اللقاح الكندي الذي لم يقِني الأمراض

تجربة غير سارة لتأخر ملفات اللجوء إلى كندا

نبيل محمد

 صحفي وكاتب سوري مقيم في اسطنبول، ينشر مقالات في عدد من الصحف ومواقع الإنترنت، ويعدّ برامج الفيديو، صدرت له رواية واحدة عام 2020 باسم “دورة أغرار” عن دار المتوسط في إيطاليا.

 أمارس الصحافة منذ 17 عاماً، ولم أمتلك الجرأة يوماً على الكتابة بضمير المتكلم. لم أجد طريقة أخرى لكتابة السطور أدناه إلا بلغة ذاتية. إنها قصتي ويجب سردها مباشرةً.

مع بداية حملات التلقيح ضد كورونا، الفيروس الذي لا صفة إيجابية له سوى قدرته على خلق عزلة مناسبة للتفكير، ثم التعبير، بدأت مواقفُ فردية وجماعية أحياناً تعارض أخذ اللقاح. جاء ذلك على إثر شائعات عن كونه جزءاً من مؤامرة دولية ضد البشر. المواقف الرافضة للقاح خرجت من رحم عدم الثقة بالأنظمة السياسية والصحيّة في مختلف دول العالم، ومن رحم سلطة متعة الحرية الفردية في اتخاذ القرار بامتلاك الجسد، واختيار ما يدخله من مواد يصنعها الآخر بشكله السياسي والإداري. لقد استغربتُ موقف الرافضين، واستقبلت اللقاح كورونا برحابة صدر، لمَ لا؟ لقد سبق واستقبلتُ ثلاث جرعات من لقاحات مختلفة في يوم واحد دون أخذ رأيي، ودون أن أحصل على أي فائدة منها. وحتى اليوم، لم تطأ قدماي البلد الذي أعطاني هذه اللقاحات قبل 4 أعوام، لحماية صحتي عندما أعيش فيه.. إنه كندا.

في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2017، أجريتُ مقابلة في السفارة الكندية في العاصمة التركية أنقرة، البعيدة مسافة 445 كم عن مكان إقامتي في إسطنبول، وذلك بعد أن حصلتُ على دعم من خمسة مواطنين كنديين لكي أنال حق اللجوء في كندا. كانت أجواء المقابلة إيجابية، يسودها التفهّم والود، وسئلت فيها عن كل تفاصيل حياتي، مع التركيز على صعوبات حصولي على أوراق تحقق لي استقراراً وإن كان مرحلياً في تركيا. بعد المقابلة، تم منحي ورقة تشير إلى أنني في فترة انتظار هنا، ريثما أسافر إلى كندا، ثم تم إجراء الفحص الطبي لي وإعطائي اللقاحات التي من الواجب على سكان تلك البلاد أخذها، للحماية من الأمراض السارية هناك.

شاع حينها بين جميع السوريين الذين صادفت مقابلاتهم في اليوم نفسه (هم جميعاً في كندا اليوم باستثنائي) أن السفر سيكون كما تجري العادة، بعد ثلاثة إلى ستة أشهر، وطال انتظاري ثم تحوّل إلى يأس، استطعت بعد فترة التخلص منه مقنعاً نفسي بالاستقرار في إسطنبول، حيث لا حلَّ آخر. أصبحت قصة السفر إلى كندا نموذجاً عن الانتظار المديد. في أي جلسة تجمع أصدقائي، بحضوري أو غيابي، بات انتظار الطعام المتأخر عن المائدة يشبه انتظار نبيل بطاقة طائرة إلى البلد الموعود. باتت كندا بالنسبة لي اسماً لا يتردد على لساني إلا عندما أخوض معركة تجديد جواز سفري السوري أمام قنصلية بلادي، أو تجديد الإقامة السياحية محدودة المدة في الدوائر الرسمية الخاصة بالأجانب في إسطنبول. في تلك الأوقات فقط أتذكر ذلك الملف الميّت الذي كان سيجنّبني كل هذا الهراء، أردد اسم كندا مرفقاً بألفاظ غاضبة عادة ما أرددها قبل ذكر اسم سوريا، خاصة في لحظات التعب أمام نوافذ المؤسسات الرسمية، ولحظات دفع الأموال للسماسرة (أبطال المرحلة).

لقد تجمّد ملفي في خِزانات دوائر الهجرة الكندية، أو في أدراج السفارة في أنقرة، دون تبرير واضح. أتخيل الرطوبة وقد أكلت أطرافه، وتلاشت الأختام، وسقطت الطوابع، وربما أتت الفئران على صورتي به. لا يُمكنني أن أتخيله إلا بشكل مادي ورقي رث، إذ كيف من الممكن أن يكون الكترونياً بحتاً ويستغرق أكثر من أربع سنوات دون أن يتم إقراره؟ إنه عصر ما بعد الحداثة، الذي نرى فيه كندا، نحن أبناء الشرق، كرائد من رواد الأنظمة التقنية الحديثة. كندا التي كان جناحها في معرض إكسبو 2020 في دبي قطعة فنية في غاية التطور والجمال، إذ تم دمج الأرابيسك بمكونات الهوية الكندية، وفق ما أرتنا إياه الشاشات حينها.

حاول أصدقائي المقيمون في كندا، وهم كثر، اكتشاف أسباب تأخر الملف، ومعرفة ما يجب علي القيام به في هذه المرحلة، لكن أحداً لم يصل إلى حقيقة. كان الجميع يطلب أن أقوم بالتواصل مع السفارة في أنقرة. إلا أن السفارة تجيبني بالطريقة ذاتها في كل مرة: “لا عليك عزيزي سوى الانتظار”، فأكتب رداً لا أقوم بإرساله. رد يتحدث عن الانتظار، وعن أن هناك معانٍ شتى له، كلها تحاول جلد ظهور المنتظرين بطريقة أدبية أكثر قسوة. يقول الروائي الأردني إبراهيم نصرالله: “كل ما يفعله الانتظار هو مراكمة الصدأ فوق أجسادنا وأرواحنا”.

سيكون من الممل الحديث عن تجربة السوري في تركيا خاصة في الوقت الحالي، هل هناك سفارة أجنبية في تركيا لا تعي التفاصيل تماماً؟ وهل يجب اجترار المأساة، حتى خلال كتابة مقال صحفي؟ سيبدو المقال في حال الاجترار شبيهاً بمقابلة موظف في السفارة يحاول اكتشاف موضع ضعف فيما تقول، ليمتلك جرأة إلغاء الملف. يحدث هذا رغم أن الدولة التي يعمل لأجلها هذا الموظف تسّوق لاستقبالها للاجئين، ثم تحرص في دوائر قرارها الضيقة على تقليل عددهم، ووضعهم في فلاترها والتحكم بتوسيع أو تضييق الثقوب بين وقت وآخر. 

في السنة الأولى للانتظار، كان من سخرية القدر أن أحد أصدقائي في اسطنبول، وبعد أن أجرى مقابلة شبيهة لمقابلتي في سفارة كندا في أنقرة، قد دوّن رقم هاتفي في ملفّه كرقم شخص مقرب منه في تركيا، لكي يتم التواصل معي في حال تعذر التواصل معه. يبدو أن خطأً ما قد ارتُكب أثناء التواصل معه، فتم إرسال رسالة نصية إلي، تدعوني إلى فندق في اسطنبول لاستكمال الإجراءات الأخيرة قبل السفر بأيام. بعد تلقي الرسالة، تواصلتُ فوراً مع الشخص المرسل للاستفسار، وأنا شبه متأكدٍ بأنني لست المقصود فيها. وكان الأمر كما ظننت، إذ اعتذر مني الشخص المُرسل، قائلاً إن المقصود هو صديقي وليس أنا، دون أن يدري بأنني كنت أنتظر رسالة شبيهة منذ أشهر.

أربع سنوات، وقبلها نحو سنة ونصف خلال إجراءات إعداد الملف وانتظار موعد المقابلة، ولا شيء تغيّر سوى تعثّر إجراءات حصولي على إقامة أكثر أماناً في تركيا. لقد حاولت استصدار إقامة عمل أربع مرات، ولم تمنحني إياها السلطات التركية لأسباب أجهلها تماماً. ما زلت مقيماً كسائح هنا منذ ثماني سنوات، سائح يعيش رعب رفض تجديد إقامته، وهو لاشك حال فئة من السوريين في تركيا. سائح يدفع في كل عامين مبلغاً طائلاً لسفارة بلده وسماسرتها، لأجل تجديد جواز سفره الملزم باستصداره لتمديد الإقامة التركية.
يتردد في لحظات الاصطدام مع واقع مرور الزمن دون تغيير إيجابي حقيقي سؤال واحد: “هل ما زلت أنتظر السفر إلى كندا؟” فلا أجد جواباً واضحاً عليه، لكنني أعرف بأن ما جرى سلبني على الأقل حافز المحاولة مع بلد آخر، وحافز تكرار الاستفسار عن الملف المتجمد في البلد البارد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى