كندا خارج حدود “السياحة الثقافية”

 

جوني الحاج 

مسرحي، وكوميدي، وناشط لبناني مقيم في مونتريال. مختصّ في التواصل الاستراتيجي للمشاريع الرياديّة وفي تنمية مجتمعات مستدامة أحد مؤسسي “أبجد هوّز” (تجمّع من الفنانين العرب والناشطين في المجال الثقافي في مونتريال)، صاحب مدونة إحتراماتنا.  

سررت قبل أيام حين أبحرت في موقع “حنّا”. هذه المدوّنة التي تم إطلاقها باللّغة العربيّة من قبل ناشطات وناشطين ناطقين بالعربية في كندا، والتي تشارك مع القارئ مقالات تعالج مواضيع اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة.

سرحت في الأفكار والمواضيع الّتي لطالما كنت أفكّر فيها منذ لحظة تغرّبي من بلدي الأم، لبنان، إلى هذه البلاد، ولكن لم أجد المساحات الملائمة لمناقشتها مع المجتمع الجديد. المجتمع العربي في المدينة التي أعيش فيها تطغى عليه فكرة الاندماج بمفهومها الكيبيكوازيّ؛ حيث تقتصر النشاطات الثقافيّة والاجتماعيّة للجاليات العربيّة على الأحاديث الشكليّة والتجمعات المهرجانيّة، فتبقى محدودة بـ”السياحة الثقافيّة”، وفارغة من أيّ أبعاد أو تحليلات نقديّة. تكون نتيجة ذلك هي وجود أفراد مجتمع متشتّتين ومتباعدين، يعيش كلّ منهم في “غيتوهات” ثقافيّة استهلاكيّة، لا تلتقي إلا بمناسبات قليلة غير هادفة لأيّ مشروع جماعي تضامني. 

سررت اليوم بولادة هذه المبادرة المميّزة، لأنها تخلق فينا راحة نفسيّة، تنبع من وجود منبر باللغة العربيّة، “يُشبهنا” ويتيح لنا أن نعتمد عليه ليعبّر عن آراء المغترب أو اللاجئ العربي المتحرّر باختلافاتها. نحن بحاجة ماسة لمساحة كهذه.

نحن بحاجة إلى تحليل نقدي لتجاربنا من مواقعنا كمغتربين أو مهاجرين أو لاجئين، والتي بالرغم من تعددّها واختلافها، وهي تختلف بقدر اختلاف التجارب الفردية، إلا أنها تجمعنا سواسيّةً في قاربٍ واحد، نحن الناطقين بالعربية والمقيمين في كندا.

نحن بحاجة أيضاً إلى التعبير عن التحجيم المعرفي الّذي نتعرضّ له من قبل المجتمع الكندي الذي يقدّس الخبرة الكنديّة ويمحي كلّ أنواع الإدراك النابعة من خارج أميركا الشماليّة وأوروبّا الغربيّة، والّتي نأتي بها إلى هذه البلاد من بلدان العالم الثالث. يجب أن نتشارك الآراء ووجهات النظر حيال واقع هذه البلاد. الآراء النابعة من وعي مختلف عن ذاك السائد والمهيمن في المجتمع الغربي، يختلف بتقاطعه بين إدراكنا المكتسب من حياواتنا السابقة في الشرق، ويتقاطع مع إدراكنا المكتسب مما نعيشه حالياً في الغرب.

إضافة إلى ذلك، نحن بحاجة لتفكيك الصور النمطيّة عن كندا، والصور النمطيّة عن المجتمع العربي في كندا. فبحال أردنا أن نكون منصفين في الوصف ليعبّر عن حقيقة مجتمعنا، يجب علينا تفكيك الصورة النمطيّة لوجود “مجتمع عربي واحد” في كندا، والعمل على تشارك صور مختلفة تصوِّر تعددّ المجتمعات العربيّة المتواجدة بنسيجها الكندي.

حاجتنا ماسة إلى مساحات تسمح للعربي الكندي بأن “يكون” ثريّاً وفخوراً باختلافه ولغّته، وإلى مساحات تنبض بالإبداع الصحافي والفنّي والسياسي وتتناول مواضيع نعالجها بلغتنا، ونسمّيها من منظارنا، ونُنضِجُها بحواراتنا الجماعيّة.

سررت بمشروع حِنّا، إذ حان الوقت لتحرير هذه النقاشات من سجن المناقشات الفرديّة خلف الأبواب المغلقة، وصالونات حوارات المقاهي، لنناقشها في العلن مع عامّة المجتمع العربي الكندي، فنكتب سرديّات جديدة عن واقعنا. 

حان الوقت برأيي لنكون اليوم في “حنّا” ، كما في “أبجد هوّز” (المبادرة الشقيقة الّتي أطلقناها كفنّانات وفنّانين من أصل عربي في مونتريال منذ عامين تقريباً، والّتي تهدف لخلق مساحات للطاقات العربيّة الكنديّة والعربيّة الزائرة لنعبّر فيها عن ذاتنا ووجودنا وآراءنا دون حواجز أو قيود). في مبادرة أبجد هوّز فتحنا المايك في مونتريال بشكل شهري لنعبّر على راحتنا وبلغّتنا في “افتحوا المايك”. ورقصنا على موسيقى وأنغام عربيّة من المشرق العربي إلى المغرب العربي بقلوب مفتوحة في “حرام بارتي”. ضحكنا مع الكوميديين على مواقف يتشارك فيها المجتمع الكندي العربي في حلقات ستاند أب كوميدي بالعربي “منشر غسيل”، واحتفلنا مع “بقلاوة” بالمواهب الصوتيّة والموسيقيّة الصاعدة في عرض غنائي مسرحي تشاركي، واستقبلنا فرقة أرنبيط الموسيقيّة الصاعدة من لبنان، وجلنا معها في ثلاث حفلات حميمة بين مونتريال واوتاوا وتورونتو.

نحن بحاجة لأن نلتقي مع الطاقات والمواهب المهاجرة من الأوطان العربيّة والّتي اتخذت من كندا ملجأً لها. هناك بحر من الطاقات في هذه البقعة من الأرض، تبحث عن مساحة “لتكون” دون قيود. تبحث عن فرصة لتكتشف وتشارك معرفتها وخبراتها وكفاءاتها ومواهبها وقدراتها مع المجتمع الكندي. لقد اعتدنا في وجودنا هنا على الاندماج في المجتمع وأخذ الإرشادات والتوجيهات والنصائح تجاه العادات والتقاليد السائدة. لكن أعتقد أن الوقت حان للمجتمع العربي الكندي المتحرّر الّذي يتشارك القيم والقضايا بأن يظهر أكثر في الحياة الثقافيّة العامة. ليتعارف ويتعاون ويعمل، ويتشارك مع المجتمع الكندي المعرفة والتطلعات، كي يكون قادراً على التأثير. 

هناك حركة ثقافيّة تقدمية غنيّة منتشرة في كندا، موجودة و”مستحيّة” وهامدة. لقد حان الوقت لأن تظهر وتزدهر وتكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى