الدم الحامي.. والدم البارد
كيف فاقم الإهمال فاجعة السوريين بالزلزال؟
مصعب النميري
بعد الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا بدأت تتكشف ملامح التجاوب المتباين لهذه الكارثة الكبرى. أودت هذه الكارثة حتى الآن بحياة أكثر من 21 ألف شخص، والعدد في تزايد مع نفاذ الوقت الحرج لإنقاذ الضحايا العالقين تحت الأنقاض.
منذ اللحظات الأولى للزلزال، بدأ السوريون والأتراك بالاستنفار والعمل الحثيث للاستجابة مع تكشف الحجم المهول للحدث. أعلنت أكثر من 90 دولة إرسال فرق إنقاذ للمساعدة في جهود البحث عن العالقين والانتشال، إضافة للمعونات الإنسانية.
بعد أيام، بدأ التفاوت في الاستجابة يطفو على السطح وتتضح ملامحه، فمقابل أكثر من مئة ألف متطوع في تركيا، لم يدخل إلى سوريا إلا متطوعين أفراد، من بينهم أفراد مصريون وإسبان. لم تدخل فرق كاملة ولا معدات، بحسب ما أعلن رائد صالح مدير منظمة الدفاع المدني. إضافة إلى ذلك، طالب صالح الأمم المتحدة بالاعتذار بسبب تأخرها في إيصال المساعدات إلى سوريا رغم مرور 5 أيام على الكارثة. مجمل المساعدات الواصلة حتى الآن من الأمم المتحدة بلغ نحو 16 شاحنة، علماً أن عدد المتضررين هو بالملايين، وهذه المساعدات بالكاد تكفي العشرات أو المئات.
لا يحتاج الوضع السوري إلى الشرح. 12 عاماً من القصف وعمليات الإبادة وتدمير البنية التحتية والتهجير خلقت واقعاً في غاية الهشاشة يعيش فيه السوري في مناطق الشمال. مشاهد الركام، والوجوده المغبرّة، ونداءات الاستغاثة واليأس والغضب مقترنة بالتجربة السورية. قد يكون الزلزال كارثة طبيعية، ولكن السياق الذي وقع فيه يجعله أكثر من ذلك بكثير. تلقاء غضب الطبيعة، تعلن الحداد على الضحايا وتحاول إصلاح ما تدمّر وأنت تذرف الدموع. ولكن في واقعة كهذه، وفي ظرف كهذا، لا يمكن بأي حال تجاهل الأبعاد الأخرى لما يجري، فبعد وقت قليل من حدوث الكارثة “الطبيعية” ليس ثمة سوى هذه الأبعاد التي يختلط فيها الحزن بالغضب العارم وشعور الحيف.
يستنفر السوريون والأتراك على الأرض وفي دول الشتات كل طاقاتهم للتعامل مع الحدث، إلا أن السوريين يقفون وحدهم في مواجهة المصيبة. يرفعون الأنقاض بأيديهم العارية ويتطوعون لحفر القبور ونقل المصابين إلى جانب فرق الدفاع المدني. معظم المتواجدين داخل سوريا، إما يهرعون لإنقاذ سواهم، أو يفترشون الطرقات ويحاولون فهم ما يجري والحداد على ضحاياهم. النظام يترصدهم. يريدهم أن يموتوا لتحصيل مكاسب سياسية تعيد له الشرعية وتسهل إعادة تعويمه. الحكومة التركية تعطي الأولوية لمواطنيها على حساب السوريين. جثث السوريين فقط هي ما يجتاز المعابر الواصلة بينها وبين سوريا.
تحت وطأة هذا الشعور الملحّ بالتحرك، يتبرع اللاجئون في الخارج بأموالهم ويعملون كخلايا النحل على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار الضحايا والمفقودين. توقفت حيواتهم الشخصية وغرقوا بالهمّ. ما الذي يجب فعله الآن؟ الأعصاب مشدودة. ثمة آلاف المجموعات لإيصال التبرعات إلى مختلف المناطق السورية.
في مقابل الدم الذي يغلي، لا أحد يتملكه الشعور الغامر بالخطر وضرورة التحرك السريع سوى الضحايا وذويهم وبعض المتعاطفين معهم حول العالم. من جهتها، تتعامل المنظمات الدولية، والأمم المتحدة خاصة (وهي أكثر جهة معنية ومسؤولة فيما يجري اليوم) ببرود أعصاب وإهمال رهيبين. تتأخر في إيصال المساعدات الحيوية، ثم تُدخل فُتاتاً بعد أيام ويتضح أنه مساعدات متأخرة من السابق. يخرج موظفو الأمم المتحدة ويتحدثون عن ضرورة “السماح بإيصال المساعدات للمتضررين”، دون تحديد من يعرقل هذا الوصول. ليس ثمة شعور بالطوارئ لديهم/ن. لا يبدو القلق على وجوههم/ن. اكتسبوا خبرة طويلة في التعامل مع الكوارث في العالم، ولكنهم لم يتلطخوا بالطين. حديثهم العقلاني، الداعي إلى التروّي، يثير الحنق في هذه اللحظات الحرجة.
في الحالة الطبيعية، يوجد “بروتوكولات” وأعراف تعمل هذه المنظمات الأممية على ضوئها، فهي لا تتجاوز السلطات القائمة في أماكن عملها. تميل نحو الحياد ومسك العصا من المنتصف في أماكن النزاع وعدم تبني نهج صدامي مع أحد، وحتى تقوم بتقديم المساعدات المخصصة للضحايا إلى النظام الذي يضطهدهم. غير أنه في ظل هذا الظرف الاستثنائي المهول، الذي تتوقف فيه حياة الآلاف حرفياً على المساعدات الحيوية، يصبح ضرورياً التفكير مجدداً وبشكل أعمق في الدور التي تلعبه منظمات كالأمم المتحدة ومساوماتها وأولوياتها. في لحظات كهذه من الصعب تجنب التفكير في الأثر المباشر للبطء والتراخي والإهمال والحسابات السياسية للعمل الإنساني: إنه الموت المعمم. الموت بالآلاف. الموت سَحقاً واختناقاً وبرداً وجوعاً وقهراً. لو كان لدى موظفي الأمم المتحدة أقرباء وأبناء وأمهات تحت الأنقاض لما كانت الاستجابة بهذه الفداحة والسوء.