لماذا نحبّ دروم تابيرنا؟ 

مصعب النميري

صحفي وكاتب سوري مقيم في كندا، له ديوان مطبوع وكتب عدداً من المقالات في عدة صحف ومواقع عربية.

في عام 2019 وصلتُ إلى كندا كلاجئ سوري، قادماً من تركيا، التي كنت فيها لاجئاً أيضاً لمدة 5 سنوات. 

قبل تركيا كنتُ في دبي لمدة 4 أعوام. وقبل هذا كله كنتُ في سوريا منذ ولدت إلى حين صار عمري 20 عاماً. قضيتُ الأعوام العشرة السابقة من حياتي، مثل كثير من السوريين وسواهم من اللاجئين، منتقلاً من بلد إلى آخر بحثاً عن شروط حياة آمنة نسبياً. في كل البلدان التي مررتُ بها قبل وصولي إلى كندا كان ثمة لحظات من القلق والتوتر والعيش على الأعصاب، ولحظات أخرى من البهجة والجنون كنا قادرين على خلقها رغم القلق الوجودي الذي يسببه غموض المستقبل في تلك الأماكن. 

هناك ما يربط معظم لحظات البهجة في الماضي، التي تعود وميضاً إلى الذاكرة كلما أغلق المرء عينيه. الشرط الرئيس لخلق هذه اللحظات كان المكان القادر على جمع الناس بعد يوم عمل طويل. معظم هذه الأماكن التي تخلّدت في ذاكرتنا هي الأماكن التي كانت تُقرع فيها الكؤوس ويتصاعد فيها الصخب والغناء إلى ما بعد منتصف الليل، ويخرج منها الناس إلى بيوتهم وهم يترنحون. فإذا تحدثتُ عن دمشق مثلاً، أراني أتحدث عن القصبجي ونينار، وإذا تحدثت عن اسطنبول، أبدأ الحديث وأنهيه بتانيا وشعرجي وميحانة ظاظا. أماكن السهر والسمر هي الأكثر حضوراً في ذكرى المدن السالفة. ويمكن القول إن المدن التي يعبرها الإنسان القلق تتضاءل في الذاكرة لتصبح باراً أو مطعماً أو بيتاً يكتظ بالناس المخمورين.

هذا ما أفكر فيه حين نكون في دروم تابيرنا، البار الذي نقضي فيه معظم أوقاتنا في نهاية الأسبوع في مدينة تورنتو، والذي يتحول بسرعة إلى أحد معالم المدينة رغم حداثة تأسيسه. يقع دروم تابيرنا على تقاطع شارع كوين ويست وأوغسطا، جنوب منطقة كنسنغتن ماركت التي تعد من أكثر المناطق حيوية في المدينة. شارع أوغسطا، الممتد بين شارعي كوين جنوباً، وكوليج شمالاً، ينشط فيه الفنانون ومغنو الشارع، وتزدحم باراته ومطاعمه ومقاهيه بالطبقات الاجتماعية الوسطى والأدنى منها. في هذا المكان يُمكن معاينة وجه آخر لمدينة تورنتو، التي تُعد من أكبر المدن الرأسمالية والغنية في العالم، إذ لا بد للمار في هذا الشارع سماع صيحات وشعارات ومظاهر مُتمردة على النظام وداعية إلى العدالة والمساواة فيه. 

لا تفتقر مدينة تورنتو إلى أماكن الترفيه والسهر، ففيها الكثير من البارات والمطاعم والمقاهي، إلا أن ما يميز دروم تابيرنا فيها هو أنه أحد الأماكن القليلة في هذه المدينة التي يشعر فيها الإنسان العادي بالراحة والألفة. فمدينة تورنتو تمتلك الثقل الاقتصادي الأكبر بين المدن الكندية، وهي قادرة على توليد الكثير من الابتسامات الزائفة واللطف الكاذب، بحكم أنها مدينة رأسمالية، تروج فيها شعارات الليبرالية الداعية إلى العدالة والشمول والتنوع، إلا أن الرجل الأبيض الثري يحكمها من وراء الكواليس، وهي مهووسة بتحقيق الأرباح وتتحدد فيها قيمة الإنسان بما يملكه.

 في دروم تابيرنا، كل هذه المعادلات السائدة في المدينة تتخلخل وتتداعى أمام التنوع الحقيقي الذي يميز روّاده. هذا التنوع ليس زائفاً أو ادعائياً، فليس ثمة ثقافة مهيمنة على الأخرى في المشهد. وبإمكانك أن تجد بين الحضور جامع القوارير الفارغة وصاحب الكرايزلر جنباً إلى جنب يتمايلون على أنغام الموسيقى.  

دروم تابيرنا هو بار ومطعم شرق أوروبي، يعكس ثقافة الرومان الغجر على وجه التحديد، ويقيم عروضاً موسيقية حية لفنانين من كافة الأعراق والثقافات: من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وإفريقيا. يقول القائمون على دروم إنه “تكريم صادق للأماكن التي أتينا منها أو سافرنا إليها أو لم نذهب إليها مُطلقاً. الأراضي التي تمتد من بحر البلطيق إلى البلقان إلى البحر الأسود.. نحاول إيجاد المجتمع في الغربة وخلق الفرح في مواجهة الشدائد”. 

تكمن استثنائية العروض الموسيقية التي يحييها دروم تابيرنا من كونها تقدم أنماطاً موسيقية جديدة ومختلفة عن السائد في المدينة. إلا أن معظمها يقدم موسيقى الروك أو الكاونتري التقليدية. يحاول دروم عبر طرح هذا التكاتف والتواصل بين الثقافات إلى عكس غنى التجربة البشرية، الشغوفة بالغناء والفرح، في مكان يدفع سكانه الحياة فيه. فإذا دفعتك المدينة إلى التكلّف والتوتر والبرد والإحساس بالغربة، يوفر لك هذا الركن من المدينة البساطة والعفوية والدفء والألفة، ليكون بذلك مشروع ثورة على جلافة مدن الشمال التي تؤخذ فيها جميع الأمور على محمل الجد، وتثقل كاهل سكانها بالأوراق والمواعيد والديدلانات والإيميلات المذيلة بالتحية الطيبة بعد التوبيخ. 

يقول تانغي ليون، المسؤول عن تنسيق البرامج الموسيقية في المكان، إن المهم بالنسبة لدروم لدى اختيار الموسيقيين هو تنوع الأنماط الموسيقية وروح الموسيقيين والطاقة الإيجابية التي يمتلكونها: “نريد للموسيقيين والزبائن أن يكونوا على الصفحة ذاتها، من الطباخين إلى الموسيقيين إلى الزبائن. ليس هناك مكان للعجرفة والغرور والتمييز. نعمل في دروم على خلق مساحة للتواصل والتعارف يستطيع الرواد فيها الشعور بالراحة، ليكون بذلك هذا المكان الركن الدافئ في المدينة، القادر على شحن الناس وإعادة الطاقة إلى عروقهم”.

رفضت إدارة المكان فكرة إقامة النشاطات الموسيقية في مساحتها الداخلية المغلقة، لأن ذلك يقتضي حجز تذاكر، بسبب محدودية العدد. يقول تانغي إن رفض هذه الفكرة كان سببه عدم رغبة الإدارة في توفير الموسيقى للقادرين على دفع ثمن التذاكر فقط: “نحن نريد توفير الموسيقى للجميع، لا للأثرياء فقط”، منوهاً بذلك إلى الرؤية الثقافية السياسية التي يقوم عليها جوهر المكان.

يدعو تانغي زوار دروم إلى دعم الفنانين، لأنهم مروا بأوقات صعبة في الجائحة لم يستطيعوا فيها العمل والإنتاج. يشير إلى انعزال الفنانين عن العالم لهذه المدة الطويلة أدى إلى أذيتهم، وهم يحتاجون إلى الدعم المادي والمعنوي: “أظن أنه من المهم دعم جميع المشاريع الصغيرة وجميع الفنانين، لا دروم تابيرنا فقط. فنحن جزء من هذا المجتمع الذي يمر بأزمة اقتصادية واجتماعية ونفسية كبيرة، ونحتاج إلى دعم بعضنا لنتعافى ونستمر”. 

عيون مخمورة تشع في الظلام 

ميشا هو أحد مؤسسي دروم تابرينا، يعرفه كثيرون من خطاباته الرنانة التي يلقيها على رواد المكان. يجدد ميشا طاقة الناس حين يعتلي كرسياً وسط الحشود المخمورة، مثل الاسكندر المقدوني، ويلقي عليهم خطاباً تاريخياً هول أهمية دعم الفنانين الذي يحيون الليلة مُعلناً عن تقديم أقداح مجانية من الفودكا إلى الجموع التي تلتهب عيونها حماساً من شعرية المشهد.

يقول ميشا في حديث لمنصة حِنّا إن دروم تابيرنا لم يتأسس بين ليلة وضحاها، إذ كان نتيجة عدة نشاطات وحفلات متتالية أدت إلى تأسيسه في نهاية المطاف. كان أحد المؤسسين يسافر كثيراً إلى أوروبا الشرقية وكان موجوداً في برلين لدى سقوط جدارها، وعاين التغيير الذي طرأ على ثقافة الناس ورغبتهم في التحرر، وحاول نقل ذلك إلى كندا. إضافة إلى ذلك، كان ثمة رغبة في خلق مكان في تورنتو له هوية خاصة ومميزة ويستطيع رواده أن يكونوا على طبيعتهم ويحظوا بوقت استثنائي عن السائد في المدينة.

يرى ميشا أن كثيرين في تورنتو قد يرون أن المال هو الهدف والقيمة الأساسية لأي مشروع تجاري، والحال ليس هكذا في لدى العاملين في دروم: “القيمة الحقيقة لدينا هي في إمكانية جميع الناس وخلق اللحظات الجميلة، وذلك عبر دفعهم ليكونوا على طبيعتهم في هذه المدينة الرأسمالية العملية، القادرة في الغالب على تجريدك من البهجة. لا نريد أكثر من التمكن من دفع الفواتير وتوفير الطعام الكافي والاحتفال بالحياة، ولا يهدف أي منا إلى امتلاك سيارات أو شقق فارهة”.

كانت الجائحة قاسية على كل المشاريع الصغيرة. اضطر الكثير من المشاريع التجارية في مدينة تورنتو إلى الإغلاق أو التعثر المادي والصمود بصعوبة في ظل إجراءات الحظر. بيد أن دروم تابيرنا كان من الأماكن التي استطاعت القتال والاستمرار. أغلق المساحة الداخلية التي كان يقيم فيها نشاطاته وحفلاته، وبدأ بخدمة توصيل منتجاته إلى الزبائن. مع قدوم فصل الصيف، بدأ البار بإحياء الحفلات على الرصيف في الهواء الطلق، بعد أن سمحت المدينة بذلك. ثلاث موجات من الجائحة كانت قاسمة للظهر في مكان بارد مثل تورنتو لا يمكن إقامة نشاطات في شتائه القاسي إلا في الأماكن المغلقة. تعود البهجة إلى وجوه العاملين في دروم مع عودة الناس وامتلاء الأرصفة والطاولات بالزوار. من يأتي أولاً يجلس أولاً، هذه هي القاعدة الجديدة للمكان. كوين ويست وأوغسطا، هذا هو عنوانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى