تفكيك الصورة الرومانسية عن كندا
مراد شوكت
يمكن تفهم الإعجاب الشديد لدى البعض بالصورة الرومانسية المتداولة عن كندا، وخصوصاً ما يتعلق بقيمها الليبرالية ذائعة الصيت على مستوى العالم. ولكن، من الأفضل دوماً التفكير بكندا بصورة نقدية تتجاوز سحرها ذاك، ذلك أن كل الروايات القومية حول العالم تستحق، أولاً وقبل كل شيء، التفكيك والنقد.
يتطلب ذلك استعادة السياق التاريخي والتفكير من خلاله وبصورة معمقة في معنى أن تكون كندياً. يترتب على مثل هذه الرؤية النقدية التاريخية توضيح ماهية كندا اليوم وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل. كما يتطلب فهم دور كندا ومعاني أن تكون كندياً تفكيك وتحليل السياسة الداخلية والخارجية للدولة الكندية والأحزاب السياسية الرئيسية المهيمنة. ولكي يكون هذا الفهم نقدياً، علينا أن نقاربه من وجه نظر ضحايا هذه الدولة الذين يغيَبون عن الرواية الرومانسية المتداولة كما تغيب تناقضات الدولة الكندية، وأهمها تاريخها كدولة استيطانية- استعمارية. وهو تاريخ لا يزال يطبع حاضرها.
من المهم التفكير في مدى قيام الدولة الكندية بإعادة إنتاج ماضيها الاستيطاني الاستعماري والعنف الذي تخلله عبر ممارسات سياسية في الوقت الحاضر. أحد الأمثلة على ذلك هو تاريخ أصحاب القرار بما يتعلق بالقضية الفلسطينية وإسرائيل حيث امتنعوا دوماً عن توجيه انتقادات للدولة الإسرائيلية او التصويت لإدانة سلوكها في الأمم المتحدة، على الرغم من ميل متزايد في الرأي العام الكندي نحو ذلك.
هنالك مروحة من الخيارات النظرية والعملية لمعالجة هذه التناقضات وللإضاءة على كيف يمكن للمجتمعات المهمشة والمتأثرة بذلك التاريخ واستمراريته في السياسة الحالية أن تقوم بالتنظيم والتحشيد من أجل مقاومته، ولكي تتعافى من صدماته المتلاحقة. إن معنى أن تكون كندياً يختلف بصورة كبيرة اعتماداً على من يمتلك حق القول والتعبير. إذا كان الكنديون يعتبرون المبادئ الأخلاقية مسألة جوهرية، لأي مدى يمكن اعتبار السياسة الخارجية الكندية صائبة اخلاقياً؟ لماذا تحافظ الأحزاب السياسية الرئيسية على موقف معادٍ تجاه الحقوق الأساسية للفلسطينيين الذي يواجهون انتهاكات دولة استيطانية بشكل يومي؟
إن تجاهل معاناة ضحايا الاستيطان الاستعماري يكرس جرائم الاضطهاد والتمييز المستمرة والمتصاعدة. ويبدو هذا التجاهل، والاستمرار بنكران الحقوق الأساسية للفلسطينيين، كاستمرار للتاريخ الاستيطاني- الاستعماري وجزء من تناقضاته التي من الأفضل حلها عبر تكريس رؤية إنسانية نقدية بديلة.
يجب الإضاءة دوماً على تلك التناقضات السلوكية والسياسية الكندية والتي ترفع قيم الليبرالية والحرية من جهة، فيما تعادي منح الحقوق الأساسية لشعب كامل يعيش تحت الاحتلال أو في اللجوء. كما يجب أخذ هذه التناقضات بعين الاعتبار لدى النظر إلى الأحزاب السياسية الكندية وتقييمها. الدعوة المفتوحة للقيم الليبرالية والحقوق لمجموعات محددة بالتزامن مع تشجيع وتطبيع السياسات الإقصائية في الخارج له تبعات كبيرة على حقوق المجموعات المستهدفة وسلامتها. ولكن هل يمكن أن تطرح الدولة الكندية وأحزابها مسألة الماضي الاستعماري وما يولده اليوم من تناقض بين ليبرالية في الداخل وإقصائية في الخارج للنقاش والحل؟
يتطلب ذلك ضغوطاً وتحشيداً مدنياً. لقد تعلمت التجمعات والحركات التي تنشط على المستوى الشعبي أن الاضطهاد هو بنية متكاملة تتخلل مفاصل المؤسسات والحياة الاجتماعية وأن النضال المشترك يحمل قيمة خاصة في مقاومة كافة أشكال الاضطهاد وبشكل خاص، في السياق الكندي، ضد العنصرية. ولكن هنالك تناقضات وخلافات داخل تلك التجمعات أيضاً، فعلى سبيل المثال يتفاعل داخل التجمعات العربية الثورية نقاش حول ضرورة الدمج بين هدفين: النضال ضد الاستعمار والنضال ضد الاستبداد في الآن ذاته. تركز مجموعات مختلفة على أحد الهدفين وتتجاهل الاخر، وسيحتاج الدمج بينهما على نطاق واسع مزيد من الوقت والتجارب النضالية المشتركة. بالمقابل، تتعلم المجموعات من أصول كندية أهمية وفاعلية المجموعات الأخرى غير الكندية.
يمكن أن يشكل إعادة إنتاج السياسة الخارجية الكندية لتحترم وتدعم الحقوق الأساسية للفلسطينيين إشارة تقدم وخطوة نحو التعلم من خطيئة الماضي الاستعماري، وهي خطوة على كندا أن تقوم بها عاجلاً أم آجلاً. بهذا المعنى، دور كندا وموقفها من المسألة الفلسطينية هو جزء من معنى أن تكون كنديا اليوم ومن الصورة الحقيقة لكندا. إن مسألة التاريخ الاستعماري الاستيطاني ليست قضة تاريخية مضت وأصبحت تجريداً لا يحمل معنى فتداعياتها لا تزال حاضرة في الممارسات السياسية للدولة الكندية في الداخل والخارج.
يتطلب النضال المطابقة بين القيم والافعال وبالتالي رفض التناقضات والنفاق والمعايير المزدوجة التي تطبع العلاقة بين الرواية الرومانسية المتداولة عن كندا من جهة وماضيها الاستعماري وسياستها الخارجية من جهة أخرى. هنالك افق يمكن من خلاله ان تتخلص الهوية الكندية من الحمولة التاريخية الثقيلة ولكن ذلك يتطلب أولا القطع بشجاعة وحسم مع الماضي الاستعماري الاستيطاني.