الجروح الحيّة: عن الانتهاكات والمظلومية

هل ننجو دون الاتصال بالجرح الأصلي؟ 

هذا المقال هو جزء من مجلة مفازة الرقمية التي تبحث في موضوع النجاة. تقرأون أيضاً فيها: جمهورية الأجساد الكليمة لنبيل محمد، القيامة في الجسد لكنانة عيسى، حوكمة الأمل لحسين الشهابي، العالم ليس قرية صغيرة لرجا سليم، أن تهوي من اللامكان لنور موسى، نجاة الهوية في الشتات لعلا برقاوي، تأثيث الذاكرة لعلي زراقط، حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام لشاونت رافي.

_____________________

ساشا زاك

يدرس العلاج النفسي في تورنتو، وشغوف بمدرسة يونغ وتقاطع العلاج النفسي مع الحكمة التقليدية.  

ترجمه عن الانكليزية مصعب النميري

_________


“من الفادح رؤية كيف يفسد الإنسان حياته وحيوات الآخرين، ويبقى، رغم ذلك، عاجزاً عن معاينة المأساة التي يسببها في نفسه ويغذيها ويبقيها مستمرة. لا يقوم الإنسان بذلك بوعي بالطبع، ذلك أنه يستخدم وعيه للنحيب ولعن العالم الفاسق الذي ينأى عنه أكثر فأكثر. اللاوعي هو من يولّد الأوهام التي تحجب العالم، غازلاً بذلك شرنقة تبتلع صاحبها في نهاية المطاف”، (كارل يونغ).

أثناء كتابة هذا المقال، تجاوزت إسرائيل 9 شهور في حملتها الشعواء على الفلسطينيين في غزة. الدولة التي تصف نفسها باليهودية تستمر بالتأكيد على قوتها العسكرية وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، فارضة عليهم سياسة العقاب الجماعي بذريعة “الدفاع عن النفس”. وقد لاحظ كثيرون المفارقة المجنونة المتمثلة في دولة محتلة، لا تقل تسليحاً عن قوى العالم العظمى، تدعي أنها الضحية وهي تقصف الضعفاء والعزّل. إن غرابة هذا العنف تتضاعف بسبب المعاناة التاريخية لليهود؛ أنا والكثير من اليهود مثلي لا يمكننا إلا أن نسأل: كيف لشعب يعرف معنى الانتهاكات التي تطال روح الإنسان أن يرتكب فظائع جديدة على هذه الأرض؟ لقد نجى يهود أوروبا من أهوال الإبادة، فيما ترتكب اسرائيل ما تصفه محكمة العدل الدولية بأنه احتمال إبادة في غزة. لقد صار واضحاً للغاية أن إسرائيل انحرفت بعيداً عن الواقع العميق للجرح الأصلي لليهود.  

قبل قرون تحدث الإغريق عن ما يدعى الـ”هامارتيا”، أي الانفصال المأساوي بين تجربة الإنسان غير الواعية وتصرفاته الواعية التي تقود بشكل محتوم إلى الدمار. يؤكد يونغ على هذه التراجيديا الإغريقية قائلاً إن “القاعدة النفسية تقول: إذا لم يتم إدراك الحالة الداخلية للإنسان، فإنها ستفرض نفسها في العالم كقدر”.1 يتردد صدى هذه الكلمات وأنا أرصد أعمال الإبادة الممنهجة ضد العائلات الفلسطينية من قبل الجيش الاسرائيلي. ولكن هل يتحتم علينا إعادة خلق معاناتنا وفرضها على الغريب؟ الجواب هو أن النجاة الأكيدة لا يمكن لها أن تتحقق إلا عبر جهد حثيث لعيش الجرح الذي أصابنا بشكل واعٍ بدل إسقاطه على الآخر. 

الصدمة والجروح المهملة

أضحت الصدمة مفهوماً شائعاً يتم عبره السعي لفهم تعقيدات المعاناة الإنسانية في مناهج علم النفس، وهذا سديد. هناك الكثير من المداخل لمقاربة الصدمة، ولكن يمكن القول ببساطة إن الصدمة هي القوة التي تعطّل قدرة الإنسان على اختبار ذاته الأصيلة والاتصال بها. المحلل النفسي اليونغي دونالد كالشيد يصف الألم الناتج عن هذا التعطيل قائلاً إن “العالم يصل إلينا قبل أن نصل إليه”.2 لقد عانت غزة، عبر عقود من الحصار والحرمان، من هذا التعطيل المستمر وأصحبت بذلك مكاناً حاضناً لصدمات مركّبة. 

لا يمكن للصدمة التي وقعت بحق الأوروبيين اليهود أن تبرر الاحتلال العنيف للأراضي الفلسطينية وقمع الشعب الفلسطيني، رغم أن ما وقع بحق اليهود يعطي سياقاً لذلك. حين لا يتم عيش الجرح الناتج عن الصدمة بشكل واعٍ، يمكن له أن يولّد الكراهية تجاه “الآخر”، إذ يتم إسقاط ظلال الآلام والانتهاكات التي لم نعالجها عليه، والتي تنُتزع من الوعي مثل كبش فداء تائه في الصحراء. البقاء على قيد الحياة في بيئة قاسية يقتضي رفض الأجزاء الهشة واليافعة في ذواتنا، مقابل تعزيز حضور الأجزاء الدفاعية القوية لضمان الاستمرار. بناء على ذلك، تتراجع قدرتنا على التعاطف وتفقد المعاناة الأخرى وضوحها وإلحاحها. هذا هو أساس المظلومية المرضيّة التي تحجب هشاشتنا التي تُعدّ أساساً لكوننا بشراً. بيد أنه في صلب التقليد اليهودي، تفرض علينا إنسانيتنا استخدام معاناتنا لمعرفة الشخص الغريب ورعايته في لحظة المعاناة. 

لقد عرّفت الديانة اليهودية نفسها من خلال العهد بين الإله والإنسان. يمكن فهم ذلك من الناحية النفسية على أنه العلاقة الغنية بين الفرد وعالمه الداخلي. يبدو هذا جلياً ربما في تحريم العهد القديم للصور المنحوتة، وهو تحريم يقتضي أن الإله لا يمكن الاحتفاء به في العالم الخارجي، وإنما في ذواتنا فقط.3 يؤكد الحاخام أبراهام جوشوا هيشل أننا حين نبحث عن المعنى في المعاناة فإننا نصبح “مواطنين في عالمين، وعلينا أن نحافظ على الولاء المزدوج لهما”.4 ولهذا السبب ربما يحمل تقليد “الشاباط” (السبت) أهمية كبيرة في التقليد اليهودي، لأنه وقت مقدس لكي يقوم الأفراد بتقييم حياتهم الداخلية والعودة إلى العالم منسجمين مع ذواتهم.  

حين تتعطل حياتنا بسبب الصدمة، تلجأ الأجزاء غير القادرة على تحمل آلام العالم الفيزيائي إلى عالمنا الداخلي. يتيح لنا السبت البحث عن هذه الأجزاء وإخراجها والعمل على إعادة دمجها. بناء على ذلك، فهمتُ العهد ليس باعتباره ولاءً لإله الحرب النرجسي في العهد القديم، وإنما باعتباره المسؤولية التي نتحملها في حب الأجزاء الضالة من براءتنا وقبولها والترحيب بها مجدداً. عملية الاندماج هذه تم التعبير عنها بشكل رمزي في العودة إلى الوطن. ولكن حين يتم فهم فكرة العودة إلى الوطن بشكل حرفي، فإن العديد من العواقب الوخيمة تترتب على ذلك. أقل هذه العواقب هي أننا نسحب مواطنتنا من عالمنا الداخلي ونتخلى عن مسؤوليتنا تجاه أجزائنا الجريحة ملقين إياها في غياهب المنفى والقمع. نقضي على أي إمكانية للشفاء حين نتوقف عن الارتواء من نبع العالم الداخلي عبر اختبار ما عشناه، ونقوم بدلاً من ذلك بتوريط أنفسنا بالتضحية بالآخر كنوع من التعبير غير الواعي عن الانتهاكات التي وقعت بحقنا. تتجلى أبشع صور ذلك في قتل الأطفال، والذين يمثلون نسبة تقارب نصف من قُتلوا في غزة منذ السابع من أكتوبر حتى تاريخ كتابة هذا المقال.5 يقول المحلل اليونغي لورنس جافي إن “الشر يقع حين نفقد الاتصال بمصدر الجرح”.6

الجرح والبراء والقمع

الانفصال عن الجرح يقارب من الناحية النفسية فكرة تيتيم الصغار. تضيع براءة الأجزاء الطفولية وتصبح طيّ النسيان، وتصبح جامدة وعصيّة على التحول.7 يتجلى هذا في العالم الخارجي بقناعة مهووسة ومطلقة ببراءتنا حتى عندما نرتكب أبشع الفظاعات ضد الآخر. وبهذا تصبح الميليشا المحتلة “أكثر جيش أخلاقي في العالم”، فيما تصبح الإبادة “دفاعاً عن النفس”. تتحول البراءة المفترضة إلى حالة خبيثة واستبدادية من المظلومية حين لا نبذل جهداً حثيثاً لمعالجة الصدمة التي مزقت كياننا بالأصل.  

الانتهاكات التي وقعت بحق الضحية هي من دون شك حدث حقيقي يجب التعامل معه بمنتهى الجدية والحرص والاحترام. ولكن حين نقع في فخ المظلومية المرضيّة فإننا نحوّل مأساتنا إلى سبب لتوليد مآس أخرى في محاولة يائسة لحماية أنفسنا من الامّحاء. ومن المثير للاهتمام أن كلمة الضحية مشتقّة من كلمة victima اللاتينية، والتي تشير بالأصل إلى التضحية الدينية، حيث تُحرق أفضل أجزاء الحيوان كقربان ليأكله الإله القويّ. وحين نقع في فخ المظلوميّة فهذا يعني أننا نضحي بالأجزاء الرقيقة في ذواتنا لتغذية الأجزاء الأكثر قوةً وسطوة. ويعد إقدام ابراهيم على ذبح ابنه اسحاق على الجبل لإرضاء الرب دليلاً على سهولة تخلينا عن الضعف والبراءة والمحبة التي يرمز إليها الطفل بغية الحصول على حماية القوة التي يمثلها الربّ. القصة الأكثر فظاعة تتجلى في أسطورة ساتورن، العملاق الروماني الذي يأكل أولاده لحماية نفسه من الهلاك المتوقع. وأيضاً هناك اسرا-ييل، الملك اليهودي في فينيقيا، الذي ألبس ابنه الوحيد قفطان الملك وضحى به كي لا يضحي بنفسه.8 يوضح لنا كارل يونغ بنظرة ثاقبة ديناميكيات الملك-الضحية حين يقول إنه “حين يسود الحب، تنعدم إرادة القوة؛ وحين تسود إرادة القوة، يغيب الحب”.9 وعلى نحو مماثل، حين تغرينا القوة الغاشمة بوعد الأمان والنجاة، فنحن نخاطر بالتضحية بقدرتنا على التعاطف على مذبح القوّة القاسية. 

حلم البراءة والتجربة

راودني منام مفزع بعد شهر من حرب إسرائيل على غزة. خلال هذا المنام أصل إلى مبنى رهيب ومشؤوم. دخلت عبر الباب الصدئ فوجدت ساحة سجن ضخمة مليئة بأسرّة مشافٍ فارغة. حين نظرتُ عبر السياج رأيت شخصيات تعرج من مسافة قصيّة. فجأة انتبهت إلى أنني في معسكر اعتقال. تحوّلتُ بداية إلى فيل جامح، ثم تحوّلتُ إلى نمر أبيض بعينين ناريّتين مخيفتين. تحيط مدرسة يونغ للعلاج النفسي بعناية بالحلم من خلال النظر إلى صوره وإتاحة المجال لتأويلها عبر الترميز الشخصي والموضوعي. يمكن للحلم أن يكون بوابة لفهم صدمة الإنسان. وعبر الدنوّ من هذا الجرح يمكن لنا اقتفاء أثر عوالم تتجاوز أساطيرنا الشخصية. 

يبدأ الحلم بدخولي إلى هذا المجمع المخيف الذي يحبس أرواح الكثير من البشر. تستحضر باحة هذا السجن الواقع في غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم، والتي اقترنت بشكل وثيق بصدمة الهولوكوست لدى دخولي إلى معسكر الاعتقال. أسرّة المشافي الفارغة أشارت بدورها إلى أن هذه الصدمة الهائلة تقع وسط غياب القدرة على التعافي. خلال الحلم، أشعل معسكر الاعتقال بداخلي تحولاً غرائزياً تم التعبير عنه من خلال التحول إلى حيوانات مختلفة. حوّلني استمرار المذبحة في غزة إلى فيل يدفعه الرعب من التدنيس الوقح للحياة البريئة، ولكنني ارتبكت من عجزي. يمثل الفيل بحجمه الضخم مشاعر طفل مكروب يقاتل بيأس ضد بيئة خالية من الحب.  

يتحول الفيل، بسبب صراعه المرير ربما، إلى نمر مرن فيتحول لون الفيل الرمادي إلى تماثل مخيف من الخطوط السوداء والبيضاء. العيون النارية لهذا النمر هي الصورة النهائية التي نقلها الحلم، وبقي السؤال عن كيفية مواجهة نظرته الحارقة. 

في مجموعته الشعرية أغاني البراءة والتجربة يتحدث ويليام بليك، الشاعر الصوفي المسيحي، عن ألوان النمر متسائلاً: “أي يد وأي عين خالدة/ رسمت تناسقك الرهيب؟”.10 تناسق الألوان لدى النمر يشير إلى الدفاعات التي نلجأ إليها بعد تعرضنا لانتهاكات عميقة، إذ يضيق عالمنا فجأة، وتفشل يقينيات الأسود والأبيض في الاندماج، دافعة إيانا للانفصال عن الآخر خشية العودة إلى ذكرى الانتهاك. يستمر بليك في وصف النمر قائلاً: “أوَمن خلقك هو نفسه من خلق الحمل؟”،11 لافتاً إلى أن الاثنين شقيقان في الخلق الإلهي. يمثّل النمر غريزة البقاء، الساعية للحفاظ على كياننا بأي ثمن، والتي تسهر على حماية الجرح الأصلي. وعبر تطوير العلاقة مع هذه الغريزة فقط، وتخفيف سطوة الهياكل الدفاعية الصارمة التي تحمي ضعفنا، ولكنها تحجبه، يمكن لـ”الأنا” والـ”الآخر” النجاة جنباً إلى جنب.  

اليهودية والآخر 

لا يعد استدعاء الأجزاء البريئة الضالة من كياننا والترحيب مرة أخرى بها في التجربة الواعية ممارسة مجازية نفسية فقط، فهذا في صلب الممارسات الروحانية. فكلمة دين بالانكليزية مشتقة من الكلمة اللاتينية religare، والتي تعني “الارتباط أو إعادة الاتصال”.12 وفي اليهودية، من يبحث عن عالمه الداخلي يرتوي من نبع يهوذا، الذي لا يروي ماؤه الفرد فقط، وإنما العالم الذي يعيش فيه أيضاً.13  ويحثنا العهد القديم على التعامل بوعي مع معاناتنا لضمان كرامة الآخر حين يقول: “لا تظلم الغريب ولا تضطهده، فأنت تعرف قلبه، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر”.14

 وحين نبحث عن مصدر جراحنا ونجسر الهوّة بيننا وبين هشاشتنا التي اضطررنا إلى التخلي عنها، سنختبر التعاطف العميق مع معاناة الغريب. يقدم سفر إشعياء صورة قوية لعملية التكامل هذه فيقول: “يسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمّن معاً، وصبي صغير يسوقها”.15 وحين تتمازج البراءة بالخبرة يمكننا لقاء العالم ونحن مليئين بحب القلوب العذراء وانفتاحها. يعلمنا التلمود أيضاً مبدأ “تيكون أولام”، والذي يعني بالعبرية “اشفِ العالم”، ولكن على الطبيب أن يشفي نفسه أولاً قبل شفاء العالم.16 بالتالي، يجب البحث عن مصدر الجرح وإعادة الترحيب بأجزاءنا البريئة. وحينها فقط يمكننا إصلاح العالم.. حين يصبح قلبُ الغريب قلبنا. 

  1. كارل يونغ، الأعمال الكاملة، المجلد 9، الفقرة 126. ↩︎
  2. دونالد كالشيد، الصدمة والروح: نهج نفسي – روحي للتطور البشري وانقطاعه، (نيويورك: روتليدج، 2013)، 19. ↩︎
  3. إريك نيومان، يعقوب وعيسو: حول الرمزية الجماعية لموضوع الأخ، (أشيفيل: منشورات تشيرون)، 6. ↩︎
  4. أبراهام هيشل، طلبتُ الدهشة: مختارات روحية، (نيويورك: شركة كروسرودز للنشر، 1990)، 1-2. ↩︎
  5. وفقاً لليونيسيف في 19 نيسان 2024. ↩︎
  6. لورانس جافي، تحرير القلب: الروحانية وعلم النفس اليونغي، (تورونتو: كتب المدينة الداخلية، 1990)، 102. ↩︎
  7. دونالد كالشيد، الصدمة والروح، 110. ↩︎
  8. باربرا ووكر، موسوعة المرأة  للأساطير والأسرار، (نيويورك: هاربر كولينز، 1983)، 456. ↩︎
  9. كارل يونغ، الأعمال الكاملة، المجلد 7، الفقرة 78. ↩︎
  10. ديفيد إردمان، الشعر والنثر الكامل لويليام بليك، (نيويورك: راندوم هاوس، 1965)، 24. ↩︎
  11. المرجع نفسه. ↩︎
  12. جيمس هوليس، تحت ظل زحل: جرح وشفاء الرجال، (تورنتو: كتب المدينة الداخلية، 1994)، 30. ↩︎
  13. ريفكا شارف كلوجر، النفس في الكتاب المقدس: فكرة الشعب المختار ومقالات أخرى، (تورنتو: كتب المدينة الداخلية، 1995)، 117. ↩︎
  14. سفر الخروج: 23:9. ↩︎
  15. سفر اشعياء: 11:6. ↩︎
  16. سفر التكوين 23:4 ↩︎
زر الذهاب إلى الأعلى