أصوات كندية تستنكر الرقابة على تغطية فلسطين
حِنّا
أثار التفاعل الواسع مع قضية فلسطين في الأسابيع الأخيرة كثيراً من الأسئلة حول أمور كانت في نطاق المسلّم به على مدى عقود في دول مثل كندا والدول الأوروبية. هذه الأسئلة، التي دُفعت إلى الواجهة بعد الانتهاكات الاسرائيلية المُستمرة ضد الفلسطينيين، من الشيخ جراح إلى غزة، تطال قدرة اللوبيهات الداعمة لإسرائيل على التحكم بآلية تفاعل الأوساط العامة والأكاديمية مع ما يجري اليوم، وتقليمه من الاتهامات المباشرة والمصطلحات الحادة، وصولاً إلى دفع وسائل الإعلام لتبني خطاب متناغم مع الرواية الاسرائيلية أو حيادي وراغب في النأي عن انتقاد إسرائيل بشكل مباشر.
على سبيل المثال، لم تغط مؤسسة الإذاعة الكندية تقرير هيومن رايتس وتش الذي اتهم اسرائيل بارتكاب جريمة الأبارتهايد ضد الفلسطينيين، كما امتنعت عن تغطية واحدة من أكبر الفضائح في تاريخ التعليم في كندا، والمرتبطة بسحب قسم الحقوق في جامعة تورونتو عرض عمل للدكتورة فالنتينا أزاروفا بسبب دراساتها وأبحاثها التي تطرقت بها إلى انتهاك إسرائيل للقانون الدولي. تسبب سلوك إدارة الجامعة، والذي ينتهك بصورة واضحة حرية العمل الأكاديمي، بتدخل اتحاد مدرسي الجامعات في كندا ودعوته إلى مقاطعة جامعة تورونتو إلى حين قيام إدارة الجامعة بالتراجع وإعادة تقديم عرض العمل لأزاروفا. لم يبدأ الاعلام الكندي بتغطية هذا الحدث الهام إلّا في الأيام الأخيرة، بعد أن ارتفعت حدة التضامن والالتزام بدعوة المقاطعة، إذ اعلنت أمنستي أنترناشنال إنهاء تعاونها مع جامعة تورنتو وأعلن العديد من اتحادات العاملين في الجامعة نفسها التزامه بالمقاطعة. كما رفض عدد من الأكاديميين حول العالم المشاركة في أنشطة كان من المقرر إقامتها في الجامعة التزاماً منهم بدعوة المقاطعة.
الأفواه تضيق بكواتم الصوت
لقد تم تداول الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، كالاستيطان والتهجير القسري والتمييز العنصري والقصف الوحشي، بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأدى ذلك إلى تضامن لافت وغير مسبوق مع الفلسطينيين. وفي حين ظهر أن هذا التضامن بدأ يجد طريقه إلى كثير من الأوساط الأكاديمية والثقافية حول العالم وفي كندا، في تحول لافت، لا تزال قدرة اللوبيهات الإسرائيلية على الضغط والترهيب في هذه الأوساط تشكل عائقاً أمام توسع هذا التضامن بسبب خشية كثير من العاملين فيها من فقدان وظائفهم أو مناصبهم جراء ذلك.
إلا أن تلك الأوساط اليوم تشهد حراكاً مضاداً ينبع من ضيق العاملين في الأكاديميا والإعلام من هذه القيود التي تتناقض من أساسيات حرية التعبير. ويأتي هذا بعد عام كامل من التضامن في هذه الأوساط مع حركة “حياة السود مهمة” والتي كرست شكلاً صريحاً ومباشراً من التضامن المهتم بتحدي علاقات القوة والتحيز والتمييز البنيوي الموجودة في كل تفاصيل الحياة في الغرب وخصوصاً في المؤسسات. وليس بوسع الذين تعلموا خلال السنوات الماضية الإنصات بحساسية عالية للضحايا والمهمشين وتقدير تجاربهم الحية والمعاشة إلا ملاحظة المفارقة حين يُطلب منهم ترك كل ذلك وراءهم لحظة تغطية واقع الفلسطينيين، والإنصات عوضاً عن ذلك للسياسات الخارجية الرسمية للدولة والعناصر المتنفذة واللوبيهات التي تدعم وتمول مؤسساتهم. يطلب مدراء العاملين في تلك الأوساط المساواة بين الضحية والجلاد، وهو بمثابة دفعهم للقول بأن “حياة الجميع مهمة“، وهو الشعار المفضل لليمين المتطرف في الولايات المتحدة، وذلك لإعادة “حياة السود” إلى موقع تكون فيه غير مرئية ولا تهم على الإطلاق.
تنديداً بهذا القيود، وقّع أكثر من 2100 صحفي وأكاديمي كندي على رسالة إلى إدارة غرف الأخبار الكندية، عبّروا فيها عن اعتراضهم على الطريقة التي تدير بها هذه الغرف تغطية الأحداث اليوم، منتقدين غياب التغطية الدقيقة للطرد القسري والغارات الجوية ومُعتبرين تلك التغطية “مخيباً للآمال”.
وانتقدت الرسالة الموقف المُنحاز لوسائل الإعلام الكندية، التي “كانت قد ساهمت إيجابياً بتغطية مقتل جورج فلويد وتبعاته، وأثر الجائحة على المجتمعات المهمّشة، وتناقش قضايا السكان الأصليين والخطاب الاستعماري في كندا، لكنها لا تطبقّ هذه السياسة إزاء أحداث فلسطين”. مضيفة أن نزع الملكية القسري والعنف ضد المدنيين وعنصرية الشرطة “ليست أموراً معقدة”. ودعت هذه الغرف إلى “الاعتراف بإخفاقها” في هذا الصدد.
تدرك أعداد متزايدة من العاملين في الوسط الاعلامي والاكاديمي ضرورة توفر مناخ آمن للتفكير ونقاش المسألة الفلسطينية. كمبادرة “الإنصات لفلسطين” التي تأسست في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة تورونتو من قبل طلاب ومدرسين في أقسام مختلفة، لتأمين مساحة آمنة للمهتمين بتاريخ فلسطين وبمشاركة تجاربهم وأفكارهم دون تدخل جهات خارجية ودون ممارسة الرقابة الذاتية.
الرقيب يستنفر
ورداً على الرسالة، كتب موقع يدعى “هونيست ريبورتينغ كندا” (وهو موقع يعرّف عن نفسه بأنه يسعى للتأكد من وجود “تغطية عادلة ودقيقة في الإعلام الكندي لإسرائيل”) مادة ينتقد فيها البيان، طالب فيها بـ”توضيحات” من رؤساء وسائل الإعلام الكندية حول “انحياز موظفيهم”. داعياً إلى “عدم السماح لمن وقع على هذه الرسالة بتغطية الصراع العربي الإسرائيلي واتخاذ إجراءات تأديبية بحقّهم”.
يثير هذا الاستعداد لدى الموالين لاسرائيل، وافتراضهم لأحقيتهم وقدرتهم في إدارة تفاعل هذه الأوساط مع أحداث اليوم سؤالاً حارقاً حول فعالية النظام الديمقراطي في صون حرّية التعبير للمواطنين والصحفيين. لا يُفترض في البلاد الديمقراطية أن يجد الصحفي نفسه أمام مخاوف تولّدها الرقابة الذاتية على أفكاره ومواضيع عمله. قد يحصل هذا في ديكتاتوريات متوحشة وقمعية، مثل إيران أو سوريا أو السعودية..إلخ، ولكن من العار أن يخاف الصحفي وتُفرض عليه الرقابة في كندا أو ألمانيا أو بقية الدول الديمقراطية. السؤال حول حرية الصحافة والأكاديميا وتعاميهما عن القضايا العادلة هو سؤال ملحّ ويحتاج لإجابات واضحة.
ثمة ضرورة ملحّة في التحرر من هذه الوصاية، ومن أي وصاية أخرى سواها، فانحياز هذه المؤسسات “الأبيض” (البياض كمفهوم سياسي لا عرقي) ضد القضايا العادلة لا يُراكم في تاريخ العاملين فيها إلا ما يثير الخجل ويستدعي الاعتذار لاحقاً. الدعاية الإسرائيلية تتداعي وتفكك اليوم عبر مشاهد الانتهاكات التي تفقأ العين. هذه الانتهاكات موثقة عبر جهات محايدة وتحضر في الإعلام الاسرائيلي نفسه أيضاً. وقد دعا الإعلامي الاسرائيلي آزاف هاريل في برنامجه ذا لاست مونولوج الاسرائيليين إلى “مراجعة الذات والاعتراف بوجود نظام فصل عنصري”.
لن يتوقف هذا “الصراع المعقّد” ما دامت إسرائيل تتعامل بهذه العنجهية والغرور وتنكر حقوق الفلسطينيين. فالسلام مشروط بالعدالة والاعتراف بحقوق الفلسطينيين، الذين لا تستطيع إسرائيل محوهم، وسيواصلون مقاومة محاولات إنهاء وجودهم. ولا يمكننا اليوم، في البلاد الديمقراطية التي لجأنا إليها هرباً من الديكتاتوريات والميلشيات، تجاوز وجود قيود على حرية التعبير في مؤسسات مسؤولة عن نقل الحقيقة وجعلها جزءاً من التاريخ. يعقوب هو المسؤول اليوم عن تقديم إجابات حول سرقته للمنزل، لا من ينشر التسجيل الذي يوثق ذلك. إحساس الرقابة الذاتية إزاء ما يجري لا يجب أن يكون موجوداً لدى الصحفي الذي يعاين الانتهاك، بل لدى من قام بهذا الانتهاك، والذي يرفع عصا “معاداة السامية” في وجه الجميع ويراهن على سهولة انسحابهم من المواجهة. هذه القضية “الأكثر تعقيداً” في التاريخ المعاصر، كما يحلو لكثيرين القول، بإمكانها أن تكون أقل تعقيداً حين تدرك اسرائيل فداحة سياساتها العنصرية، وحين يعمل حلفاؤها على وقف هذه الانتهاكات، لا على محاولة جعلها مقبولة، فهذا ليس مُمكناً في عالم اليوم.