أن تهوي من اللامكان
معضلة الهوية الفلسطينية في الشتات
هذا المقال هو جزء من مجلة مفازة الرقمية التي تبحث في موضوع النجاة. تقرأون أيضاً فيها: جمهورية الأجساد الكليمة لنبيل محمد، القيامة في الجسد لكنانة عيسى، حوكمة الأمل لحسين الشهابي، العالم ليس قرية صغيرة لرجا سليم، نجاة الهوية في الشتات لعلا برقاوي، تأثيث الذاكرة لعلي زراقط، حين يفهمونك دون أن تضطر للكلام لشاونت رافي، والجروح الحية: عن الانتهاكات والمظلومية لساشا زاك.
________________________________________
نور موسى
كاتبة فلسطينية سورية كندية وخريجة دراسات عالمية. تعمل على قضايا اللاجئين والوافدين الجدد في كندا.
______________________
“يسعى الناس جميعاً إلى الهدف ذاته، وهو أن يُسمح لهم بالتحرر من الخوف وانعدام الأمن والإرهاب والقمع… والتحرر أيضاً من احتمال فرض هيمنة ظالمة وغير عادلة على الآخرين” (إدوارد سعيد، قضية فلسطين).
“من أين أنتِ؟” هذا السؤال البسيط يمكن أن يخلق لي أزمة هوية حين أتعرض له. فإذا اكتفيت بقول إنني فلسطينية، سيطرحون أسئلة عن طبيعة الحياة في فلسطين. أجد نفسي إثر ذلك مضطرة للحديث عن تاريخ يمتد لأكثر من 76 عاماً. أتحدث عن عدم قدرتي على زيارة فلسطين والعيش فيها. ربما علي القول إنني سورية؟ فهناك ولدت وترعرعت. في سوريا تشكلت هويتي وشاركت ذاكرة جماعية مع شعبها، رغم أنني لم أُعتبر يوماً مواطنة سورية. يأتيني هذا المونولوج الملل والقلق عندما يسألني أحدهم: “من أين أنتِ؟”. يصبح جوابي أعقد أو أكثر وضوحاً اعتماداً على معرفة الشخص الآخر و إلمامه/ا بواقع الشتات الفلسطيني. إجابتي الحقيقية على هذا السؤال هي أنني امرأة فلسطينية من سوريا، أصبحت كندية مؤخراً. أنتمي إلى هذين المكانين، فلسطين وسوريا، وأنا محرومة من كليهما. أحاول النجاة في هذا العالم بكل الجمال والألم والتعقيدات التي ورثتها من هذين المكانين. وفي الوقت نفسه، في السنوات القليلة الماضية من حياتي، بدأت أحاول فهم كيف يمكنني تشكيل هوية لنفسي مرتبطة بكندا.
هذا السؤال البسيط الذي يطرح نفسه في أية محادثة مع شخص جديد، يعكس عنصراً حاسماً في هوية الشخص، ويقتضي الكشف عن أصل الشخص أو مكان ميلاده. بيد أن هذا السؤال يرتبط بشكل وثيق بمواطنة الشخص، التي لا تحدد الهوية فحسب، بل تحدد أيضاً مكانة البشر في حقوقهم وامتيازاتهم في العالم الحديث.
لكي أشرح بدقة من أين أتيت، يجب أن أبدأ بقصة أجدادي. خلال نكبة الـ48 تم تهجيرهم قسراً من فلسطين إلى سوريا، ومن هنا جئت إلى هذا العالم لاجئة فلسطينية. أنا من الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينين في سوريا الذي أُجبروا على اللجوء مرةً أخرى بسبب التهجير القسري من سوريا. بعد أن عشت حياتي كلاجئة، جئت إلى كندا وعشت فيها وبدأت ببناء حياة جديدة ثم أصبحت مواطنة كندية.
باعتباري فلسطينية من الجيل الثالث الذي ورث وعاش التهجير، فقد تم تشويه إحساسي بالحياة بطرق عديدة ومختلفة. كنت بحاجة إلى إعادة تعريف هويتي ووجودي بأكمله طوال حياتي وحياة والدي وأجدادي. في سوريا، حيث لجأت عائلتي للنجاة من التطهير العرقي خلال النكبة الفلسطينية، كان يتم الاحتفال بهويتي أحياناً ومعاقبتها أحياناً أخرى، اعتماداً على مدى قدرة نظام الأسد الدكتاتوري على استخدام القضية الفلسطينية لتبرير ممارساته القمعية والإجرامية بحق الشعب، بما في ذلك القمع للفلسطينيين السوريين. كان اللاجئ الفلسطيني، الذي يتمتع بمعظم الحقوق المدنية في سوريا، يعاقب كلما عارض جرائم النظام السوري ويُحسب ضيفاً ناكراً للجميل. بينما في كندا، حيث لجأت من الحرب والخوف من الاضطهاد الذي واجهته في سوريا، وجدت أن هويتي كفلسطينية إما مرفوضة تماماً أو، في أفضل الحالات، هي هوية يفضل تجنّب الحديث عنها.
لم أشعر بأمان النجاة في أيّ من الأمكنة التي لجأت إليها من الحرب والاضطهاد والعنف، لأنني كنت بحاجة إلى تبرير وجودي. هويتي قد يتم رفضها أو قبولها حسب المناخ الأمني والمزاج السياسي للسلطة في المكان الذي أقيم فيه. تبدو النجاة عملاً شاقاً، فأنا بحاجة للشفاء من الصدمات والعنف، في حين أتلقى المزيد من هذا العنف لمجرد كوني فلسطينية.
اليوم، وأنا أشهد الإبادة الجماعية في غزة وأرى تكراراً لقصة النكبة، يزداد خوفي من لعنة تحول جيل جديد من الفلسطينيين إلى شتات واسع النطاق يحمل ندوباً وصدمات جديدة. أخشى أن تصبح تعقيدات الهوية التي بدأت مع التهجير القسري لجدي بسيطة مقارنة بما يعيشه أو سيعيشه الجيل الحالي من سكان غزة وما سيتحمله أطفالهم في المستقبل. أخشى أن يكون مصيري، ومصير الفلسطينيين أجمع، هو الصراع الدائم للنجاة والقتال من أجل المطالبة بالانتماء إلى قصصنا وأرضنا.
من لاجئة فلسطينية في سوريا إلى عديمة الجنسية في كندا
كان من المفترض أن تجعلني نشأتي في مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا متعايشة مع فكرة أن أكون لاجئة؛ أي إنسانةً خارج المكان تعيش مؤقتاً في كل مكان تذهب إليه. بيد أن انعدام الجنسية في حياتي لم يكن واضحاً وملحّاً إلا في كندا. ففي سوريا، كانت لدي بطاقة هوية تفيد بأنني لاجئة فلسطيني وتضمن لي إقامة مؤقتة. أما في كندا، فرغم أن بطاقة الهوية تشير إلى إقامتي الدائمة، إلا أنها تشير إلى أنني عديمة الجنسية بلا وطن.
في كندا عرفت للمرة الأولى كيف يمكن للإنسان أن يهوي إلى العالم من لا مكان. تعلمت أيضاً أن انعدام الجنسية هو ما يحدد وجودي كإنسان في هذا العالم عندما رأيت ثلاث نقاط (…) بجوار الخانة المخصصة للجنسية في كرت الإقامة الدائمة. وجودي في كندا جعلني أواجه العالم الأكبر مجرّدة من جغرافيتي الصغيرة.
ولكن ما معنى أن يكون الإنسان عديم الجنسية؟ وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن التعريف القانوني الدولي لعديم الجنسية ينص على أنه الشخص “الذي لا تعتبره أي دولة مواطناً بموجب قانونها”. هناك حالتان يمكن أن يصبح فيهما الشخص عديماً للجنسية: الأولى هي انعدام الجنسية بحكم القانون، أي عندما لا يتم الاعتراف بالشخص كمواطن بموجب قوانين أي دولة؛ والثانية هي انعدام الجنسية بحكم الأمر الواقع، أي حين يكون الإنسان مؤهلاً قانونياً للحصول على الجنسية ولكن لا يتم الاعتراف بذلك بسبب الطريقة التي يتم بها تطبيق القانون. هناك نحو 15 مليون فلسطيني في العالم، ويمثل الشتات الفلسطيني أكبر مجتمع عديمي جنسية في العالم، حيث يُعتبر أكثر من نصف الفلسطينيين، البالغ عددهم 8 ملايين، عديمي الجنسية بحكم القانون. في كندا، وبحسب المجلس الكندي للاجئين، يُعتبر الفلسطينيون عديمي الجنسية بسبب عدم الاعتراف بفلسطين كدولة. ولكن سياسات كندا تتخطى عدم الاعتراف بفلسطين كدولة، فهي تحاول إنكار وجود فلسطين من الأصل. الفلسطينيون في كندا، المولودون في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، أو حتى المولودون في فلسطين قبل نكبة 1948، لا يستطيعون إدراج مكان ميلادهم في فلسطين في الوثائق الرسمية في كندا مثل طلب جواز السفر أو الجنسية (سي بي سي).
لم تتأسس إسرائيل عبر قتل الفلسطينيين فحسب، بل تأسست أيضاً على فكرة محو وجود فلسطين وحرمان الفلسطينيين من حقهم في المطالبة بثقافتهم وتاريخهم وتقاليدهم. إسرائيل هي المشروع الاستعماري الاستيطاني الأحدث. وبحسب تعريف معهد المعلومات القانونية بكلية الحقوق في جامعة كورنيل، فإن الاستعمار الاستيطاني هو “نظام اضطهاد يعتمد على الإبادة الجماعية والاستعمار، ويهدف إلى تهجير سكان دولة ما (في كثير من الأحيان السكان الأصليين) واستبدالهم بمستوطنين جدد”. يضيف التعريف معياراً إضافياً لتعريف الاستعمار الاستيطاني وهو “تدمير واستبدال السكان الأصليين وثقافاتهم بثقافات المستوطنين لتأسيس أنفسهم كسكان شرعيين”. هذا التعريف ينطبق تماماً على إسرائيل. لقد تركت إسرائيل السكان الفلسطينيين بلا جنسية بعد أن أنشأت دولة قومية على أرض مأهولة بالسكان وحرمت هؤلاء السكان من أي حقوق في الانتماء إلى هذه الأرض. انعدام الجنسية الذي يواجهه الشتات الفلسطيني اليوم هو محو متعمد وممنهج للهوية. يُحرم اللاجئون الفلسطينيون المولودون في الشتات من حقهم في العيش في فلسطين، ولا يمكنهم حتى زيارتها في كثير من الأحيان، وهم محرومون من العديد من حقوقهم المدنية بسبب انعدام جنسيتهم.
انعدام الجنسية والمطالبة بها
وجد العديد من الفلسطينيين أن الطريقة الوحيدة للعيش الكريم تتم عبر إعادة التوطين في بلد يمكن أن يمنحهم الجنسية مثل كندا. ولكن في حالة اللاجئين الفلسطينيين في كندا، فإن حصولهم على الجنسية يقتضي عدم الاعتراف بوجود بلدهم الأصلي. وجود فكرة فلسطين التاريخية يمثل إشكالية في كندا وفي جميع الدول الأخرى التي لا تعترف بهوية الفلسطينيين (خصوصاً الفلسطينيون المنحدرون من مناطق الخط الأخضر المعروفة بإسرائيل في الوقت الحالي). بمعنى آخر، فإن أي شخص ينحدر من العائلات الفلسطينية المهجرة قسراً عام 1948 يعتبر شخصاً خرج من العدم إلى هذا العالم ولا يحق له المطالبة بجذوره في أرضه وتاريخ عائلته. وبما أن المسار الوحيد للحصول على الحقوق الإنسانية الأساسية هو الحصول على الجنسية، فإن الفلسطينيين في كندا يطمحون إلى ذلك. فالجنسية قد تكون فرصتهم الوحيدة للحصول على حياة طبيعية يتمتعون فيها بالحقوق الأساسية كالعيش بأمان، وحرية التنقل، والتطلع إلى حياة مستقرة.
يُعرف الحق في الجنسية أو المواطنة أيضاً باسم “الحق في الحصول على حقوق”. وتصف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين المواطنة بأنها “عنصر أساسي للأمن الإنساني. وإضافة للشعور بالانتماء والهوية، فإن المواطنة تمنح الفرد الحق في حماية الدولة وتوفر الأساس القانوني لممارسة العديد من الحقوق المدنية والسياسية”.
تقارب الأدبيات الأكاديمية انعدام الجنسية كمسألة قانونية، في حين يفشل معظمها في معالجة الجانب الإنساني من القصة. ثمة حاجة بسيطة وضرورية للبشر، هي الشعور الانتماء والحق في أن يكونوا جزءاً من سرديتهم كشعب مرتبط بذاكرة و أرض. وبالتالي، وعلى الرغم من أهمية التحدي القانوني الذي يواجهه الفلسطينيون، إلا أنه لا يمكن اختزال مسألة انعدام الجنسية بكونه مجرد معضلة قانونية.
ورغم أن كندا لا تعترف بحق الفلسطينيين في وطنهم، إلا أنها توفر طريقاً للمواطنة الكندية التي تزيل نظرياً الحواجز القانونية التي يواجهها الأفراد الفلسطينيون بسبب وضعهم كعديمي الجنسية. يواجه الفلسطينيون هنا معضلة شخصية في اتباع طريق الخلاص الفردي؛ خلاص يمنحهم حلاً قانونياً فيما يحرمهم من الانتماء إلى وطنهم. وفي حين تمنح المواطنة البديلة حقوقاً سياسية ومدنية، فإن الحق في التعبير عن الانتماء والعلاقة الوجدانية التي يمتلكها الفلسطيني مع فلسطين لا يزالان موضع تساؤل و إنكار، مما يجعل النجاة، هوياتياً على الأقل، أمراً معقداً وصعباً. بمعنى آخر، لكي تتمكن من النجاة كفلسطيني، عليك أن تمر بعملية يتم فيها إلغاء روابطك بوطنك الأصلي.
المواطنة كتحديد مشروط للقيمة الإنسانية
لا يعد طرح معضلة الهوية والمواطنة محاولة للشكوى المجانية بسبب رفض فلسطينيي الشتات الاكتفاء بالمواطنة في البلدان الجديدة كسبيل للنجاة. ليس هذا أيضاً عجزاً في القدرة على التواصل عاطفياً مع الأماكن الجديدة، ولكن رفض الهوية الفلسطينية يشكل تحدياً حقيقياً في حياة الفلسطيني/ة. ونشهد في الآونة الأخيرة كيف يصبح هذا الرفض أكثر وضوحاً ووحشية خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على الوجود الفلسطيني في غزة.
على سبيل المثال، أعلنت الحكومة الكندية في ديسمبر 2023 عن فتح مسار الإقامة المؤقتة للعائلات الفلسطينية في غزة. يقدم البرنامج تأشيرات دخول لـ 1000 من سكان غزة كحد أقصى، مما يسمح لهم باللجوء إلى كندا لمدة ثلاث سنوات إذا كانت لهم أسرة مقيمة في كندا ومستعدة لدعمهم مالياً خلال تلك الفترة هذه الفترة.
وفقًا لوزير الهجرة الفيدرالي مارك ميلر فقد “تمت الموافقة على 144 طلباً للحصول على تأشيرة مؤقتة. ويجب على كل متقدم أن يمر بعملية متعددة المستويات ويقدم معلومات تشمل حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، والندوب الموجودة على الجسد، وكل جواز سفر يحمله” (فانكوفر ستار). من المفترض أن تهدف هذه الإجراءات إلى مساعدة الكنديين الفلسطينيين على إنقاذ أحبائهم في غزة. ولكن هذه الإجراءات تمثل شكلاً فريداً من أشكال العنف ضد الفلسطينيين، فهي أولاً تساعد عدداً قليلاً، لا يكاد يذكر من الفلسطينيين، علماً أن هناك نحو 30 ألف شخص من أصول فلسطينية في كندا ويحتاج الكثير منهم إلى إنقاذ عائلاتهم. إضافة ذلك، تتضمن الكشف عن حسابات وسائل التواصل الاجتماعي إضافة إلى إظهار الإصابات والندوب لكي يثبت الأشخاص استحقاقهم للنجاة من الإبادة الجماعية. إذن، تصبح الحقوق والقيم الإنسانية للمواطن الكندي مشروطة بشدة عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
نشهد اليوم إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل في غزة، وستؤدي إلى ظهور جيل جديد من الفلسطينيين قد يواجه خطر التحول إلى شتات معدوم الجنسية مرة أخرى. أرى المذبحة وأخاف من أن يحرم العالم جيلاً آخر من الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية الأساسية. العنف المستمر اليوم سيكون له عواقب وخيمة على سكان غزة لأجيال عديدة.
أنا مواطنة كندية، ولدت وترعرعت في سوريا، وحفيدة أجدادي الفلسطينيين. يُنظر إلى هويتي كفلسطينية على أنها قضية إشكالية. علاوة على ذلك، فإن انتمائي إلى سوريا وكندا أيضاً موضع شك، وأية هوية أمتلكها ستكون موضع شك لأنها خارج إطار الهويات الرسمية أو حقوق الميلاد أو تراث الأجداد. اليوم، أرى قصة أجدادي تحدث مرة أخرى؛ أرى إسرائيل تقتل الفلسطينيين في غزة وتحاول طردهم. عايشت أذى التهجير والمجزرة والانتهاكات والإبادة الجماعية، وأعلم أن الألم لن يتوقف حين يتوقف النزيف. أرى كل ذلك وأفكر كيف سيستمر الضرر علينا كفلسطينين إلى أجيال أخرى.