أسئلة صعبة على وقع الإبادة في غزة 

عن اليأس والواجب والجدوى

أماني الشيخ 

كاتبة وصحفية سورية مقيمة حالياً في كندا. مهتمة بقضايا العدالة الاجتماعية وبالتقاطع بين الشخصي والعام في القضايا السياسية. 

“لكن رأينا أنه من الواجب أن نعود رغم كل شيء”، وائل الدحدوح، مدير مكتب قناة الجزيرة في غزة بعد أن  فقد زوجته وطفليه بقصف إسرائيلي. يقولها ويبتسم. إصبع وسطى في وجه القدر، الاحتلال الاسرائيلي، المستعمر الأبيض، وهذا العالم. 

قال الدحدوح إن الواجب دفعه للعودة إلى العمل. لم يقل نهضت من كل هذا الألم لأن هناك أملاً بأن يستيقظ العالم ويتحرك لوقف المجزرة. 

يدور السؤال ذاته في رأسي على الدوام. لماذا نحاول؟ لماذا لا نستسلم جميعنا؟ 

عندما استسلمت نجوى الملحدة بعد سنين طويلة من العمل السياسي والثورة في سوريا، غدت تعد أمسها المظلوم بأن الله لا بد أن يفعل شيئاً، يوماً ما، وفي وقتٍ ما. صارت تذهب إلى الكنيسة كل صباحين أو ثلاثة، تشعل شمعة وتصلي.  كان لديها بعض الأمل. دافعها للثورة في سوريا كان أن يسقط النظام، ثم تعبت كثيراً وسلمت أمرها لله. ما زالت رغم تعبها تؤدي الواجب إن ناداها عجلاً. 

مناورة العجز

أستيقظ صباحاً. اليأس يأكل جسدي من أطراف قدمي إلى صدري المثقل بدقات القلب المتسارعة، وحتى انفجار رأسي بكاءً، حين قطع الاحتلال الاسرائيلي الاتصالات والكهرباء عن غزة كلياً. أذكر هذا الإحساس جيداً عندما كان يفعلها نظام الأسد عندما دمر أكثر من نصف سوريا قصفاً بين عامي 2012 و 2017، وما زال يقصف إدلب. عجزٌ كامل الملامح. 

أجول على حسابات الانستغرام للمراسلين والصحافيين المستقلين من غزة بعد قطع الإنترنت. معتز العزايزة لم ينشر شيئاً. بلستيا العقاد نشرت فيديو واحد من الظلام عن قطع جميع وسائل الاتصالات، تنهيه بأنها بعد كل هذا الدمار وهذا العجز، تسأل نفسها بعينين مليئتين بالصدمة: “ما الجدوى من كل ما نفعل؟”.

عندما عاد العزايزة ونشر مجموعة من القصص على انستغرام، بعد يوم كامل من الانقاطاع الكلي. كانت قصصاً تصف العجز. مع ذلك فإن كلا العقاد والعزايزة نشرا ما يمكن نشره. سيتابعان كما غيرهما النشر حتى اللحظة الأخيرة، الموت أو النجاة. 

لا أستطيع النهوض من السرير، هذا الإحساس الأول لحظة الاستيقاظ، يغلب الروح. مع ذلك يشدّ جسدي على نفسه. دموعي المنهمرة على كتفي تتوقف فجأة، ثمة ما يدفع هذه النفس الضعيفة للقيام، مع أن مفهوم الأمل يبدو غاية في السخافة. ما الذي يدفعني إلى القهوة والبث المباشر على قناة الجزيرة؟ ما الذي يدفعني لأغسل عينيّ المحمرتين منذ 7 أكتوبر والتسارع في الذهاب إلى المظاهرة أو العمل مع صديق على شيء ما، أو حتى كتابة هذا النص. 

تدفعني ذرات أخيرة متباقية ومتناثرة حول نفسي المهشمة، من الإنسانية. يدفعني الواجب نفسه. إذا كان وائل الدحدوح قد قبل العزاء وقام إلى عمله، ماذا يعني لي ذلك؟ 

أكتب برداءة. أعرف، معلش.  ثقل الضغط على الكيبورد يخدّر أطراف أصابعي. أكتب بغضب، كمان معلش. يلعب جهازي العصبي جولته الأخيرة على حبل رفيع جداً بين الحقد المتراكم والحزن العميق، ويهدد يومياً بالانهيار. 

حق لا ينتظر 

الأمل هو مزيج من التوقع والرغبة. أن تأمل بشيء ما يعني أن تنتظره، خصوصاً بعد أن تعمل لأجله، فالأمل أيضاً شعور بالاستحقاق. والمقاومة هي محاولة منع الضغط المطبق عليك من أن يكتمل فيسحقك. أن تقاوم/ي يعني أن لديك أملاً أنه من الممكن النجاة من الإطباق الكامل. 

علينا مقاومة كل القوى التي تسعى إلى سحقنا، وأشعر بضرورة التأكيد على ذلك. الحريات لا تنفصل عن بعضها. أن نؤمن بالمقاومة لا يعني أن ندعم الدكتاتوريات السياسية أو الدينية، بل يعني أن نحترم الناس فيما اختاروه وفيما فرض عليهم تحت ظل كل هذا الظلم، وبحق أصحاب الأرض في استعادتها. لا أصدق سخف ذلك ومدى بدائيته، بسيط جداً،  لماذا لا يستطيع هذا العالم فهمه؟ 

تعصف الصور بذاكرتي. أمي وخالاتي يرتدين الأسود ويجمعن بعضهن في مساء شتوي ليذهبن إلى جمعة عزاء. يحاول أحد أبناء الخالات السؤال عن ضرورة هذا العزاء في البرد القارس، خصوصاً أن الميت كان في التسعين من عمره. ثم يأتي الرد من الخالات جماعة، بأنه لا يجوز التلكؤ في فعل “الواجب”. 

تتردد كلمات صوت جيمس بولدوين في لحظة واحدة من الهدوء في الدماغ، يذكرني بأنه لم يملك ثمن اليأس يوماً، إذ لا يمكنه أن يخبر طفلاً ما أنه لا يوجد أمل. وأنا مثل بولدوين، لا أملك رفاهية اليأس لكني لا أقوى على الأمل أيضاً. 

هول اليأس 

تقلنا السيارة من دنداس سكوير إلى بيت صديقتنا حيث اتفقنا أن نجتمع بعد المظاهرة في تورنتو. كان أسبوعاً صعباً جداً. يتابع الاحتلال  القصف العنيف على غزة وارتكاب المجازر واحدة تلو الأخرى. آلاف  من الناس جالت شوارع تورنتو رافعة العلم الفلسطيني مستنكرة المجزرة وداعية لوقف إطلاق النار. في السيارة صديقتي التي أرهقها الحزن، وابنة خالتي المثقلة باليأس بعد أن عاشت كل ما حدث في سوريا. تمسك صديقتي بيدي وتلقي برأسها على كتفي وتعب الكون في روحها. أسألها عن سبب تواجدها في المظاهرة اليوم، وإذا كان لديها أمل بإيقاف إطلاق النار أو تحرير فلسطين. بجهد قليل للتفكير إنما بثقل هائل  للكلام أجابت أنها لو فعلت شيئا قد لا يتغير شيء،  لكنها إذا لم تفعل فإنه من المؤكد أن شيئاً لن يتغير. 

ابنة خالتي على الجهة الأخرى. كانت في السادسة عشر من عمرها عندما بدأت الثورة في سوريا عام 2011. شهدنا كل شيء معاً. المجزرة تلو الأخرى. قصف عنيف وبراميل متفجرة، تسقط على رؤوس الناس من السماء. تعذيب واعتقال وسحل في الشوارع، وقنص وحصار اقتصادي وحرمان من الخبز والماء والوقود، ثم السلاح الكيماوي الذي قتل أكثر من 1500 شخص في ليلة واحدة في الغوطة عام 2013. كنا معاً عندما تبعنا كل مجزرة، بهول الصدمة العظيم نسأل متى دورنا؟ 

تغلغل اليأس إلى نفسها أكثر وأكثر بعد وصولها إلى أميركا منذ نحو خمس سنوات، إذ عاينت قضية السود والتمييز ضدهم في الولايات المتحدة وفهمت أن حربهم مع العنصرية الممنهجة ما زالت قائمة وطويلة ومتعبة. لذلك توقفت عن القتال. تعرف جيداً ما يحدث، لكن ليس لها قدرة على خوض معركة واحدة، مهما كانت صغيرة. 

 مع ذلك، حين علمت أن أصدقائي منخرطون في محاولة أن نفعل شيئاً في كندا، للمطالبة بوقف إطلاق النار وتوقف كندا عن تمويل المذبحة الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، أكدت فوراً أنها لا تستطيع المشاركة كثيراً في النشاط المباشر، لكنها كانت تحنو علينا. تحضر لنا الهدايا والضحكات وتأتي لتزورنا كل أسبوعين. شاركت في مظاهرة الأحد، مسحت دموعنا، وذكرتنا أنها تعلم جيداً بما نشعر. أن نشعر ببعضنا. هذه أيضاً مقاومة. 

تتشابه طرق الإبادة الجماعية في فلسطين وسوريا، بالموت المعمم والوقوف اليائس على الركام والشعور بالخذلان والوحدة. لا أستطيع رؤية النهاية، لكن هذا لا يعني أن السعي يجب أن يتوقف، حتى لو كان أمامنا مئات السنين. تتحرك اليوم الكثير من شعوب العالم لأجل فلسطين لأول مرة. يتظاهر مئات الآلاف في المدن الغربية الكبرى، وتتحرك منظمات يهودية ضد الصهيونية بشغف عظيم. أصدقاؤنا الكنديون يسهرون الليالي معنا على الأخبار لأول مرة، ويسبقوننا إلى الشوارع محتجين على المجزرة. في النكبة الأولى ذبحت فلسطين بصمت عالمي كامل. 

هشم المشهد المتكرر ضلوعنا في صدورنا مراراً. نحاول فعل ما نستطيع لإيقاف المذبحة المخيفة في غزة ولكن اسرائيل تستمر بارتكاب المجازر دون توقف، وتستمر الدول الغربية في التواطؤ معها وقمع مظاهر التضامن مع فلسطين. نعاين حجم الجهد الهائل اللازم لتغيير هذا الواقع المرعب. يضنينا التعب والفزع فنرتمي على أكتاف بعضنا ونسقط معاً ثم نحاول الوقوف لأن المقتلة لم تتوقف. نواصل الصياح والطرق على الأبواب المقفلة حتى آخر لحظة. كل ما نملكه اليوم هو أن نكمل المحاولة، إذ ليس لدينا ترف الأمل أو العجز، كلاهما على حد سواء.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى