الدليل الذي توّه البوصلة

مصعب النميري

صحفي وكاتب سوري مقيم في كندا، له ديوان مطبوع وكتب عدداً من المقالات في عدة صحف ومواقع عربية. وهو طالب حالياً في جامعة تورنتو. .

تخرج الكلمات من الشفاه محملة بالنوايا. في مساء هادئ، قد تخرج الكلمات بعفوية وبساطة دون حذر، فلا نبذل جهداً في انتقائها، تكون النية هنا متسقة مع الكلمات. لكن إذا كانت هذه الكلمات وسيلة للتعبير عن خطاب رسمي، تبدو الحيطة ضرورية في انتقائها، ذلك أنها تمتلك قوة مضاعفة عن الكلمات العادية. قد تعبُر الخرافة والحقيقة على صهوة كلمة واحدة إلى المتلقي. فضلاً عن ذلك، قد لا تعبر النوايا عبر الكلمات التي تُكتب أو تقال فحسب، وإنما عبر الكلمات الغائبة أيضاً، فاتحةً الباب لعلامات الاستفهام بالتدفق، أو راسمةً ملامح الاستياء على ضحايا التاريخ أو شهوده.

في عام 2009، أصدرت حكومة ستيفن هاربر نسخة من الدليل الذي يُقدم إلى من يرغبون بتقديم امتحان الجنسية في كندا. تضمّن هذا الدليل محتوى مثيراً للجدل لأنه “يعرض رأياً ضيقاً ومحافظاً للسياسية والمجتمع الكنديين.. ويتجاهل النضال الديمقراطي لأجيال من القادمين”، بحسب إسيلت جونز وأديل بيري، اللتين أصدرتا كتاباً بديلاً للكتاب الرسمي يهدف إلى تقديم وجهة نظر مغايرة.

“لقد رحبت كندا بأجيال من القادمين الجدد إلى سواحلها للمساعدة في بناء مجتمع حر وخاضع للقانون ومزدهر. على امتداد 400 عام، ساهم المستوطنون والمهاجرون بالتنوع والغنى في بلادنا، التي بُنيت على تاريخ فخور وهوية قوية”.

كانت هذه السطور الأولى الافتتاحية للكتاب. وبهدف الإضاءة على الجانب المعتم في القصة الكندية، أُقدّم بعض الأفكار والآراء التي تحتل مكاناً متقدماً في المشهد الكندي المعاصر اليوم، وهي آراء لم تكن حاضرة في هذا الدليل. ليست هذه دعوة لعدم قراءة الدليل، فجميعنا مضطرون إلى قراءته للحصول على الجنسية وهو في النهاية يعرض وجهة نظر موجودة في مقاربة التاريخ الكندي. بيد أننا نحاول توضيح بعض الجوانب الغائبة في هذه الحكاية الرسمية للاطلاع على وجهات النظر الأخرى في المجتمع الكندي.

يقدم الفهم المُحافظ لكندا، الذي يتضح عبر هذا الدليل، حقائق مجتزأة عن التاريخ الكندي ولا يعرض السياق المعقد له. ومن شأن هذا التقديم المؤدلج للهوية والتاريخ الكنديين أن يدفع المواطنين الجدد لاتخاذ مواقف سياسية وثقافية قد لا تكون حساسة كفاية لقضايا بعض مكونات المجتمع الكندي التي قد لا توافق على الطرح الموجود في الدليل. وبناء على ذلك، قد تؤثر النظرة الأحادية التي سيتبناها المواطنون الجدد عبر هذا الدليل بطريقة سلبية على اندماجهم في المجتمع الكندي.

النظر بعين واحدة

ليس سرّاً أن العلاقة بين الدولة والمجتمعات الكندية كانت ومازالت معقدة وإشكالية. وبخلاف ما يشير إليه الكتاب في مقدمته، لا تعد صورة المجتمع المثالي واقعية خلال الفترة المعاصرة للتاريخ الكندي. إذا كان التنوع يعني تواجد أشخاص من خلفيات مختلفة تتعايش فيما بينها، فلا شك أن المجتمع الكندي هو مجتمع متنوع اليوم. بيد أن مكونات هذا المجتمع كانت قد تعرضت إلى سياسات عنصرية وتمييزية فيه، وقد ترسّخ هذا التنوع بسبب نضال وكفاح هذه المكونات لنيل حقوقها.

على سبيل المثال، كانت ضريبة الرأس الصينية ضمن إجراءات عدة اتخذتها الدولة الكندية ضد أحد مكونات المجتمع، وهي إجراءات عكست الرؤية الكندية الرسمية لما يجب أن يكون عليه المجتمع. فُرضت هذه الضريبة في 1885 بهدف “الحد من تدفق العمال الصينين الذين لم تعد الحاجة موجودة لهم بعد اكتمال بناء الخط الحديدي الباسيفيكي”. كان العمال الصينيون يعملون في ظروف رهيبة لبناء سكة الحديد، وكانوا معزولين ومهمشين في أحياء مغلقة. لم تكن كندا حينها “مرحّبة” ببعض المهاجرين، كما يقترح الكتاب، الذي يسعى عبر السكوت عن هذه الحقائق إلى إخفاء المعالم المظلمة من التاريخ.

الهوية المُتخيّلة

تعدّ الهوية الكندية إحدى أكثر المواضيع تعقيداً في الأوساط العامة والأكاديمية. فالحديث عن هذه الهوية يُحيل دائماً إلى شعور بالارتباك لا بالثقة كما تشير مقدمة الكتاب. يقول ديفد شارياندي في بحثه خرافة الانتماء: عن كتابات الجيل الثاني في مجتمع السود إن “نسبة 37 بالمئة فقط من أبناء الجيل الثاني من السود يشعرون بالانتماء إلى كندا”. وبما أن الشعور بالانتماء هو حجر الأساس لبناء الهوية، يدفعنا خرافة الانتماء، عبر الغوص في أدب الكنديين السود (الذي يعبرون فيه عن معاناتهم فيما خص قضايا الهوية والانتماء) إلى معاينة واقع مغاير لما يطرحه الكتاب حيال “الهوية القوية”. تشير سمارو كامبوريلي إلى أن الرغبة الرسمية في تقديم الهوية الكندية على أنها قوية وشاملة “هي جزء من الإرث الاستعماري”. مضيفة أن شمول هذه الهوية “كان أمراً مُتخيلاً على الدوام”، وأن اعتبار الهوية الكندية هوية جامعة هو “خرافة ثقافية”، على حد تعبيرها.

وبما أن كثيراً من مكونات المجتمع الكندي تعيش تحديات مستمرة في الانتماء والتمثيل في المجتمع الكندي (السكان الأصليون، والسود، والأقليات، والمهاجرون)، تصبح الهوية القوية هنا وسيلة لأحد أمرين: إما فرض الانتماء على هذه المجتمعات، أو إقصائها من الهوية المُتخيّلة.

سرديات متضاربة

الكثير من الكنديين اليوم لا يرون التاريخ كمبعث للفخر، وتؤكد على ذلك الاعتذارات التي قدمتها الحكومة الكندية في العقود الأخيرة بشأن المدارس الداخلية التي استهدفت أطفال السكان الأصليين على سبيل المثال. لم تصدر هذه الاعتذارات لأن التاريخ كان مبعثاً للفخر. في المدارس الداخلية أُخذ أطفال السكان الأصليين عنوة من بيوتهم وتعرضوا إلى العنف الفيزيائي والجنسي. كانت هذه الإجراءات، بحسب ما يقول بيل فونتين “جزءاً من سياسة شاملة للقضاء على ثقافة السكان الأصليين ودمجهم في المجتمع الكندي على خلاف إرادتهم”.

كنت مونكمان – الصرخة (2017)

يبدو أن الفخر المشار إليه في المقدمة هو فخر أصحاب القوة. ذلك أن كثيراً من المجتمعات التي تعرّضت للانتهاكات تتبنى وجهة نظر مغايرة، فترى التاريخ كمبعث للعار لا للفخر. ويُعد تاريخ الأول من تموز، العيد الوطني لكندا، مناسبة على الدوام لمعاينة هذه الآراء المتباينة التي تعكس هذا الإحساس لدى مكونات المجتمع الكندي. أطلق السكان الأصليون على هذا اليوم اسم “يوم الاستعمار”، فيما أطلق حزب كيبكوا حملة بعنوان “ذلك اليوم” للإشارة إلى أنه كان يوماً سيئاً بالنسبة لمقاطعة كيبك. نواب من مقاطعة نوفا سكوشا اقترحوا أن تتم تسمية هذا اليوم بـ”يوم الرثاء”، فيما أقامت الجالية الصينية في مقاطعة كولومبيا البريطانية نشاطات تعتبر الأول من تموز هو “يوم إهانة الصينيين”. يُعتبر وجود وجهات النظر المتنوعة في مقاربة التاريخ على هذا النحو تحدياً لطرح المقدمة القائل إن التاريخ الكندي كان مثاراً للفخر، وهو ما يدعم الطرح القائل إن هذا الكتاب يفرض وجهة نظر أحادية التفسير للتاريخ على المواطنين الجدد. 

يبدو أن الكتاب يعكس إحساس حكومة هاربر بالحق في امتلاك تاريخ البلاد وتصديره على النحو الذي تشاء. ويعدّ الوعي بالأدوات التي تستخدمها القوة المسيطرة في البلاد الديمقراطية وكيفية تعريفها لذاتها وتاريخها في غاية الأهمية لمواجهتها أو انتقادها، ذلك أن الحروب في هذه الأيام هي حروب السرديات، التي تتدافع فيها القوى لامتلاك الحكاية. 

المصادر:

  1. Jones, Esyllt W, and Adele Perry. People’s Citizenship Guide: A Response to Conservative Canada. Winnipeg: Arbeiter Ring Pub, 2011.
  2. Cho, Karen, and Tamara Lynch. In the Shadow of Gold Mountain. Toronto: National Film Board, 2004.
  3. Chariandy, David. “The Fiction of Belonging”: On Second-Generation Black Writing in Canada”.  The Johns Hopkins University Press 2007.
  4. Kamboureli, Smaro. Making a Difference: Canadian Multicultural Literatures in English. Don Mills, Ont: Oxford University Press, 2007.
  5. Fontaine, Phil. A Knock on the Door: The Essential History of Residential Schools. 2016.
  6. Hayday, Matthew, “In Canada 150: Not the first celebration to spark controversy”, theconversation.com/canada-150-not-the-first-celebration-to-spark-controversy-80137.2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى