قدمٌ نازفة على الرصيف

الفقر وأزمة السكن والرعب في تورنتو

أماني الشيخ

كاتبة وصحفية سورية مقيمة حالياً في كندا. كتبت في عدة مواقع عربية بينها رصيف 22، ومهتمة بقضايا الجندر والعدالة الاجتماعية.

أحدِّق ببقعة حمراء على الرصيف جانب المبنى الذي أعيش فيه. 15 ثانية من الدهشة الأولى قبل أن أدرك أنها آثار دماء على شكل قدم إنسان. تتوالى البقع والصدفة تجعل من طريقي مطابقاً لطريق الأثر، حتى نضيع كلانا، القدم الجريحة وأنا، في زحام مهيب. هذه ليست واحدة من الحكايا التي أحملها من البلاد، هذه تورنتو.  

حب وغضب

انتقلت إلى تورنتو في أكتوبر 2020 من مدينة ووترلو التي عشت فيها حوالي أربعة أعوام. بدأت رحلتي في كندا من مدينة مونتريال إذ عشت فيها نحو عام ونصف قبل أن أنتقل إلى مقاطعة أونتاريو حيث تعيش عائلتي. كانت مونتريال باردة جداً، وما زادها تعلم الفرنسية إلا قسوة. مع ذلك، كان الانتقال من مدينة كبيرة ومركز حيوي، بمثابة صدمة ثقافية أخرى. كشخص يعمل في مجالات الكتابة والترجمة، بمهارات غير عابرة للقارات إلا إذا تم العمل عليها وتطويرها لتناسب المجتمع الجديد. أطبقت المدينة الصغيرة على قلبي وعلى كثير من الفرص التي لا يمكن الحصول عليها إلا في مدن كبيرة ومتنوعة وفي مراكز ثقافية وحيوية. المشكلة أن هذه المراكز باهظة الثمن، غالية جداً لدرجة أنك ستغرق حتى أذنيك بأجرة بيتك والفواتير التي تنبع من نهر الحياة الجارف. 

عندما جاءت الفرصة وانتقلت من عملي في ووترلو إلى تورنتو ضمن الشركة التي أعمل بها، كان الوقت قد حان ولمست استعدادي الداخلي لأن أعيش في مدينة كبيرة مجدداً وأنهل منها روحاً جديدة. ليست أي مدينة. تورنتو الرائعة، حيث الحب والحرية والمراكب الشراعية على طول الكورنيش في الصيف. تورنتو دروم تابيرنا، وبامينار، وتشيري بيتش ومنحدر ترينيتي بارك حيث تغيب الشمس على وقع ضحكات الأصدقاء. نراقبها ونشرب البيرة، نشكر الأقدار على نعمة الصيف والشمس والعشب الأخضر في تورنتو، ثم نشتمها على مآلاتنا والخوف المستمر والضغط اليومي والمعركة الدائمة مع النفس، ثم نشكرها مجدداً وهكذا. 

كثر من هم مثلي. شبان وشابات مهاجرون يبحثون عن الفرص بأنواعها في تورنتو. وكثر أيضاً لا يستطيعون أن يدفعوا ثمن ذلك. عندما انتقلت إلى البناية التي أعيش فيها، سعدت جداً بالسعر “المقبول” للشقة المكونة من غرفة نوم واحدة وصالون. قالت لي وكيلة التأجير، وهي صديقة تربطني بها علاقة شخصية، إن مشكلة البناية الوحيدة هي موقعها عند التقاطع المذكور، وأن الحي يقلل من رغبة الناس بالاستئجار فيه. لم أعط انتباها كاملاً وقتها لذلك. كأن ثمة نوع من الثقة بأنه لا يوجد أفظع مما عشناه في بلادنا فلا أبالي بشكل الحي. 

عشر دقائق من المشي تفصل دنداس سكوير، قلب مدينة تورنتو المكتظة، عن تقاطع شارعي دانداس وشيربورن الواقع إلى شرق مركز المدينة. نحو 1 كم فقط بين اللوائح الإعلانية العملاقة والأبنية الشاهقة من جهة الأضواء، والبأس بأنواعه من جهة أخرى.

على التقاطع المذكور، يجتمع المشردون، ومدمنو المخدرات يسامرون تجارها، وذوو الإعاقات ممن لم يجدوا رعاية كافية فقضوا إلى المنطقة بشكل أو بآخر. ولا يمكن أن نعدد رواد الحي دون ذكر المراهقين. صبايا وشباب وآخرون في نهاية المراهقة، ثياب رثة إنما كانت يوماً جيدة، كأن وقتاً طويلاً لم يمض منذ أن غادروا بيوتهم الدافئة. يترنحون تارة ويجمدون ساعات بعد حبة مخدر -الله أعلم مم تتكون- حصلوا عليها من الحي نفسه. باختصار، وتحديداً على المسافة بين تقاطعي شيربورن ودنداس، وشيربورن وكوين، وهي مسافة قصيرة جداً، يجتمع المسحوقون من المشردين والمهجرين والنساء المعنفات تحت أقدام قطيع من الفيلة، أولها النظام الرأسمالي، والأبوي، وليس آخرها تفوق “الرجل الأبيض”.

مسافة لا تتجاوز الخمسمائة متراً، يقع عليها ملجآن من أكبر مراكز استقبال المشردين في المدينة، ويثير ذلك التعجب حول ما إن كان ذلك مقصوداً في مخطط البلدية/الحكومة الاستراتيجي أن يتم حصر مظاهر التشرد والتسول في مناطق محددة، كالمنطقة المذكورة، فتبنى الملاجئ قريبة من بعضها. قد تكون هذه النظرية غير دقيقة إذ يقول الموقع الرسمي لمدينة تورنتو إن المدينة (البلدية) تتبنى 53 ملجأً تديرها منظمات المجتمع المدني المختلفة، كما تدير 10 أخرى بشكل مباشر، وتتوزع الملاجئ بشكل متوازن عمرانياً. إلا أن الحديث عن حصر مظاهر التسول في أجزاء محددة من المدينة هو حاضر دائماً. يضاف إلى ذلك تردٍّ في الملاجئ التي تقدم الخدمات للمشردين، وعنصريتها والرهاب ضد المثلية والتحول الجنسي والتمييز ضد ذوي الإعاقات الذي يسود فيها أحياناً. 

يمكن للشخص أن يشهد كل شيء هنا. حرفياً كل شيء، كأن ترى رجلاً ثلاثينياً يحمل إشارة توقف (كاملة) قد نزعها من الطريق وبدأ يلوح بها يميناً وشمالاً. لم يقصد “المسيح المشرد” كما سميته -لطول شعره الأشقر وعمق الأسى في ملامحه- أن يؤذي أحداً إلا أنه كان غائباً كلياً. 

ذاكرة الرعب في ريجن بارك 

ما يضمن امتداد المشهد، أن منطقة أخرى إلى شرق الحي المذكور تعرف بـ”ريجن بارك”  تم الاتفاق على تهجير سكانها وتغييرها ديموغرافياً وعمرانياً بما يعرف بعمليات التحسين أو ”الجينتريفيكيشن“. هي محاولة “تحسين” منطقة قديمة أو فقيرة بإدخال سكان جدد عليها من طبقات اجتماعية أغنى، ومن المفترض أن مشاريع الإعمار والعمل الضخمة التي تقام ستنعش المنطقة. المشكلة، أن هذه العمليات معقدة جداً، وغير عادلة في معظم الأحيان، وتطمس خاصيات ثقافية وحضارية في المدينة. 

يبدو أننا نقضي عمرنا في تفكيك وفهم الأنظمة السائدة وكيف تتشابه الحكومات في العالم بموارد وميديا وأشكال مختلفة. 

يعتبر مشروع ريجن بارك الذي يقع في تورنتو القديمة، من أقدم المشاريع السكنية الحكومية في كندا وأضخمها إذ بدأ العمل عليه عام 1949. وكانت منطقة خضراء يسكنها مهاجرون إيرلينديون وبريطانيون فقط ممن عمروا بيوتاً سكنية خاصة. فكرت الحكومة وقتها أن تكون هذه المشاريع لأبناء الطبقة العاملة، وبأسعار مقبولة. ساهمت نهاية الحرب العالمية وموجات الهجرات المتزايدة صوب كندا إلى تغييرات ديموغرافية في ريجن بارك وزيادة عدد المهاجرين في المنطقة. ولأن المنطقة معزولة نسبياً عن المدينة، خاصة وأن المشاريع السكنية الأولى كان لها سور واحد بحيث يميز أهل المنطقة بعضهم وكأنها قرية صغيرة ضمن المدينة التي لم يكن لباقي سكانها طريق للاختلاط بأهل ريجن بارك، الأمر الذي زاد انعزالها خصوصاً مع تزايد أعداد المهاجرين من جميع أنحاء العالم وخاصة من جنوب آسيا ودول أفريقيّة محددة كالصومال. تدريجياً ومع مرور الوقت، زاد فقر المنطقة وقلة الاهتمام بالتعليم فيها بسبب انعزالها، إلى أن تحولت رويداً إلى “غيتو” من أكثر المناطق شهرةً ورعباً. انتشرت الجريمة وارتفعت معدلاتها، فضلاً عن  التشرد، والخصخصة الثقافية لوجه المنطقة في الميديا المحلية والشائعات بين الناس. بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي حتى عام  2010 تقريباً، لا يجرؤ غريب ليس ابن ريجن بارك أن يدخلها بعد الساعة السابعة مساء، مترافقة تلك الفترات مع مئات القصص عن الخطف والقتل وتجارة المخدرات. قررت الحكومة التدخل مجدداً، وقامت بإخلاء المشاريع السكنية التي أصبحت موطناً للمهاجرين، وبدأت العمل مجدداً على “تحسين” ريجن بارك. قدمت تعويضات للمتضررين قدر المستطاع بإعطائهم مساكن في أحياء قريبة أخرى أو غيرها، إلا أن هؤلاء وخصوصاً من الأجيال الشابة لم ينجوا جميعاً من هذا التهجير القاسي، وقضى جزء غير قليل منهم إلى الشوارع. 

في الفترة التي قدمت فيها إلى تورنتو، كان كوفيد في أوج بدايته والكثير من الخدمات والأعمال تحولت إلى أونلاين، مما دفع الكثيرين إلى الخروج من تورنتو لتوفير شيء من إيجار أو أقساط بيوتهم، فانخفضت أسعار العقارات بشكل كبير. الشركة المسؤولة عن البناية التي أعيش فيها، استغلت إخلاء الشقق لإجراء إصلاحات داخلية، ما أدى إلى إغلاق البلاكين لشهور طويلة منذ مارس الماضي. عندما عادت الأمور لتصبح شبه طبيعية الصيف الماضي 2021، عادت الشركة لترفع أسعار الشقق إلى الضعف تقريباً، وبدأت بالسعي لـ”تطفيش” المستأجرين الحاليين وأنا منهم. 

أدفع للسكن في هذا المنزل مبلغ 1550 دولار شهرياً. لا يمكن تأمين المبلغ هذا بسهولة، لأن تغطية تكاليف العيش في هذه المدينة تحتاج إلى الكثير من الكدّ والعمل والتوتر. هذا التوتر الذي نعيشه كقادمين إلى هذه البلاد، يُضاف إلى كل الأعباء النفسية والعاطفية الثقيلة التي نحملها معنا من بلادنا. كلّما شعرت بالتعب والإجهاد، وأوشكت على الاستسلام، أذكر القدم النازفة وأجبر نفسي على كيِّ موضع الألم. 

أن تختنق في بيتك. أن ترعبك صور الجيران النائمين على ثلج الرصيف وأن تستيقظ فزعاً من كابوس كنت فيه مكانهم. أن يقول لكِ غريب رغم كل حزنه ودون أن يتحرش بك: “أنت جميلة.. صباح الخير”. أن ترقصي في الشوارع إن شئت. أن تسلّم على أبناء حيك ثم تشيح نظرك وأنت تبكيهم. وأن تدوخ إذا ما نظرت للأعلى أو للأسفل. هذه تورنتو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى