كوفيّات الشتات المرفوعة عالياً
الفن في مواجهة حدود الدول وأنظمة الإبادة
فريق حنّا
خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية، شهد النسيج الاجتماعي في العديد من بلدان الشرق الأوسط حالة من التفتت والتشظي نتيجة موجات اللجوء والهجرة الواسعة. الكثير من العائلات والمعارف والمجتمعات اضطرت إلى الافتراق القسري وتوزع أفرادها بين بلدان مختلفة لا يعرفون فيها كيف ومتى سيلتقون. أصبح الفراق وامتناع القدرة على اللقاء ثيمة في قواميس موجات الشتات الجديدة ودخل في اللغة والوعي كتحصيل حاصل وواقع حال. صارت الشاشات بين الناس وسيلة التواصل الوحيدة في مواجهة الحدود المغلقة، في حين تتشكّل وترتسم معالم الحياة الحقيقية في سياقات منفصلة ومتباعدة.
بُني العالم الحديث الذي نعيش فيه اليوم على أساسين متضاربين: الأول هو العولمة، حيث تسافر المعلومات والبضائع وتتشابك وتتشابه أنماط الحياة بشكل غير مسبوق تاريخياً، والثاني هو الدولة القومية التي تتحكم بالحركة وتؤطرها وتمارس سيادتها عليها عبر الوثائق التي تعرّف بها مواطنيها وتميز بينهم وبين بقية البشر. لا تميز الدولة القومية اليوم بين مواطنيها وبقية البشر فقط، إنما تضع معايير تميّز فيها بين المواطنين الأجانب، فتقدم للبعض تسهيلات وتحرم سواهم منها. التمييز بين البشر وغربلتهم على أساس انتمائهم هو في صميم سياسات الهجرة في عالم اليوم. يقول باولو كاتيتا إن سياسات الهجرة الجديدة تتميز بتزايد الفروق بين المواطنين الأجانب في أنظمة منح التأشيرة، مشيراً إلى أن هدف هذه السياسات هو وضع الناس في فئات مختلفة تسهّل فرز “غير المرغوب بهم” ومن يُعتبرون “مصدر تهديد” بناء على هويتهم الأم.
يعاني الكثير من أبناء وبنات البلاد المنكوبة بالحروب والديكتاتوريات من كونهم يقعون كهدف أساسي للسياسات التمييزية التي تنظر إليهم بعين الشك والخشية وتفرض عليهم/نّ قيوداً تؤثر على تنقلهم بسبب الوثائق التي يحملونها. بدل أن يكون السفر ملاذاً ووسيلة للترفيه، يصبح عبئاً وكابوساً بسبب أكداس الأوراق التي عليهم/ن ملؤها، وبسبب الاحتمال العالي لرفض طلبات التأشيرات والإقامات. تتباين الأوراق التي تحكم حياة هؤلاء اللاجئين/ات حسب البلدان التي يقيمون فيها. على سبيل المثال، اللاجئون في دول مثل لبنان وتركيا يعانون من كون الأوراق التي يحملونها تشل قدرتهم على التحرك والسفر (حتى التنقل الداخلي ضمن المدن في تركيا). المحدودية في القدرة على التنقل لا تعد بالتغير لأن هذه الدول لا تقدم لهم مع الوقت أوراقاً تمكنهم من السفر والتنقل لرؤية ذويهم في بلاد أو مدن أخرى.
الآخرون الذين استطاعوا الوصول إلى بلدان تعترف بحق اللجوء حصلوا على وثائق سفر تُعطى على أساس اتفاقية جنيف 1951 وتسهل على حاملها التنقل، ولكن ليس بشكل مطلق. على سبيل المثال، لا يستطيع حامل وثيقة سفر اللاجئ دخول لبنان أو الإمارات أو السعودية أو تركيا دون تأشيرة، رغم أن هذه البلدان تعيش فيها عائلات الكثير من هؤلاء اللاجئين/ات. ورغم أن اللاجئين/ات حاملي وثيقة السفر الكندية يستطيعون دخول دول مثل ألمانيا دون فيزا، إلا أن اللاجئ في ألمانيا لا يستطيع دخول كندا في المقابل.
تتميز التشريعات والقوانين الضابطة لوثائق سفر اللاجئين بالغموض والاعتباطية أحياناً وتفرض على حامليها فترة انتظار يضطرون فيها إلى اقتصار تنقلهم على الحيز الجغرافي المتاح لهم. الفنانون/ات يعانون معاناة خاصة في هذا السياق، بسبب اعتماد دخلهم بشكل أساسي على السفر إلى بلاد مختلفة لإقامة عروض موسيقية وفنية فيها. الفنان يوسف كيخيا مثلاً يحمل وثيفة سفر اللاجئ في ألمانيا منذ أعوام. هذه الوثيقة تحدّ قدرته على الحركة لأنها لا تتيح له دخول كثير من الدول الحيوية التي تضم مستمعيه أو التي تقام فيها الفعاليات الفنية.
يقول كيخيا في حديث إلى منصة حنّا إن إنتاجه الفني والموسيقي تأثر للغاية بالأوراق التي يحملها فهو يضطر إلى تفويت الكثير من الفرص لأنه لا يستطيع السفر إلى المهرجانات، مشيراً إلى أن وثائق السفر التي يحملها هي أول ما يتم سؤاله عنها من قبل منظمي الفعاليات الفنية في البلدان الأخرى. كيخيا حاله كحال الكثير من الفنانين واللاجئين الذين يحملون هذه الأوراق، معبّراً عن تعبه من المحاولة والفشل: “خلال عام واحد فقط، دعيت إلى الإمارات وكندا ولندن ولم أستطع الذهاب بسبب أوراقي، أو بسبب عدم رغبة المنظمين في المحاولة المضنية”.
بسبب أهمية الفن والفعاليات الثقافية في استمرار تواصل المجتمعات الشتاتية، يعمل كل من مرسم كندا ومنصة حنّا منذ تأسيسهما على استقطاب الفنانين/ات وتنظيم الفعاليات الثقافية في كندا. صعوبات الحصول على فيزا إلى كندا هي في طليعة التحديات التي تواجه هاتين المنظمتين في تنظيم الفعاليات الفنية التي تقتضي استقدام الفنانين/ات من الخارج. على سبيل المثال، طالت مدة انتظار أمين خاير (الموسيقي في فرقة شكون) للفيزا الكندية لتصل إلى أكثر من عامين. هذا الانتظار الطويل للحصول على الفيزا يصعّب على المنظمين كل الإجراءات الأخرى، كحجز المسارح وتأمين السكن والإقامات والإعلان عن النشاطات.
يشير ناجي رزق (أحد مؤسسي مرسم كندا) في حديث مع منصة حنّا إلى أن “أكبر الصعوبات التي تواجههم في تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية هي تأمين الحصول على فيزا للفنانين من الوطن العربي أو حاملي وثائق اللجوء في أوروبا. مدة الانتظار للحصول على هذه الفيزا تطول كثيراً، وقد تجاوزت العامين في حالة شكون”. إضافة إلى صعوبات الفيزا، يشير ناجي إلى أن “تكاليف الإنتاج في كندا مرتفعة للغاية، مثل تذاكر السفر وإقامة الفنانين وتكاليف المسارح.. السفر إلى هذه الضفة من العالم يضاعف تكاليف الإنتاج مقارنة بأوروبا، بالتالي نضطر كمنظمين إلى رفع سعر التذاكر أحياناً لتغطية التكاليف”. فرقة شكون ستكون في جولة حافلة في كندا. هذه الجولة هي من تنظيم منصّة حنا ومرسم كندا، وستتضمن تورنتو ومونتريال وفانكوفر في مايو/أيار القادم. التفاصيل في هذا الرابط.
على ضوء الحدود والتحديات في الاتصال والتنقل، يصبح الشتات شتاتات متباعدة ومتفرقة تعيش في سياقات مختلفة تبعدها عن بعضها وتشدها بعيداً عن سياقها العام. يضطر اللاجئون والمهاجرون، في غمرة محاولاتهم للتأقلم والنجاة في البلدان الجديدة، إلى الابتعاد ومتابعة ما يجري في بلدانهم شتاتاتهم الأخرى. يبتعدون بذلك عن “الشأن العام”، مركزين على نجاتهم الفردية وتعافيهم. يلعب الفنانون/ات دوراً هاماً في هذا الواقع ويتحدّونه لأنهم، أولاً، يعكسون الحال الذي تعيشه هذه المجتمعات الشتاتية، وثانياً، لأنهم يساهمون في التقاء أفرادها بشكل شخصي خلال الحفلات التي تمثل عُقداً اجتماعية، أو عبر التواصل العاطفي الأثيري غير المادي من خلال الاستماع إلى المحتوى الفني ذاته والتأثر به.
بعد الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة منذ السابع من أوكتوبر، تعززت لدى معظم المجتمعات الشتاتية العربية الرغبة العميقة في العودة إلى الذات والهوية والتأكيد عليها دون اعتذارية في الأوساط الخاصة والعامة. منذ ذلك الحين، تعمل الفنون بكافة أنواعها كجسور ومنصات لممارسة المقاومة. تجاوزت المسارح والمقاهي دورها كأماكن للترفيه، وأصبحت ميادين للتعبير عن الذات والرد الصاخب على محاولة المحو. لقد تمكنت غزة بذلك من إبطال المقولة التي تشير إلى أنه يمكن الفصل بين الفن والسياسة والوجود.