المفكرون المعاصرون في العالم العربي 

ذاكرة استعادية لتدريس موضوع النهضة

ينس هانسن

أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في جامعة تورنتو وله مؤلفات تركز على التقاطعات بين التاريخ الحضاري والفكري والمفاهيمي. يستكشف برنامجه البحثي الشامل التشابكات الثقافية بين أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر.

هذا المقال هو المقال التقديمي لملف “النهضة العربية بعيون معاصرة”، الذي يصدر ضمن مشروع التعاون بين منصة حنا وقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. خلال هذا المشروع يقدم محررو حنا الاستشارة التحريرية لطلاب البكالوريوس والماجستير بهدف نشر مشاريع تخرجهم على موقع حنا. تقرأون في هذا الملف المقالات التالية: التعافي الثقافي بعد الهزيمة لتيموثي بوضومط، محاولات تعريف الذات في عوالم متغيرة لمصعب النميري، طه حسين وديالكتيك النهضة العربية لكوين كوين تيج-كولفر، النهضة العربية من منظور نسوي لسارة مولاي، وعن أهمية أن تكون على خطأ لشاونا مكلين. 

استقطبت النهضة العربية طلاب البكالوريوس والماجستير في صفي ”المفكرون المعاصرون في العالم العربي“ منذ أن بدأت العمل في جامعة تورونتو عام 2002. كنا ندرس خلال هذا الصف كيف تفاعل العرب مع الأحداث الهامة خلال القرنين الماضيين. لم يتم النظر كثيراً إلى النهضة خلال القرن التاسع عشر بهذه الطريقة التأويلية. لقد تم الاحتفاء بحركة رواد الفكر العربي في المدارس والجامعات العربية، ولكنها كانت تُعتبر مجرد حركة ترجمة للمعارف الأخرى مع بدء تعرفي على موضوع النهضة في بيروت في تسعينات القرن الماضي. الأوساط الأكاديمية منقسمة بخصوص موضوع النهضة: فالبعض يعتبرها سبباً لتغريب العرب على يد نخب مارست الاستشراق المبطّن على مجتمعاتها، ولكن آخرين يحتفون بها ويعتبرونها مشروعاً غير مكتمل للتحرر والتنوير. 

في أعقاب أحداث 11 سبتمبر وخلال الغزو الأمريكي لأفغانستان دعا الروائي والكاتب السياسي إلياس خوري إلى “نهضة ثالثة” في مجلة الطريق. تم اعتماد مقال خوري، المُترجم مؤخراً إلى الإنكليزية (ويس وهانسن 2018)، كنقطة انطلاق مرجعية خلال النقاشات والقراءات الأسبوعية للطلاب. أنا شخصياً أعتبر أن مرحلة النهضة تمثل نقطة ارتكاز للحداثة العربية، وقد اعتبر أحد طلابي أن النهضة ربما تحاكي صورة ملاك التاريخ التي يشير والتر بنيامين إلى أنها تعاود الظهور في أوقات الخطر.  لا شك بأن النهضة شكلّت الأساس الذي ارتكز عليه اتصال التاريخ العربي المعاصر بسياقه العالمي، وعلمت أيضاً كفلتر أرشيفي تغير فيه مسار الماضي السحيق (بأنبيائه وشعرائه وعلمائه) إلى يومنا هذا.

أنا ممتن لمحرري منصة حنا لنشر هذه المقالات الخمس للطلاب، وذلك ضمن المشروع الذي تتعاون فيه حنا مع قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. كُتبت هذه المقالات خلال الصف الأخير لي في جامعة تورنتو، التي درّستُ فيها 22 عاماً، قبل أن أعود إلى لبنان لإدارة المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت. لقد استمتعت برؤية الأثر الذي تركته المصادر المقررة في الصف على هذه المقالات الجميلة. إنهم يبرهنون على السخاء الذي تحدثت عنه إيفا سيدجويك في مقالها “القراءة الارتيابية والقراءة التعويضية“. كتاب صبا محمود سياسية التقوى ساعدهم/هنّ في تجاوز التأويلات المُرتابة: “يكون النقد أكثر قوة حين يترك الباب مفتوحاً على احتمال تغيّرنا خلال التفاعل مع وجهات نظر أخرى، وعلى احتمال أن نتعلم أشياء لم نكن نعرف عنها شيئاً قبل هذا التفاعل” (محمود 2005، 36).  

لقد استعار الطلاب نظرية المساحة الإشكالية التي اقترحها ديفد سكوت في تحليل النصوص. إذ أنهم تعلموا من سكوت ووالتر بنيامين تفادي شراك التقدم وأخذ الأسئلة التي يطرحها الحاضر على محمل الجد، إضافة إلى أنهم استحضروا إمكانيات التعافي التي تتم عبر التنظير، بحسب ما ذهبت إليه بيل هوكس: “حين تكون تجربتنا في التنظير مقترنة باكتشاف الذات والتحرر الجمعي، تغيب حينها المسافة التي تفصل التنظير عن الممارسة” (هوكس 1991،2). اكتشف الطلاب أيضاً من خلال إدوارد سعيد كيف يمكن للمثقف وما يمثّله خلق جماهير لم تكن موجودة من قبل.

خلال تدريسي لهذا الصف كان يتم البدء في الغالب بمواد معينة في المقرر. على سبيل المثال، كانت كتابات المعلم والمثقف البيروتي بطرس البستاني حاضرة على الدوام. أولى الدعوات إلى النهضة والحاجة لها ذُكرت في محاضرة له عام 1849 حول تعليم المرأة : “الهدف من هذه الرسالة هو إنهاض عزم المرأة لطلب المعرفة حتى تتم معاملتها بكرامة.. وأيضاً ربما حشد الرجال للهدف ذاته”. من جهته، دعا المثقف الرحالة والفيلسوف المناوش أحمد فارس الشدياق (1888) إلى شيء مشابه لطرح البستاني، حيث قال إنه “ليس ثمة نهضة دون مشاركة المرأة”. في هذا العدد الخاص، تستكشف سارة مولاي كيف استطاعت واحدة من رائدات النهضة، وهي إستر مويال، فرض نفسها وأفكارها ضد هيمنة العلماء الرجال على النهضة.  

من جهة أخرى، استخدم الطلاب والطالبات رسائل جمائل الدين الأفغاني وإرنست رينان عام 1883 حول علاقة الإسلام بالعلم كمثال على تعثر محاولات المثقفين المتفائلة بإحداث فرق. ذلك أنه من الصعب شرح عجز واحد من أكثر الإسلاميين حنكة ومعاداة للإمبريالية، مثل الأفغاني، على شجب رواية تخلّف الإسلام، ناهيك عن عدم قدرته على تفكيك الخطاب العنصري للمثقف الفرنسي. 

بيد أنه تم إدراج مقررات جديدة في المنهج لهذا الصف. شكراً لحسام.ر أحمد ودراسته الجديدة النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر، ذلك أن أربعة من كتّاب هذا الملف الخاص لمنصة حنّا استخدموا هذه الدراسة للاطلاع على المناهج التاريخية التي قدّمت طه حسين، المثقف الأيقوني الذي لم تصمد رؤيته للثقافة (التي تعتبر الثقافة الأوروبية مصدر إلهام)  في زمن الأدب الملتزم واليسار العربي والخطابات المفككة للاستعمار. 

كتاب معاني النكبة لقسطنطين زريق ومقال فرانسيس حاسو الحداثة والنوع الاجتماعي في السياق العربي بين هزيمتي الـ48 والـ67 أيضاً تم استخدامهما للاستدلال على الهزّات التي أحدثتها النكبة الفلسطينية في تاريخ الفكر العربي. فيما كان للبعد الإنساني لرواية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني أثر إنساني عميق على الطلاب، إضافة للمشروع الرقمي لكارما نابلسي وعبد الرزاق تكريتي حول الثورة الفلسطينية، والذي تم فيه مقابلة كوادر مؤثرة فيها. 

لقد كان عبد الرزاق التكريتي واحداً من طلابي حين بدأت بتعليم هذا الصف، وقد نشر مؤخراً دراسة ظفار: ثورة الرياح الموسمية، التي تناولت ثورة ظفار وحصلت على جائزة. لقد أتاحت هذه الدراسة الفرصة لربط الفكر العربي بالنضالات في شبه الجزيرة والمحيط الهندي. 

إضافة إلى ذلك، تمت دراسة كتاب يوفا دي كابوا لا مَخرج الذي تناول فيه سارتر والوجودية العربية وفلسطين وأتاح لهم ذلك ملاحظة أنه على الرغم من الجاذبية حول المثقفين العالمين مثل فرانز فانون وجان بول سارتر وإدوارد سعيد “يجب، في البداية محاولة إعادة إحياء المثقفين العرب” عبر كتاباتهم الواسعة التي لم يتم الاطلاع عليها (دي كابوا 2018، 23). تم استخدام دراسة فادي بردويل الثورة وخيبة الأمل (وهي دراسة أنثروبولوجية لمجموعة صغيرة من الماركسيين في الستينات والسبعينات في لبنان)، وقد كانت هذه الدراسة فاعلة في إرشاد الطلاب إلى أهمية المكان في عملية النقد. فهناك فرق بين أن تمارس التنظير في إحدى الجامعات وأن تكون ماوياً على حاجز في بيروت وقت الحرب. 

خلال السنوات الأخيرة ظهرت دراسات تساعد على فهم النهضة بعيون معاصرة. لقد حشد الربيع العربي تضامناً مفاجئاً عابراً للحدود وشكل مصدر إلهام سياسي في مواجهة الدول العربية، فقد حمل المحتجون لافتات تستحضر بعض الشخصيات النهضوية، مثل هدى شعراوي وسعد زغلول في القاهرة، فيما تم ترديد قصيدة النهضوي أبو القاسم الشابي “إذا الشعب يوماً أراد الحياة”، وقد استعاد المحتجون السوريون مقتطفات من كتابات النهضوي الحلبي عبد الرحمن الكواكبي وخطّوها على جدران مدنهم وقراهم. لقد أتاح لنا الربيع العربي تخيل واقع خارج سطوة الدولة منذ 2011.

من جهتها، طرحت زينة حلبي في كتابها تفكيك المثقف العربي: النبوة والمنفى والأمة ببراعة أن المثقفين الراديكاليين التقليديين، حالهم كحال الدول، لم يعودوا أيضاً يمكلون الوصاية على المستقبل العربي. ذلك أن عصر النبوة الحداثية قد انتهى، وفق ما تذهب إليه. والمستقبل الذي وعد به الرواد الأوئل لم يتحول إلى ماضٍ، فيما الحاضر أشد غموضاً. الرد الوحشي للثورات المضادة، وخاصة في سوريا والبحرين ومصر واليمن أدى إلى موجات لجوء مليونية في أوروبا وحول العالم. ونتيجة لذلك، تيتّم الإنتاج الثقافي والخيال النقدي في العالم العربي، ولكنهما يزدهران، رغم ذلك، في القاهرة واسطنبول وبرلين وتورنتو. “أنت لم تُهزم بعد”. 

الحرية لعلاء عبد الفتاح 

المصادر 

عبد الفتاح، علاء، أنت لم تهزم بعد (لندن: منشورات فيتزكارالدو، 2022).

أحمد، حسام ر، النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر (ستانفورد، 2021).

بردويل، فادي، الثورة وخيبة الأمل: الماركسية العربية وعثرات التحرر (دورهام إن سي، 2020)

دي كابوا، يواف، لا مخرَج: الوجودية العربية، سارتر وإنهاء الاستعمار (شيكاغو: منشورات شيكاغو، 2018).

حلبي، زينة، تفكيك المثقف العربي: النبوءة والمنفى والأمة (إدنبرة، 2018)

هانسن، ينس، وماكس وايس. الفكر العربي ضد العصر الاستبدادي: نحو تاريخ فكري للحاضر. حرره ينس هانسن وماكس ويس. كامبريدج، المملكة المتحدة: منشورات جامعة كامبريدج، 2018.

هانسن، ينس، وماكس ويس. الفكر العربي بعد العصر الليبرالي: نحو تاريخ فكري للنهضة. حرره ينس هانسن وماكس ويس. كامبريدج، المملكة المتحدة: منشورات جامعة كامبريدج، 2016.

هاسو ، فرانسيس ، “الحداثة والنوع الاجتماعي في الروايات العربية لهزائم 1948 و 1967″، آي جي إم إي إس 32 (2000) 491-510. 

هوكس، بيل. “النظرية كممارسة تحريرية”. مجلة ييل للقانون والنسوية 4، عدد 1 (1991): 1-12.

كنفاني، غسان، “عائد إلى حيفا”، نشر في أطفال فلسطين، عائد إلى حيفا وقصص أخرى (بولدر، 2000)، 149-96.

محمود، صبا، سياسية التقوى (برينستون، 2005)

سعيد، إدوارد، تمثيلات المثقف (لندن: فنتج، 1994)

سكوت، ديفيد. “نقد ما بعد الاستعمار”. ريفاشنينغ فيوتشرز (برينستون، 1999)، 3-20.

سيدجويك، إيف. “القراءة المرتابة والقراءة التعويضية”. في تاتشينغ فيلينغ، تحريربارال وجولدبيرغ ومون: منشورات جامعة دورها، 2002.

تكريتي، عبد الرزاق، ظفار: ثورة الرياح الموسمية الجمهوريون والسلاطين والإمبراطوريات في عمان، 1965-1976 (أوكسفورد، 2013)

ويس، ماكس، جماليات الثورات: تاريخ ثقافي لسوريا البعث (ستانفورد ، 2022).

زريق، قسطنطين (1948)، “معاني النكبة”، (بيروت، 1956).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى