التعافي الثقافي بعد الهزيمة

كيف أصبحت الهزائم دافعاً لمشاريع رؤيوية في النهضة العربية؟

تيموثي بو ضومط

طالب ماجستير في قسم حضارات الشرق الأدنى والشرق الأوسط بجامعة تورنتو، وحاصل على منحة الخريجين الكندية لعام 2022-2023. يركز بحثه على تكوين الهوية ونمو الأنشطة الفكرية في بلاد الشام خلال أواخر العهد العثماني والانتداب (1840-1940).

هذا المقال جزء من ملف “النهضة العربية بعيون معاصرة”، الذي يصدر ضمن مشروع التعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. خلال هذا المشروع يقدم محررو حنا الاستشارة التحريرية لطلاب البكالوريوس والماجستير بهدف نشر مشاريع تخرجهم على موقع حنا. تقرأون في هذا الملف المقالات التالية: المفكرون المعاصرون في العالم العربي لـينس هانسن، محاولات تعريف الذات في عوالم متغيرة لمصعب النميري،  طه حسين وديالكتيك النهضة العربية لكوين كوين تيج-كولفر، النهضة العربية من منظور نسوي لسارة مولاي، وعن أهمية أن تكون على خطأ لشاونا مكلين. 

ترجمة مصعب النميري

يقول ألبرت حوراني، الذي أرّخ الفترة الممتدة بين 1798 و1939 في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة إن الهزيمة “تترك أثراً غائراً في الروح، أكثر مما يفعل النصر”. يشير حوراني إلى أن الهزيمة “هي تجربة واعية تتضمن شكوكاً حول نظام الكون”. بكلمات أخرى، فإن الهزيمة تدفع الناس للبحث عن طريقة جديدة لتنظيم حياتهم. بيد أن حوراني أيضاً يجادل بأن الهزيمة “قابلة للنسيان من قبل أصحاب السلطة” لأن هؤلاء “يخترعون أو يتبنون أفكاراً تمكّنهم من تبرير استحواذهم على السلطة، ويفترضون أن ذلك من ضمن طبيعة الأشياء”(حوراني، 2013). يقارن حوراني بين الأثر “الشامل” للهزيمة على “روح الإنسان” والأثر المحدود لهذه الهزيمة على أصحاب السلطة. ما الذي كان يمكن أن يقصده حوراني بهذه المقارنة؟ يسلط حوراني الضوء على كيفية تحكم الرغبة في التاريخ وتحول الكارثة لهزيمة. 

ولكن كيف تحولت الكوارث، التي يتم اختبارها بشكل مختلف عبر المكان والزمان في التاريخ العربي المعاصر، لتصبح هزائم تطال معظم نواحي الحياة؟ رغم أن الأمر يبدو بديهياً لوهلة، إلا أن الكوارث ليست جميعها “هزائم”. تجربة الكوارث، بطبيعتها، تختلف عبر المكان والزمان في العالم العربي الحديث. يقول معظم مثقفي النهضة، إن “الهزائم” طالت معظم نواحي الحياة لدى العرب، (هانسن وويس، 2020).

الهزائم هي نوع من الوعي المنسي، وفهم بعض الكوارث على أنها “هزائم” ينبع من الرؤى السياسية التي تبناها مفكرو عصر النهضة. يميز العمل التاريخي الخاص بالنهضة هذه المرحلة بكونها تضمنت مشاريع نخبوية، استخدم فيها النهضويون قوتهم السياسية وقدرتهم على التأثير لتنفيذ ما يسميه عبد الرزاق التكريتي “مشاريع رؤيوية” (تكريتي، 2018).  أقترح في هذا المقال أن مثقفي النهضة استخدموا سردية الهزيمة في أعقاب التجارب المأساوية في محاولة للدفع نحو الإصلاح والتأكيد على أهميته لدى قرائهم، وأدعو إلى التفكير أكثر بدور الكارثة لدى التأريخ للنهضة.

بغرض البحث أكثر في هذا الجانب، يتناول هذا المقال كاتبين من عصر النهضة، وهما بطرس البستاني وطه حسين، اللَذين كتبا في أزمنة وأمكنة مختلفة من النهضة. أقترح أن إرث النهضة ما زال حاضراً بيننا اليوم حين يُستخدم كأداة للوحدة السياسية عند الاستجابة للمأساة، ويتم تفسيره بطرق مختلفة تبعاً لمواطن الحاجة إليه. تمت استعادة إرث النهضة مؤخراً خلال انتفاضات الربيع العربي عام 2011، التي وضعت العالم العربي أمام تحديات شعبية استحضرت نداءات “النهضة” مرة أخرى. 

الهزيمة والمشاريع الرؤيوية

أعتمد على الكاتبة بيل هوكس في هذا المقال في محاولة لفهم الرابط بين “الهزائم” و “المشاريع الرؤيوية”. تجادل هوكس بأن الكارثة تشكل جزءاً لا يتجزاً من عملية الإحياء، ذلك أن تجربتها في التعافي بدأت مع “عدم قدرتها على فهم الأذى والتمييز والرفض الذين تعرضت لهم” من أناس قدّرتهم، ومن ضمنهم عائلتها وأصدقاؤها والناشطات النسويات السود (هوكس، 1991).

معظم النظريات التي بنَت الثقة لدى هوكس بُنيت على مواجهة هذه التحديات، إذ استمدتها من الهزائم التي واجهتها في دوائر النشاط النسوي. سعت مشاريع النهضويين إلى تجنب الإنزلاق إلى العصر المظلم عبر مشاريع إصلاحية واسعة تهدف إلى تحسين الوضع الثقافي، وقد شكلت الكارثة جزءاً أصيلاً من هذه المشاريع، ذلك أن النهضويين استخدموا التهديدات المحيقة في الماضي والمستقبل للتأكيد على أهمية الإصلاح والدفع نحوه. وبذلك تقتضي الكتابة عن التعافي الثقافي في “العالم العربي” كتابة موازية تتناول الكارثة والهزيمة.  

معظم العمل الأكاديمي لم يتناول الكارثة أو اقترح أن وجودها يمتنع جنباً إلى جنب مع الازدهار. السرديات التقليدية تعتبر أن النهضة كانت محاولة للاستيقاظ أو رغبة في إنقاذ الثقافة العربية الأصلية من الانحدار، وقد انتهت هذه النهضة بالهزيمة كما يرى كل من ألبرت حوراني وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري من بين آخرين (هانسن وويس، 2020). حتى مؤرخين تنقيحيين مثل أحمد دلّال وجزيف مسعد يقترحون أن النهضة كانت هزيمة للفكر الأوروبي قابلها ازدهار لتوقعات وأفكار غير أوروبية من زمن ماضٍ (دلّال 2018، مسعد 2007). بدلاً من الاعتماد على هذه الرؤى، سأعتمد على أعمال كتاب وكاتبات مثل مروة الشاكري وأسامة مقدسي وإلهام خوري مقدسي، مُجادلاً بأن أفكار وممارسات النهضة لم تكن مؤطرة أو محددة أو متجانسة وقد تركت مساحة للأفكار المتنافسة بالتواجد جنباً إلى جنب قبل أن تصبح طبقات متراكبة مع تغير الزمان والمكان.

كارثة وشيكة وعلاج استراتيجي: بطرس البستاني

رغم شح التأريخ عن تواجد الكارثة والتعافي سوياً، لم يكن النهضويون منفصلين عن كوارثهم. ومثال على ذلك بطرس البستاني، المثقف والموسوعي الوطني الذي كتب نفير سوريا، والذي كان عبارة عن 11 نشرة على شكل نداء وطني للتعافي الوطني بعد مأساة الحرب الأهلية في دمشق وجبل لبنان عام 1860. يفتتح البستاني كلاً من هذه النشرات بعرض جوانب الكارثة المُعاشة حينها. 

إلى جانب تسليطه الضوء على الآثار الواسعة للمأساة في كل نشرة، يقول البستاني إن “بلادنا.. قد مضت عليها أجيال كثيرة وهي عرضة لفساد قوم غير متمدنين من أهاليها ولذلك ترونها متأخرها عما سواها من البلدان” (الشاكري، 2013)، مُتابعاً بعد ذلك في وصف الخسارات التي تعيشها البلاد، المادية منها والمعنوية (البستاني، 2019).

إلا أن البستاني، بعد كل مأساة، يقدّم حلاً لها، إذ يناشد قراءه بأن يثقوا بالقوى التي ستعيد السلام وفي روح الحكمة القديمة الموجودة في سوريا التي “ستأتي بالخير العظيم وستفتتح عصراً جديداً لسوريا”. هكذا، حول البستاني الكارثة التي عاشها إلى “هزيمة” لسوريا، مُحذراً أن الكارثة قد تحصل مجدداً دون اللجوء إلى حلوله، وهو بذلك استخدم الهزيمة للتأكيد على أهمية الإصلاح لقرائه المتأثرين بالكارثة التي يتناولها في كتابه. 

كارثة استراتيجية وعلاج آني: طه حسين

نهضويون آخرون، مثل الأديب والمصلح طه حسين، وظفوا الكارثة بطريقة مشابهة لطريقة البستاني. بيد أن هذه الكارثة كانت نتيجة سرديات تاريخية انقلبت إلى هزائم. مقاربة حسين لمأساة مصر التاريخية مستمدة من الفكر الاستشراقي الأوروبي، مثل فكر إرنست رينان الذي اعتبر أن العالم العربي (ومصر خصوصاً) خسر مجده القديم لصالح الانحطاط الإسلامي والأصولية (رينان، 1883). في الواقع، كان رد العديد من النهضويين على اتهامات كهذه متأثراً بالمعرفة الاستشراقية المهيمنة ذاتها، إذ استخدموها لدعم طروحاتهم. يجادل حسين، مثلاً، بأنه “لولا أن مصر قصرت طائعة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها ولما أضاعت الاستقلال، ولما احتاجت هذا الجهاد العنيف الشريف لتسترد الحرية وتستعيد الاستقلال” (حسين، 1954). 

يستخدم حسين في كتابه عن مستقبل الثقافة في مصر كابوس الخضوع الذي عاشته مصر سابقاً، والذي يُحتمل تكراره في المستقبل، لدعم برنامجه السياسي الذي يتضمن التعليم المجاني في مراحل معينة. في حين أن البستاني يوظف التراجيدية الحالية لتجنب الكارثة الاستراتيجية، يقوم حسين بالمقابل بتوظيف التهديد الآني للكارثة من أجل تجنب ما كان، بحسب وصفه، كوارث تاريخية. رغم تباين الطرق التي وظّف فيها النهضويون الكارثة أو الكارثة، إلا أنهم يشتركون بتوظيف سردية هذه الكارثة كأداة للدفع نحو الإصلاح والتأكيد على أهميته، عارضين بذلك رؤاهم للتعافي السياسي. 

خاتمة

وظف مفكرو النهضة خطاب الكارثة بسبب فعاليته في الدفع نحو الإصلاح في وقت كانت فيه حيوات قرائهم تهتز على وقع الكارثة التي دفعتهم للشك برؤاهم حول المستقبل، أو بمعنى آخر “أفق توقعاتهم” (أوزبورن، 1992). كانت النهضة حراكاً للمفكرين العرب، فهموا عبره استياء الجمهور من النظام السياسي السابق وعرضوا أفقاً بديلاً للتوقعات يعتمد على الحداثة الأوروبية، وهو النموذج المهيمن على قرائهم حينها. كانت غاية النهضويين هي إعادة تشكيل الثقافة السياسية واستخدام الكارثة للوصول إلى أهداف سياسية. ولكن النهضة كانت متعددة الوجوه مثلما كانت الكوارث التي استجابت لها. وقد تباينت استجابات عموم قرائهم للكارثة بحسب الزمان والمكان في العالم العربي.

تحاكي هذه العملية كوارث قد لا تعني قراء الكاتب، أو قد تدفع نحو الإصلاح خارج المساحة السياسية التي تعنيهم. على سبيل المثال، كانت رغبة البستاني تتمحور حول بناء “وطنه”، وقد لا تتشابه مع طرح رينان وحسين حول “إهمال مصر للثقافة والعلم” في القرون الثلاثة الماضية. وحسين، أيضاً، لا يتناول بدوره الحرب الأهلية في دمشق وجبل لبنان عام 1860، التي كانت المحفز الأساسي للبستاني. لذلك يدعو هذا المقال إلى إعادة موضعة الكارثة في تأريخ النهضة بكونها قاسماً مشتركاً لدى النهضويين ولكنه يحمل تداعيات متباينة أسلط عليها الضوء في الختام. 

يخسر مصطلح “النهضة” لدى ترجمته إلى الانكليزية معنى “النهوض”، الذي يؤسس لفهم النهضة كموضوع ضمن محددات بدلاً من كونه سلسلة من الأحداث غير المترابطة عبر الزمان والمكان. في محاولة للحفاظ على المعنى بالعربية، يركز إلياس خوري ومفكرون آخرون على أهمية معنى الفعل المتضمن في مصطلح النهضة، ويقترحون اعتماد مفهوم محدد لدى دراستها (خوري، 2001). واتساقاً مع طرح خوري، أقترح أن إعادة دراسة النهضة هي دعوة لمقاربة الفترة الزمنية التي شملتها بكونها تضمنت حراكاً متعدد الطبقات أثّر وتأثّر بالطموحات السياسية. علاوة على ذلك، إنها دعوة أيضاً لمعاينة سردية نهاية أو انحدار النهضة بكونها سردية للكارثة أو الهزيمة استُخدمت من قبل حركات مختلفة بغرض استنهاض الروح العربية.   

المصادر

1- بطرس ابن بولس البستاني. نفير سوريا: نداء وطني ضد الحرب الأهلية عام 1860. ترجمه ينس هانسن وهشام صفي الدين. أوكلاند، كاليفورنيا: منشورات جامعة كاليفورنيا، 2019.

2- دلال ، أحمد س. الإسلام بدون أوروبا: تقاليد الإصلاح في الفكر الإسلامي في القرن الثامن عشر. تشابل هيل: منشورات جامعة نورث كارولينا، 2018.

3- الشاكري، مروة. قراءة داروين في الفكر العربي 1860-1950. شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو، 2013.

4- هانسن، ينس، وماكس وايس. الفكر العربي ضد العصر الاستبدادي: نحو تاريخ فكري للحاضر. حرره ينس هانسن وماكس ويس. كامبريدج، المملكة المتحدة: منشورات جامعة كامبريدج، 2018.

5- هانسن، ينس، وماكس ويس. الفكر العربي بعد العصر الليبرالي: نحو تاريخ فكري للنهضة. حرره ينس هانسن وماكس ويس. كامبريدج، المملكة المتحدة: منشورات جامعة كامبريدج، 2016.

6- هوكس، بيل. “النظرية كممارسة تحريرية”. مجلة ييل للقانون والنسوية 4، عدد 1 (1991): 1-12.

7- حوراني، ألبرت. تاريخ الشعوب العربية. لندن: فابر آند فابر، 2013.

8- حسين، طه. مستقبل الثقافة في مصر. واشنطن: المجلس الأمريكي للمجتمعات المتعلمة، 1954.

9- خوري مقدسي، إلهام. شرق المتوسط وصنع الراديكالية العالمية، 1860-1914. بيركلي: منشورات جامعة كاليفورنيا، 2010.

10- مقدسي، أسامة سمير. عصر التعايش: الإطار المسكوني وصنع العالم العربي الحديث. أوكلاند، كاليفورنيا: منشورات جامعة كاليفورنيا، 2019.

11- مسعد، جوزيف انضوني. اشتهاء العرب. شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو، 2007.

12- أوزبورن، بيتر. “الحداثة فئة نوعية وليست ترتيباً زمنياً”. نيو ليفت ريفيو، 192 (مارس/أبريل 1992)، 65-84.

13- مناظرة رينان-الأفغاني، باريس، 1883. نسخة مقدمة إلكترونياً من ينس هانسن، “مثقفو العالم العربي” (جامعة تورنتو) .

14- سعيد، إدوارد. العالم والنص ووالناقد. كامبريدج. ماساتشوستس: منشورات جامعة هارفارد، 1983.

15- سكوت، ديفيد. “نقد ما بعد الاستعمار”. ريفاشنينغ فيوتشرز (برينستون، 1999)، 3-20.

16- تكريتي، عبد الرزاق. “النشاط السياسي في الخليج: أحمد الخطيب وحركة القوميين العرب 1948-1969.” في الفكر العربي ضد العصر الاستبدادي. حرره ينس هانسن وماكس ويس. كامبريدج، منشورات جامعة كامبريدج، 2018. 86-112. https://doi.org/10.1017/9781108147781.007.

17- توكلي طرقي، محمد. “نقد أحمد كسروي للأوروبية والاستشراق” في اللغة الفارسية والأدب والثقافة. حرره كمران تلطّف. لندن: روتليدج، 2015.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى