الفظاعة والعنف وتخريب الأشكال

صدر كتاب الفظيع وتمثيله – مداولات في شكل سوريا المخرب وتشكلها العسير للكاتب والمثقف السوري ياسين الحاج صالح مؤخراً  عن طريق دار الجديد التي كان يشرف عليها الكاتب والناشر والمثقف اللبناني لقمان سليم. 

سليم، الذي كان يشرف على تحرير هذا الكتاب، تم اغتياله في لبنان بتاريخ 4 شباط 2021، وتوجهت أصابع الاتهام بذلك إلى ميلشيا حزب الله اللبناني. 

يتناول الحاج صالح، وهو أحد أبرز الكتاب والمثقفين السوريين، الفظاعة التي تخللت التاريخ المعاصر لهذه البلاد، والتي تتضح بجلاء في سيرة الكتاب: فمحرره قضى غيلة بخمس رصاصات بعد تلقيه عدة تهديدات بالقتل لنشاطه السياسي، وكاتبه قضى 16 عاماً في سجون النظام السوري، ثم خُطفت وغُيّبت زوجته وشريكته سميرة الخليل مع زملائها على يد مجموعة إسلامية في الغوطة الشرقية في قضية مخطوفي دوما الأربعة. والبَلدان اللذان ينحدر منهما سليم والحاج صالح هما بلدان مُنهاران اقتصادياً وسياسياً، وشهدا الكثير من المذابح وموجات الهجرة والتهجير.

بعد 4 شهور على اغتيال سليم، تم توزيع نسخ من هذا الكتاب قرب ضريحه، بحضور عائلته وأصدقائه. ويهدي ياسين الحاج صالح مقدمته إلى منصة حِنّا، التي تنشر ترجمتها الخاصة باللغة الإنكليزية.  

 ياسين الحاج صالح

هذه المقدمة مهداة إلى منصة حنا، شراكة ووحدة حال.

مداخل

الفظيع

يجمع بين نصوص هذا الكتاب انشغال بالفظيع، بما تخرّب شكله بعنف كما بالعنف المُخرِّب للأشكال، ثم بعوالم مُخرّبة خبرها ما لا يحصى من السوريين خلال ما يقترب اليوم من عقد. عوالم حياة تتزاحم فيها تجارب القسوة الرهيبة من تعذيب وسجن، ومن فقد الأحبة، ومن تدمير بيئة العيش ومن تجربة اللجوء وتشتت الشمل، مسبوقة في حالات كثيرة بالاقتلاع والتهجير. تتناول بعض النصوص تحطم الأجساد، وبعضها عمل محطمي الأجساد والقائمين بها، وبعضها مستجدات الموت السوري، وبعضها الصور عن الأجساد المحطمة، ولكن كلها تروي أطرافاً من سيرة عنف مُحطِّم، يغير الأجساد والعمران تغيراً منكراً، شنيعاً ومقلقاً. أكثر من أن هذا التغير المنكر يجعل من نالها الفظيع من أحياء وأشياء غير معروفة لنا، تبدو الكائنات التي أدركها الفظيع غير ممكنة، مستحيلة، مثالات من عالم مواز، جحيمي.  

فقدان الشكل، شكل الأجساد وشكل بيئات الحياة وشكل سورية، هو دعوة إلى التشكيل موجهة إلينا، نحن مجتمع الفظيع. أن نستعيد شكلنا أو نتشكل في صور أقبل للحياة. وبقدر ما إن الثقافة، الفكر والأدب والفن، هي عالم من الأشكال، فإنها المجال الممكن للاستجابة لنداء عالم تلبّسته الفظاعة وتجرّد من شكله، عالم مسلوخ الجلد، لأن يحوز جلداً وشكلاً. نصوص هذه الكتاب تنظر في شكلنا المخرب، وتتطلع إلى أن تكون مساهمة في تشكل مغاير لنا. 

مقالات/ فصول

ينشغل قسم أول من الكتاب بإنتاج الفظيع ومنتجيه، فيما يعتني قسم ثان بتمثيل الفظيع، بكيفية التفكير فيه والتعبير عنه، بما نولِّده من أشكال استجابة لتحدي التجريد من الشكل، وكذلك بامتناع التمثيل وتعثراته وفشله. من حيث هو محاولة لتسمية شرطنا، مفهوم الفظيع ذاته لا يرد إلا في القسم الثاني. تجربة الفظيع تسبق التفكير فيه وتمثيله، لكن لعلنا لا نمتلك هذه التجربة، فنطويها، دون أن نشتغل على تمثيلها واستيعابها، ودون تحكيمها أو “أخذ رأيـ”ها في أدواتنا وطرقنا في التعبير والتفكير. لم يعد مسلكاً مثمراً من طرفنا، ونحن سلفاً في العام العاشر من اختبار الفظيع، أي من تقدم فقد شكلنا، أفراداً ومجتمعاً وبلداً وثقافة ومعنى، أن نثابر على طرق التعبير والتمثيل وأدواتهما السابقة لهذا العقد، وألا نعمل على تطوير مجال التعبير/ التشكيل/ التمثيل. طرقنا القديمة غير حساسة لتجاربنا الجديدة، المهولة. بل هي تطبع الهول عبر إدراجه في لغة وأساليب وتعبير سابقة له، فتثلم الحس بالفظاعة، بدل أن تشحذه. يتطلع هذا الكتاب لأن يكون مساهمة في وعي الفظيع في زمن قريب من وقوعه، لأن يحفز غضباً أخلاقياً، ولأن يدفع نحو الإبداعية والعدالة.     

في القسم الأول من الكتاب أربع مقالات، تعتني أولاها، الحب والتعذيب والاغتصاب، والإبادة، بما يجمع المدركات الثلاثة الأولى من تجاوز للحدود، رضائي في حالة الحب وإكراهي في التعذيب الاغتصاب، وما يجمع التعذيب والاغتصاب والإبادة من تجاوز حدود الفرد فالمجتمع فالإنسانية. وتهتم المقالة الثانية، علاقات التعذيب السياسية، بإظهار أن التعذيب هو العلاقة السياسية الأساسية في سورية الأسد طوال نصف قرن، وبالتالي على أن كل كلام في السياسة ينبغي أن يبدأ من هنا. أما المقالة الثالثة، السُّنّة التدْمُرية، فتفكر في تعميم نظام معسكر التعذيب في تدمر على سورية بعد الثورة، وتقابل بين نمط القتل الأسدي وكل من شقيقيه النازي والستاليني، وترجع الاستعدادات الإبادية للنظام إلى بنيته الطائفية التي أخذت تتحول بعد الثورة السورية باتجاه عنصري. وتتناول المقالة الرابعة، قبر للمرء جميعه، التغيرات الكبيرة في موت السوريين بالتوازي مع تحولات حياتهم بعد تمردهم على الحاكمية الأسدية. هذه الفصول الخمسة تتكلم على إنتاج الفظيع ونظامه.

وفي القسم الثاني أربع مقالات/ فصول، تتكلم على تمثيل الفظيع وإمكانيته. المقالة الأولى، مسالك حيال الفظيع، تعمل على تعريف الفظيع، وتميز بين أربعة سبل مختلفة للتعامل مع خبرة الفظيع: الغضب والإدانة، الصمت والانسحاب، “الإبداع”، والعنف. وتنظر المقالة الثانية، تحديق في وجه الفظيع، في النقاش السوري حول الصور الفظيعة، وتنحاز إلى وجوب أن تتاح الصور للعموم، بخاصة إن كنا لا نعاني مباشرة من واقع الفظاعة، وهذا لأن ثقافتنا التحررية المأمولة ستبنى على تجاربنا المدمرة الراهنة. ويفكر النص الثالث، الكلوم والكلمات، في تمثيل تجاربنا وأزماتنا، ويميز بين وجهين للتمثيل، التعبير المتصل بالتجارب والتشكيل المتصل بالتراث، يحفزنا إليهما الوجوب الوجودي للتفكير في المؤلم من التجارب وتجاوز الانفعال المباشر بها. وتنظر المقالة في تمثيل تجاربنا في إطار تصور أوسع للتمثيل يشمل التمثيل السياسي وتمثيل الأعمال بدخول وموارد. والنص الرابع والأخير، تعبير: الكلمات والعنف والدموع، يحاول الإجابة على سؤال ماذا يحدث حين تفشل الكلمات، وينظر في قضية حرية التعبير من زاوية مختلفة، زاوية موت التعبير أو قتل القدرة التعبيرية أكثر من قمع التعبير.

سياسة المعنى

هذا الكتاب محاولة لتوفير عناصر من أجل نموذج نظري يُمثِّل “سورية الأسد” ويُعرِّفها. وفيه كما في كل عمل مؤلفه الكثير من السياسة. السياسة شرطنا ومصيرنا، وما يتصل بها من تجارب مدخل محتم إلى تجديد القول، إلى تحريف ما سبق قوله، وإلى تجريب أقوال جديدة. في مواجهة تجربة الفظيع النازعة لشكلنا، إنتاج الأشكال، المعاني والمفاهيم والتمثيلات والتعبير، هو ميدان أساسي للصراع، الصراع من أجل المعنى.    

أكثر من ذلك يظهر العقد الفائت أنه ليس هناك سياسة في ما يُظن أنها السياسة في سورية (وربما في نطاق أوسع حولها). بقدر كبير تنحل السياسة المتعارف عليها في التعذيب والحرب التعذيبية من طرف الحكم الأسدي وحماته، وفي الدين وأهله و”الجهاد” (وهو تعذيب وتغييب، وليس حرباً فقط) عند الإسلاميين، وفي خنق الذات وأشباه الذات عند المعارضة التقليدية (التي أنحدر من أوساطها). ثمة سياسة في المقابل في الصراع من أجل المعنى، في أن نسمى ونُعرِّف ما خبرنا، فلا نفصل بين المعرفة وبين التجربة، أو بين المعنى والعناء. الرابط بين المعنى والعناء هو الأرضية الأصلح لتمثيل تجربتنا وصنع داخل ثقافي مغاير، أو جمهورية معان تتجدد. صحيح أنه لا يتحتم لمن لم يكونوا شركاء في اختبار العناء ألا يكونوا شركاء في إنتاج المعنى، لكن يقتضي الأمر جهداً للتمثل وحس المشاركة، هو ما يفتقده المرء في تناولات خبراء سورية والشرق الأوسط، ممن يتقاسمون فيما بينهم تأويل الشأن السوري في الغرب. هذا الكتاب يفكر بنفسه ضد هؤلاء وضد نوع المعرفة الذي يقدمونه. لا يريد القول فقط إن معرفة أخرى ممكنة، وإنما كذلك أن المدخل إلى معرفة سورية هو تجارب السوريين الأشد القسوة، الفظيعة.  

عبر محاولة رسم بعض أوجه عنائنا الأحدث، والتفكير في تمثيله وتوليد المعنى منها، نجعل من المعنى مجال صراع أساسي، ونعمل لتطوير سياسة مغايرة، سياسة المعنى. من شأن هذه السياسة أن تسعف في تملك السوريين لتجربتهم، وتدرجها في مسعى تاريخي لتغير شكل سورية من العنف والتعقيد، من الفظيع وانعدام الشكل، إلى التفكير المتجدد المنتج للمفاهيم والأشكال. تمثيل تجاربنا كركن ركين لسياسة المعنى يضعنا في موقع أقوى من أجل التمثيل السياسي والتكلم عن شأننا بأصواتنا.  

طروادة

ليس معلوماً إن كانت طروادة وجدت بالفعل يوماً، وما إذا كانت حربها التي استمرت عشر سنوات، مثل حربنا إلى اليوم، قد وقعت بالفعل، لكن الإلياذة خلقت واقعاً أقوى من التاريخ. الأساطير الإغريقية والمسرح الإغريقي وغير قليل من الفكر الإغريقي يمد جذوره في سيرة حرب طروادة التي “خلقـ”ها هوميروس (ليس معلوماً إن كان شخصية تاريخية هو الآخر). هذا مثال كبير لا يجارى. ولكن ليس القصد مجاراته، بل التمثل به. 

هناك مثال أقرب إلينا: الهولوكوست، إبادة النازيين لليهود، وهو اليوم أسطورة مؤسسة، ليس لإسرائيل وحدها بل بصورة ما للغرب المعاصر. الهولوكوست “دين مدني” في الغرب المعاصر، يستجلب درجات من الحِرَم على من ينكره أو يشكك فيه، لأنه دين مشرِّع، مثل الإسلام. لكنه قبل ذلك وإلى جانبه مبحث هائل، لا يزال يُكتب فيه ويُقلّب فيه النظر. هذا مثال تتعذر مجاراته كذلك، لكن لا يتعذر تمثله.

فرضية التمثل تفيد أن تجربتنا خلال نحو عقد تجربة مرجعية، وتمثيلنا لها مدعو إلى أن يكون مرجعياً، يشتبك معها، يرويها ويُفصِّلها، ويجعل منها منعطفاً في الحساسية والتفكير والحكم. ولعل الأصح أن مرجعية التجارب تضيع، أو لا يبقى منها سوى ذكرى مختلطة لألم غامض، حين لا يكون تمثيلها مرجعياً، يخاطب أعماق الأنفس ويثير فضولاً متجدداً، ويحفز الأذهان إلى أن ترجع إليه خلال عقود وأجيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى