محاولة لترميم هوية متشظية
مشاعر مختلطة لدى زيارة لبنان بعد سنوات في المغترب
ستيفاني مخيبر
ناشطة لبنانية ومستشارة في أماكن العمل. تعمل كمسؤولة التواصل في مجموعة “مغتربين مجتمعين” في كندا. وهي المؤسس المشارك والناشر لمجلة الراوية، وهي أول نشرة رقمية من نوعها تهدف إلى إعلام وإشراك المغتربين اللبنانيين على أمل خلق أفضل المستقبل للبلد.
ترجمة عُلا برقاوي
أجر حقائبي نحو بوابات الوصول. ألمَح من بعيد وجهاً لم أره منذ سبع سنوات يبتسم لي. تمتد ذراعاه على وسعهما كلما اقتربت منه على عجل. أعانق ابنة عمي. ألتقط أنفاسي لوهلة، أخرج من رئتي كل ما ضاقت به في البلاد الغريبة.
راحة، رهبة، دفء، توجس، أشعر بكل ذلك في آن. خلال ثوان معدودة، أعيد اكتشاف هويتي، من أين أتيت؟ وإلى أين أنتمي؟ أخرج من البوابة الرئيسية للمطار وأنظر أبعد ما يمكنني: بيروت.. ها أنذا!
لم أزر لبنان منذ صيف ٢٠١٥. كنت أنتظر الإجارة هذه منذ فترة. وصلت مع صديقتي بعد ظهر يوم جمعة، وهذا الوقت في بيروت يعني البدء بالاستعدادات لعطلة نهاية الأسبوع، وازدحاماً خانقاً في حركة المرور. تتشكل خطوط على مد النظر من السيارات في الطريق السريع منتظرة دورها لساعات من أجل الحصول على الوقود، لتجد المحطة قد أغلقت أبوابها.
يقول لنا سائق التكسي إن الناس يضطرون لترك سياراتهم مركونة في الطوابير قرب المحطة، والعودة إليها في اليوم التالي ليكملوا طريقهم من حيث توقفوا. هذا المشهد كان يتكرر يومياً خلال زيارتي القصيرة إلى لبنان.
نقترب من المناطق الجبلية، يتلاشى جنون وصخب بيروت ببطء وراءنا. يصيبني الذهول وأنا أمر من الطرق المتعرجة المطلة على البحر وكأني أراها للمرة الأولى. أنا أعيش في مونتريال، ولا أمتلك هناك متعة القيادة بين الجبال والاستمتاع بالمناظر الساحلية في وقت واحد.
لم أنتبه سابقاً لهذه التفاصيل الصغيرة، ربما أهتم بها الآن في مسعاي لإبقائها محفوظة في ذاكرتي، فأستطيع استعادتها لاحقاً. أغرق في معالم الطبيعة أكثر، ويزداد السحر الذي يتمتع به جمال لبنان، وخاصة الطريق إلى بيتي الذي يرتاح على تلة الرويسية، في بلدتي بيت مري.
مضى وقت طويل منذ أن رأيت جدي وخالاتي وأبناء عمومتي آخر مرة. أحاول منع نفسي من البكاء لدى احتضانهم. لا ينبغي للعائلات أن تفترق هكذا. كلٌ منا يكبر فجأة، يتقدم في السن، ونادراً ما نرى أطفال بعضنا البعض. لا نحتفل ولا نحزن معاً. مهما حاولنا تجاهل هذه التفاصيل، إلا أن واقعنا مؤلم لا محالة.
كل عائلة لبنانية تقريباً تعيش هذا الواقع. نحن مجبرون على البحث عن فرص أفضل في الخارج، لأن لبنان يحكمه زعماء غير كفؤين، طائفيون، نخبويون، وأمراء حرب.
خلال الزيارة التي امتدت لأسبوعين، كانت سيارات التكسي هي الوسيلة الوحيدة التي أستطيع عبرها التنقل في بيروت، لأن سيارات العائلة نفدت من الوقود. أحاول أن أعيد اكتشاف بيروت حتى أبعد مسافة يمكن للتكسي أن تأخذنا إليها نهاراً، إذ سيكون من الصعب التنقل ليلاً، خاصة عندما تغرق المدينة في ظلام دامس.
تتفاقم في لبنان ظاهرة انتشار الأطفال المتسولين في الشوارع مع ازدياد حالات الفقر. يعيش اليوم أكثر من ٧٠ في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، دون أن يتمكنوا من الوصول إلى أساسيات الحياة من كهرباء أو ماء. وفي أحيان كثيرة، لا يجدون سقفاً يؤويهم.
الأسوأ من ذلك كله، هو المرور بالقرب من مرفأ بيروت. ومن ثم السير في شوارع مار مخايل والجميزة. أراقب الدمار المهول، والأبنية المتضررة، والصوامع المحطمة. ومن ناحية أخرى الجهود التي يقوم به النشطاء والشركاء في المنظمات غير الحكومية. مساعيهم في إعادة بناء المتاجر والحانات والمنازل الأثرية والمباني تعزز رغبتنا في إكمال معركتنا كناشطين لبنانيين في الخارج بكل ما نمتلك من قوة.
بعد أن تركتُ لبنان عام ٢٠١٢، كان انتزاعه من رأسي السبيل الأمثل الذي يجعلني أشعر بالقليل من التوازن. لكن ثورة السابع عشر من أكتوبر، جاءت كدفق أحيا كل شيء من جديد، فوجدت نفسي ألتحق بالصفوف الأولى للحركات الشبابية في الشتات، وفي مجموعة ”مغتربين مجتمعين“.
أكثر ما يشد الانتباه في لبنان هو التناقض. هناك، ينعدم التوازن بفداحة لا يستطيع العقل استيعابها. المفارقة هنا أنه بالرغم من انعدام توفر أساسيات الحياة من كهرباء ومياه، وشح الأدوية ووسائل الرعاية الصحية، والكآبة واليأس اللذين أصبحا جزءاً من روتين الناس اليومي، إلا أنني قضيت هناك أجمل أسبوعين في حياتي.
زيارة بيروت هذا الصيف مع أعز صديقاتي ذكرتني بكل ما كان وما لن يكون مرة أخرى. بكل ما امتلكته وكل ما انتُزع مني. هذه الزيارة سدَّت الفجوة ما بين ماضيّ في لبنان، وحاضري في كندا. قلبي الذي تقاسمَتْه جذوري في بلدي، والبذور التي يجب أن أزرعها في أرض غريبة، صار قلباً واحداً. تجوَّلت صديقتي في المكان الذي نشأت به، والتقت بعائلتي وأصدقائي القدامى. هذه الزيارة جعلت أهم الأشخاص في حياتي يتعرفون على بعضهم، والآن يمكنهم أن يجمعوا قطع حكاياتي مع بعضها، دون أن أضطر إلى شرح التفاصيل.
لا أعرف كم مرة أستطيع أن أقول وداعاً بعد الآن. حزن بيروت حقيقي، إنه بمثابة تذكير بكل ما هو يقين وواجب وممكن.. حزن بيروت مثل موجة لا نهاية لها من أحاسيس مختلطة لطالما حاولت ألا أشعر بها. حزن بيروت مباغت، وبمجرد أن يبدأ لا ينتهي. لكنه دائماً يرشدني إلى حيث بدأ كل شيء، إلى ذاك التل الصغير في الرويسات، في مسقط رأسي، بيت مري.