دولاب الهامستر
آمال عبد الحي
كاتبة فلسطينية ومصممة مساحات داخلية مقيمة في كندا. ساهمت في صناعة محتوى لعدة إذاعات وصحف فلسطينية. وهي حالياً طالبة في كلية QC للتصميم.
تخيل معي أنك تقف في أحد شوارع البلدة القديمة في القدس. الساعة ١٢ ظهراً، أي في ذروة الازدحام، تقف في وسط الشارع وتتأمل ما يدور حولك: صخب السيارات. صاحب محل الشاورما يتحدث مع صاحب محل الفلافل. شاب على المحمول يتذمر من فاتورة الكهرباء. صوت الباعة: معطر يا عنب، حمرا يا فراولة، كعك.. كعك. شباب تلعب الشطرنج بالمقهى. أم تصرخ على ابنها الذي يبكي لأجل لعبة رآها على البسطة. فتاة تضحك مع صديقها. طلاب يتسابقون. أم إلياس من شرفتها تطلب كيلو كوسا من أبي محمود وتتأمل المارة كمن يشاهد مسلسلاً تركياً.
تخيل الآن أن يحدث هذا المشهد بعشر أضعاف السرعة والناس. كان هذا هو شكل الفوضى التي لازمت عقلي حين حزمت أمتعتي وهاجرت الى كندا قبل خمسة أعوام. لازمتني هذه الفوضى حتى ما عدت أراها. وبما أنني أعيش في مدينة صاخبة مثل تورونتو، فلم يكن لدي الوقت للتمهل، ولم أنجز شيئاً مثيراً للاهتمام. كان الوقت يتسرب من ثقوب انشغالي فقررت أن أكتب بقدر انزعاجي وبقدر الأيام التي تنقضي دون اختياري. كنت كفأر الهامستر: أدور في دولاب عبثي لا يتوقف.
في تلك الفترة بدأت بملاحظة تغيرات في جسدي. صرت أشعر بتوتر دائم، ألم في منطقة الرقبة والأكتاف، وعدم القدرة على التركيز لأكثر من نصف ساعة، وحالة من القرف والملل التدريجي مصحوبة بثقل لم أعد احتمله. أدركت بعد ذلك أن ثمة مشكلة علي فهمها والتعامل معها.
يصل معدل الأفكار التي تخطر في عقل الإنسان في اليوم الواحد لأكثر من ٦٢٠٠ فكرة (بحسب بحث صدر عن جامعة كوينز، كندا). أفكار الإنسان هي مجموع التجارب والمشاعر خلال سنوات الحياة حتى هذه اللحظة. وبحسب عالم الأعصاب والفيلسوف سام هاريس فإن الأفكار تعرض نفسها بشكل عشوائي، وللإنسان حرية الاختيار: أن يركّز فيها أو يتركها.
كان التأمل الواعي بالنسبة لي من أكثر الأمور المفيدة للتعامل مع عشوائية الأفكار والحد من تأثيرها على مزاج الإنسان وحالته النفسية وحتى الصحية. يساعد التأمل الواعي الإنسان على إدراك حقيقة أنه ليس أفكاره، وأن لديه القدرة على اختيار ما يفكر به. فالأفكار والمشاعر عبارة عن حلقة تؤدي إلى تصرفات يومية، ويشكل تكرارها العادة، التي بدورها تحدد مسار حياة الإنسان ومستقبله.
التأمل الواعي هو تمرين ذهني لإبطاء سباق الأفكار والتخلص من السلبية لتهدئة العقل. يجمع هذا التمرين ما بين التأمل والتركيز الكامل على اللحظة الحالية لتقبل الأفكار والمشاعر من دون جلد ذات وأحكام. فبحسب إيما سيبالا، مديرة العلوم في جامعة ستانفورد “يكون الإنسان أقل سعادة حين يسرح في أفكاره لأنه يشحن ذهنه بمشاعر سلبية، قد تكون ندماً على ما حصل في الماضي أو قلقاً من المستقبل. أما عند التركيز على ما نقوم به في هذه اللحظة حتى ولو كان بسيطاً يزداد الإحساس بالهدوء بسبب التركيز”.
الهدف من التأمل ليس مقاومة الأفكار، فهذا ضد طبيعة العقل البشري، وإنما إدراك حقيقة أنك لست أفكارك. يقول جون كباتزين، بروفيسور في كلية الطب في جامعة ماساشوستس، خلال مقابلة أجريت عن التأمل إن الإنسان “حين يلاحظ أفكاره كما هي، دون الانخراط بها أو التركيز على ماهيتها سوف تختفي في الوعي، وسيدرك المشاعر المرتبطة بهذه الأفكار، وبالتالي يمكنك تسميتها. يتحول بذلك مستوى النشاط في الدماغ من الجزء المسؤول عن الشعور إلى الجزء المسؤول عن الملاحظة، الذي بدوره يضعف هذا الشعور ويعزز القدرة على فهم أنه مجرد شعور”.
وكتب الطبيب النفسي والصحفي العلمي دانييل جولمان في مقال له عن تأثير التأمل على السلوك البشري، أن التأمل “يقلل من الوعي المتحور حول الذات، ويزيد تعاطف الشخص مع من حوله”. مضيفاً أن هذا التدريب الذهني ينعكس على نشاط المنطقة المسؤولة عن الرغبة والإدمان، إذ يقل نشاط هذه المنطقة مع ممارسة التأمل بشكل مستمر، ويُعتقد أن السبب في هذا التغيير يرتبط بنقص الإدراك المتمحور حول الذات عند الشخص الممارس للتأمل”.
ثمة عدة طرق لممارسة التأمل، كالتأمل عن طريق التنفس، أو التأمل أثناء المشي، أو تأمل الجسد. لكل من هذه الطرق طقسه وأنشطته المختلفة، ويستطيع الشخص اختيار ما يشاء منها، ولكن يجب الانتباه أن التأمل بحد ذاته قد لا يكون البديل لحل كافة الاضطرابات النفسة أو الصدمات، وإنما قد يساعد على التخفيف من آثارها، وفي حال وجود مثل هذه الصدمات أو الاضطرابات فإن زيارة الأخصائي النفسي هي أهم ما يجب فعله. تكمن أهمية هذا التأمل في أن الإنسان المعاصر، المعرض لكم كثيف من المعلومات والضغوط، يحتاج إلى ما يُعينه على التوازن والهدوء. قد يعلق بين الحين والآخر في دولاب الهامستر، لكن المهم أن يستطيع إدراك ذلك وتجاوزه.