوين حياة جديدة، من تقدير البيئات الحديثة التي يعيش فيها والتعامل معها، ومن مواجهة مصاعبها بإيجابية.

العديد من التجارب النغمية في المهجر تبشر بالخير، ولكن بعضها يقع في الابتذال ويقدم التنازلات الفنية ليلقى الرواج والقبول. المعادلة صعبة بالتأكيد: بما يتمسك الموسيقي اللاجئ وبما يفلت للاندماج في البيئة الجديدة والمجتمع الجديد؟ برأيي، على الموسيقي تقديم نفسه وتقديم موسيقاه بأنهما جديران بالاحترام وبالمساواة. الهيمنة والاستعمار ليستا حكر على السياسة والمعرفة، وقد تشمل الموسيقى. الصعوبة هي في بذل المجهود المضاعف لإثبات الجدارة بالاحترام والمساواة. في ذلك الصدد، الموسيقي حرفي يتوجب عليه إتقان حرفته – بالإفراط في السماع والتدريب والجدية في العمل. عالم الموسيقى يستوعب الجميع، الجاد والركيك، لكن إن كان للموسيقي اللاجئ المساهمة في نهضة ثقافية في منفاه، فلا بديل عن المثابرة والعمل. مما لا شك فيه أن الموسيقي اللاجئ يجب أن يعمل ويتعب أكثر من قرينه المقيم والمستقر، وبالطبع هذا الوضع مجحف وغير عادل، ولكن هذه سنّة اللجوء بغض النظر عن المجال والميدان.

بم تتعلق الموسيقى؟ ومن (وما) يتعلق بها؟

الموسيقى انعكاس لحساسية الموسيقي الصوتية، ولقدرته على التلاعب بالإيقاعات والأنغام لسرد قصة. تتعلق الموسيقى بالجغرافيا والبيئة، بالأصوات التي ينشأ عليها الموسيقي ويستفيض بها، ليفيض منها لاحقاً بعد ما يخزن منها قدراً وافياً. تعكس الموسيقى المشهد الصوتي للمكان وتتأثر بما يتأثر به من تحولات اجتماعية وحضارية، وللتغيير الناتج عن هذه التحولات لذائقة أهله. بذلك تتأثر الموسيقى بكل ما يساهم تكنولوجياً بالتلاعب الصوتي – بالتكبير، والمؤثرات الإلكترونية، وإلخ. وبطبيعة الحال تتأثر الموسيقى بالموضة – بالتوجهات المجتمعية الدارجة. ولكن كل هذه المؤثرات والتأثيرات لا تسرد قصة. الفكر الموسيقي هو وحده ما يسرد قصة، وغالباً ما يتأثر ذلك الفكر ليس فقط بالمسموع، ولكن أيضاً بالمرئي والمقروء والمحسوس. لا يمكن إذن للموسيقي الجاد أن يرى هول ما حدث لبلادنا في آخر ١٢ عام من دون أن يتأثر. مثال مبكر على ذلك مقطوعة “صباح حزين، كل صباح” لكنان العظمة، والتي ألفها ب٢٠١٢ بعد قرابة السنة على اندلاع الثورة السورية وسقوط آلاف الشهداء من ضحايا عنف نظام الإبادة والسارين والمسالخ البشرية والكبتاجون.

تتعلق الموسيقى إذن بالفكر، بما يمكن تسخيره صوتياً للتعبير عن الفكر. أما من يتعلق بالموسيقى فهو من يرى فيها وصف لحالته الوجدانية وما يتعلق بها فهو ما يتعلق بالفنون والانسانيات والعلوم الاجتماعية – حال البشر والبشرية. التحدي القائم على الموسيقي اللاجئ إذن هو سرد قصته نغمياً، وببلاغة، وبطريقة تستحوذ انتباه من قد ينفر من الصورة ومن الرقم ومن الخبر. نصف مليون قتيل، أطفال مسممون مذبوحون بلا دم، رجل يطمر وهو حي وهو يقول “بنت عمي، تاج راسي.” الاغتصاب والتعذيب، الخطف والإخفاء، التهجير القسري، الخيم والباصات الخضر، وكالات الإغاثة، المؤتمرات الدولية، الوكالات الأمنية، التنظيمات المتطرفة، الإرهاب والترهيب، حصار المخيم والمدينة. تل الزعتر، صبرا وشاتيلا، اليرموك والغوطة. دير ياسين، كفر قاسم، الطنطورة، حلبجة، الحولة، التريمسة، حفرة التضامن. هذه كلها منفرة، صادمة، موحشة. كيف تسخرها جميعاً لسرد القصة؟ للقول إن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”؟ أننا “نحب الحياة ان استطعنا إليها سبيلاً”؟

ثقيلٌ ما رأيناه. ثقيلٌ ما عشناه. ثقيلٌ ما ورثناه. لنسرد إذاً قصتنا، لنكتب لحن اللجوء. لننجو بالنغم، بما أنه لم ننج بغيره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى